الرئيسية » هاني المصري »   26 كانون الأول 2009

| | |
الـمصالحة الوطنية صعبة ولكنها ليست مستحيلة
هاني المصري

بعد مرور حوالى عامين ونصف العام على وقوع الانقسام السياسي والجغرافي، وبعد فشل جميع الجهود والـمبادرات والـمناشدات الفلسطينية والعربية والدولية لإنهائه، اتسع معسكر الـمقتنعين بأن الـمصالحة الوطنية مستحيلة.

بعض أنصار هذا الـمعسكر يدعي أن الـمصالحة ستحدث في حالة واحدة، إذا تحولت فتح إلى حماس، وهذا مستحيل، أو إذا تحولت حماس إلى فتح، وهذا مستحيل أيضاً.

ويستند الـمتشائمون إلى أن هناك في الساحة الفلسطينية مشروعين متناقضين متوازيين لا يلتقيان، لكل منهما برنامجه وأيديولوجيته ومصالحه وتحالفاته العربية والإقليمية والدولية.

والـمتشائمون، وبعضهم لا تحركهم تقديراتهم وإنما مواقفهم ومصالحهم التي تدفعهم لـمعاداة الـمصالحة. فهناك أفراد وشرائح في الضفة الغربية وقطاع غزة اغتنت وازدادت نفوذاً وثروةً. وحصلت على مراكز ومكاسب من الـمستحيل أن تحصل عليها إذا عادت الوحدة الوطنية، وما لـم يقع الانقسام.

من جهتي أنا كنت ولا أزال أحد الذين يؤمنون بعمق بأن الـمصالحة الوطنية صعبة جداً ولكنها ممكنة وليست مستحيلة.

ولا أستند في وجهة نظري الـمتفائلة إلى رغبات وأحلام شاعرية أسقط فيها ما أريده على الواقع، بل إلى حيثيات وعوامل موضوعية وذاتية، فما الذي يجعل الـمصالحة الوطنية التي تبدو الآن بعيدة الـمنال ممكنة؟

أولا: إن فلسطين كلها تحت الاحتلال، والاحتلال استعماري إجلائي استيطاني عنصري عدواني يستهدف الأرض والحقوق والقضية، وهو يزيّف الـماضي ويصادر الحاضر والـمستقبل. والاحتلال لا يميز بين فلسطيني وآخر، بين فتح وحماس، بين معتدل ومتطرف، وإنما يستهدف جميع الفلسطينيين.

كما أن الاحتلال لا يقدم عرضاً لإنهاء الصراع والحل يقبله أو يمكن أن يقبله حتى أكثر الفلسطينيين اعتدالاً، لذلك فشلت عملية السلام واتفاق (أوسلو) وأعلن أبو مازن وصائب عريقات وغيرهم من أصحاب ودعاة خيار السلام واعتماد الـمفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع، وبعد ثمانية عشر عاماً على عقد مؤتمر مدريد للسلام أن السلام لـم يتحقق، وأن الـمفاوضات استخدمتها إسرائيل للتضليل والتغطية على سياسة خلق الحقائق الاحتلالية على الأرض التي تجعل الحل الإسرائيلي أكثر وأكثر هو الحل الوحيد الـمطروح والـممكن عملياً.

في هذا السياق، أعلن أبو مازن عن وقف الـمفاوضات ورفض استئنافها إذا لـم يتم تجميد الاستيطان تجميداً تاماً، والاتفاق على مرجعية واضحة وملزمة لعملية السلام.

إن تعنت إسرائيل وعدم جهوزيتها للسلام وإفشالها كافة الجهود والـمبادرات الرامية لتحقيق السلام يشكل عاملاً هائلا يضغط على الفلسطينيين من أجل التوحد، ويجعل الوحدة ضرورة وليست مجرد خيار من الخيارات.

ثانياً: إن خيار الخلاف الـمفتوح والانقسام جرب وفشل، وهذا يفتح طريق الوحدة.

فبعد تأسيس حركة حماس العام 1987 حاولت أن تهدم منظمة التحرير أو أن تشكل منظمة تحرير بديلة أو موازية، ولكنها فشلت لأنها اصطدمت بموقف دولي وعربي يرفض إنهاء الـمنظمة وإقامة منظمة بديلة، وواجهت "حماس" حقيقة أن جذور وعوامل بقاء واستمرار الـمنظمة قوية رغم كل أشكال التراجع والوهن التي ألـمت بها، وتحديداً منذ انهيار التضامن العربي بعد احتلال العراق للكويت، وبعد انهيار الـمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي.

فبعد 18 عاماً على تأسيسها، بدأت حركة حماس مسيرة نحو الانضمام إلى (م.ت.ف) ويمكن اعتبار (إعلان القاهرة) في آذار من العام 2005 بداية هذه الـمسيرة. ولقد تأكد هذا الاتجاه، بمشاركة حماس بالسلطة عبر مشاركتها بالانتخابات الـمحلية والتشريعية (في عامي 2005، 2006)، وفي التوقيع على وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) وفي (اتفاق مكة) وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وإسهامها في حوار القاهرة العام 2009 الذي أدى إلى الاتفاق على العديد من النقاط التي كانت محل خلاف جوهري في السابق.

ثالثاً: التوافق على برنامج (م.ت.ف) برنامج إنهاء الاحتلال والعودة وتقرير الـمصير وإقامة الدولة الفلسطينية الـمستقلة وعاصمتها القدس على حدود 1967، وهذا يشكل أحد أهم العوامل التي تدعو للاعتقاد بإمكانية إنجاز الـمصالحة الوطنية رغم العوائق الضخمة التي تعترضها. فحماس الآن توافق على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، بوصفها برنامج الحد الأدنى الوطني الـمشترك. صحيح أن هذه الـموافقة مترددة وضعيفة وترسل قيادات حماس رسائل مختلفة حولها، ولكن هذا الـموقف يترسخ أكثر وأكثر، ويزيل أهم نقطة من نقاط الخلاف بين الاتجاهين الوطني العلـماني، والوطني الإسلامي.

رابعاً: عودة فتح، كما ظهر أثناء مؤتمرها السادس إلى التأكيد على ضرورة بقاء كافة الخيارات والبدائل الأخرى، خصوصاً خيار الـمقاومة الـمشروعة بكافة أشكالها، لتصنع حداً بذلك لخيار اعتماد الـمفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع. صحيح أن هذه العودة مرتبكة ولـم تترجم عملياً، في ظل استمرار سياسة وقف الـمقاومة والتنسيق الأمني والالتزام بخارطة الطريق من جانب واحد، ولكنها تدل على أن الطريق مفتوح وليس مغلقاً، هذا الأمر الذي ترافق مع إدراك متزايد لدى حماس لأهمية العمل السياسي والدبلوماسي والـمفاوضات دون التخلي عن خيار الـمقاومة، بما فيها الكفاح الـمسلح. وتجلى هذا الـموقف الجديد عند حماس بعدة مؤشرات أهمها الاستعداد، كما ورد في وثيقة الوفاق الوطني، لتفويض الرئيس ومنظمة التحرير بالتفاوض باسم الشعب الفلسطيني، على أن يعرض ما يتم الاتفاق عليه على استفتاء شعبي أو على الـمجلس الوطني بعد تشكيله الجديد.

وأبرز تجليات التقارب تظهر أمنياً في أن حماس عقدت منذ العام 2003 أكثر من تهدئة مع الاحتلال، وتبدي استعدادها للتوصل إلى حل يقوم على هدنة طويلة الأمد، وهي الآن في تهدئة من تحت الطاولة بعد عملية الرصاص الـمصبوب أدت إلى هدوء نسبي على جبهة قطاع غزة مع إسرائيل.

خامساً: وصول الانقسام إلى نتائج كارثية على الفريقين يدفع نحو الوحدة. فالضفة الغربية لـم تقدم نموذجاً مثل سنغافورة، واستمر العدوان والاستيطان والجدار وتقطيع الأوصال والاعتقالات والحواجز ونهب الأرض والـمياه. كما أن التحسن الاقتصادي والأمني الداخلي بدا كثمن بخس مقابل للثمن الفلسطيني الكبير.

 

الذي يظهر من خلال وقف المقاومة وتحوير طبيعة الصراع، بحيث أصبحت الضحية مطالبة بإظهار حسن السلوك وإثبات الجدارة حتى تحصل على حقها الطبيعي بتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية.

 

كما انتهكت السلطة في الضفة حقوق الانسان والحريات العامة، كما يظهر في القيود على التحركات الشعبية وإغلاق المؤسسات والاعتقالات الواسعة، والتي يتخللها تعذيب أدى الى سقوط عدد من القتلى داخل السجون الفلسطينية.

 

والحال في قطاع غزة، ليس احسن بل أسوأ على عدة أصعدة. فالحصار الخانق مستمر ما أدى الى انتعاش اقتصاد الانفاق، والعدوان متربص في القطاع ويمكن أن يتجدد في اية لحظة، خصوصا بعد أن حقق الردع الإسرائيلي نجاحا ملحوظا يظهر بوقف إطلاق الصواريخ، رغم الصمود العظيم الذي جسده شعبنا في القطاع بقيادة حركة حماس التي لم ترفع الراية البيضاء رغم الدمار والخسائر الفادحة.

 

كما أن الانتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة وصلت الى حد مقلق للغاية بعد قتل 27 شخصا وإطلاق الرصاص على أرجل المئات، والاستمرار في حملة الاعتقالات، والوصول الى حد تقييد السفر والتدخل في الملابس والاختلاط بين الجنسين ما يؤجج الانقسام في مجالات لا داعي للدخول فيها على الاطلاق.

 

إن الانقسام يجعل الأطراف الفلسطينية الـمتصارعة ضعيفة أمام الأطراف الـمتحالفة معها والتي تقدم لها الـمساعدات الـمختلفة ما يزيد من تأثير العوامل الخارجية على القرار الفلسطيني.

كما أن الاحتلال يوظف الانقسام إلى الحد الأقصى لابتزاز الأطراف الفلسطينية ودفعها لإرضائه. بحيث طغى الصراع على السلطة على كل شيء، وتراجع الخلاف على مختلف القضايا إلى الخلف.

السؤال الذي يطرح نفسه هو... إذا كانت الأسباب التي تدعو إلى الوحدة قوية إلى هذا الحد، فلـماذا لا تتم الوحدة؟

لا تتم الوحدة لأن فتح في وعيها ولا وعيها غير مستعدة حتى الآن أن تقبل شريكاً لها في الحكم بعد عشرات السنين من سيطرتها شبه الـمطلقة على القيادة الفلسطينية. وفي ظل صراعات فتح بين أجنحتها الـمختلفة، التي تراجعت نسبياً بعد الـمؤتمر السادس، وغياب بنية تنظيمية صلبة، ورحيل الرئيس ياسر عرفات، وتعددية البرامج التي تتنازعها، والـمصالح الكبيرة التي نمت لأفراد جعلتها ترتبط بالسلطة وتتمترس وراء إقرار شروط اللجنة الرباعية والاتفاقيات التي عقدتها الـمنظمة مع إسرائيل والالتزامات الـمترتبة عليها، كشرط من شروط تشكيل أية حكومة وحدة وطنية تشارك فيها حركة حماس.

إن ما سلف مطلب تعجيزي، لأن حماس إذا كانت مستعدة للاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف (أي الـمقاومة) والتقيد بالاتفاقيات عندها لن تكون بحاجة لوساطة مصرية، ولا لحوار داخلي، بل تستطيع أن تذهب مباشرة إلى واشنطن وتل أبيب وستُفرش لها السجادة الحمراء، وستَشرب من الكأس نفسها التي شربت منها حركة فتح بعدما اعترفت بإسرائيل ولـم تحصد سوى الريح.

ويفترض بمنظمة التحرير أن تراجع موقفها من الاعتراف بإسرائيل والاتفاقيات لأن إسرائيل لـم تعترف بالحقوق الفلسطينية وتجاوزت كل الاتفاقات. إن هذا يفرض أن يكون الاعتراف الفلسطيني وتطبيق الالتزامات متبادلاً ومتزامناً وليس من طرف واحد، كما هو قائم حالياً.

لا تتم الوحدة أيضاً لأن حماس تعتقد في وعيها ولا وعيها بأن فتح العلـمانية الـمفرطة بالحقوق والـمتحالفة مع الأعداء التقليدين للإخوان الـمسلـمين الذين تشكل حماس امتداداً لهم، غير مؤهلة للاستمرار في قيادة الشعب الفلسطيني. وأقصى ما أظهرته حماس من استعدادات هو القبول بمشاركة فتح كمرحلة أولى على طريق هيمنة حماس على القيادة. لذلك فضلت حماس السيطرة الانفرادية على قطاع غزة على أن تكون شريكاً شراكته غير مضمونة في الضفة بسبب أن الاحتلال هو اللاعب الرئيس هناك.

إن مفتاح إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، يكمن:

أولا: في إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني بما في ذلك إلى الـمقاومة الـمثمرة، والجمع بين الـمقاومة والـمفاوضات بعد استخلاص الدروس والعبر من التجارب الـماضية، وعلى أساس يجعل الـمنظمة والسلطة تستندان إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، التي لا تتضمن اعترافاً مجانياً بإسرائيل.

ثانياً: إقامة شراكة وطنية تعطي لكل ذي حق حقه، وتكرس الأسس الديمقراطية بعيداً عن الهيمنة والتفرد والإقصاء والتخوين والتكفير وعلى أساس الاحتكام للشعب بشكل دوري واحترام التعددية والتنوع والـمنافسة.

إن هناك مشروعين، ولكنهما متناقضان من جهة، وملتقيان في العديد من النقاط من جهة أخرى، ويمكن إذا توفرت الإرادة لتغليب الـمصالح الوطنية والقواسم الـمشتركة على الـمصالح الفردية والفئوية والبرامج الخاصة أن تنتصر الوحدة على الانقسام. وفوائد الوحدة على الجميع كبيرة جداً، أكبر بكثير من فوائد الانقسام التي تطال بعض الأفراد والشرائح فقط.

 

مشاركة: