الرئيسية » هاني المصري »   28 شباط 2012

| | |
تركيا الصّاعدة، إلى أين؟
هاني المصري

 

لا يخرج الزائر لتركيا بنفس الانطباع الذي كان يحمله قبل الزيارة، لأن تركيا في الواقع مختلفة عن تركيا التي نسمع عنها في أجهزة إعلامها، أو من الأخرين الذي اهتموا بعرض وتقييم ما يجري في تركيا منذ أن فاز حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان في الانتخابات في عام 2002.

يكفي أن يعرف المرء أن الاقتصاد التركي قد تضاعف خلال هذه الفترة أربعة أضعاف، بحيث انتقلت تركيا من حال إلى حال، واحتلت مقعد الدولة السابعة عشرة من دول العالم من حيث قوة اقتصادها.

ويطمح أردوغان ورفاقه بأن تحتل المقعد العاشر خلال السنوات القادمة في الاقتصاد العالمي. لمعرفة واقعيّة هذا الطموح، يكفي أن نعرف أن حجم التجارة التركيّة خلال العام الماضي بلغ حوالي 300 مليار دولار، معظمها بضائع تصدرها تركيا إلى مختلف بلدان العالم.

بتنسيق من السفير المتميز نبيل معروف، قام وفد إعلامي فلسطينيّ بزيارة إلى تركيا، التقى فيها بمعظم القيادات والقطاعات، إن لم يكن أحيانا بالمستوى الأول؛ نظرًا لمرض رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، أو لسفر وزير الخارجيّة أحمد داود أوغلو، إلا أننا التقينا بالرئيس التركي، وبرئيس البرلمان، ووزير الاقتصاد، وسكرتير عام حزب العدالة والتنمية، وآخرون.

الملاحظة الأهم التي يمكن أن يخرج بها الزائر الفاحص لتركيا، أن سر تقدم تركيا المذهل خلال فترة وجيزة هو تركيزها على الإنسان أولًا، ومصلحة تركيا ثانيًا، بعيدًا عن العقائد والأيديولوجيات، وقيامها ثالثًا بإجراء إصلاحٍ سياسيٍّ جوهريٍّ، واتحادٍ جمركيٍّ مع الاتحاد الأوروبي دون إهمال الاتجاه نحو الشرق الأوسط، خصوصًا بعد انسداد أبواب انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة على الأقل.

طبعًا لا يمكن إسقاط أهميّة وجود زعامة واعية طموحة مؤمنة بقدرة تركيا على أخذ مكانها في العالم، وأهميّة الاعتدال والبراغماتيّة اللذين يميزان كل شيء على الأقل خلال السنوات الأولى التي رُفِع فيها شعار صفر أزمات مع الدول المجاورة، ونجح نجاحًا باهرًا، إلى أن جرت أحداث التاريخ، وجرى ما جرى مع إسرائيل وسوريا والعراق وإيران.

حزب العدالة والتنمية، الذي ولد من رحم حزب إسلامي، أصبح يفصل ما بين الدين والدولة، ويعرّف نفسه بأنه حزب ديمقراطيّ محافظ. فعلى سبيل المثال، لم نجد في كل المؤسسات والوزارات التي زرناها امرأة محجبة واحدة بالرغم من أن الشعب التركي صوت بأكثر من نصف أصواته لحزب العدالة الذي حصل على ثلثي المقاعد النيابيّة، مع أن أكثر من نصف نساء تركيا محجبات، ولكن نسبة المحجبات في المجتمع أكبر من نسبتهن في حزب العدالة التنمية. هذا في بلد يوجد فيه 200 ألف جامع، ولكن الدين ليس قيدًا على التقدم، وإنما يمكن أن يكون دافعًا له إذا عرفنا أن نجعل ما لله لله، وما للفرد والوطن لهما.

تركيا تريد أن تتحرك في كل الاتجاهات حتى تحقق طموحها، فهي عضو في حلف الناتو، وترتبط بعلاقات متنوعة اقتصاديّة وعسكريّة وأمنيّة مع إسرائيل، ولكنها وصلت إلى حد تجميد العلاقات الدبلوماسيّة مع إسرائيل بعد الاعتداء الوحشي الإسرائيلي على سفينة مرمرة التي ذهب ضحيتها تسعة شهداء أتراك، ما أدى إلى توتر العلاقات الإسرائيليّة – التركيّة، وإلى وضع ثلاثة شروط لإعادة العلاقات إلى طبيعتها، وهي: الاعتذار، والتعويض، ورفع الحصار عن غزة، ولم تستجب الحكومة الإسرائيليّة لهذه الشروط بالرغم من الأصوات الإسرائيليّة الكثيرة التي طالبت حكومة نتنياهو بالاستجابة لها، ولكنها حكومة حمقاء قابلت هذه الدعوات "بأذن من طين وإذن من عجين".

بالرغم من أن هذا الحادث الذي أدى إلى تراجع في العلاقات التركيّة – الإسرائيليّة على كل المستويات والأصعدة، إلا أنّ هذه العلاقات لا تزال قويّة ومميزة، ويحرص الجانبان إلى عدم وصولها إلى نقطة اللاعودة.

وتركيا صاحبة نظريّة وزير خارجيّتها صفر أزمات (مشاكل) في علاقاتها مع جيرانها، تجد نفسها الآن في توتر مع عدد من جيرانها بعد المتغيرات العربية والإقليمية، خصوصًا مع سوريا التي جمدت العلاقات معها في ظل التعامل الأمني للنظام السوريّ مع الثورة الشعبيّة، وعدم التجاوب مع النصائح التركيّة بإجراء إصلاحات، فكادت الحكومة التركية أن تقطع "شعرة معاوية" مع النظام السوري خلافًا لسياستها التي حافظت على علاقات مع كل الأطراف في كل الظروف، ما أعطاها سابقًا القدرة على التأثير، والآن أفقدها قطع العلاقة مع النظام السوري الكثير من القدرة على التأثير. ويلاحظ المرء أن تركيا التي بدت منذ فترة سابقة مندفعة نحو التدخل المباشر فيما يجري في سوريّا تراجعت خطوات إلى الوراء.

وحرصت القيادة التركيّة على التأكيد أنها ليست بوارد التدخل العسكري، ولكن صحافيًا مخضرمًا يعمل في تركيا قال لي: إن تركيا يمكن أن تتدخل عسكريًّا إذا وجدت غطاء عربيًّا ودوليًّا للتدخل العسكري، وإذا وصل عدد المهاجرين السوريّين إلى تركيا إلى 100 ألف مهاجر، فتركيا وفقًا لهذا الصحافي لا يمكن أن تكون غير مباليّة فيما يجري في سوريا، ليس لأسباب تتعلق بالأخلاق والديمقراطيّة والدفاع عن حقوق الإنسان فقط، بل لأن ما يجري في سوريا يمكن أن ينعكس سلبيًاعلى جيرانها، وخصوصًا تركيا.

فالنظام السوريّ أخذ يلعب بورقة الأكراد، وهذا أدى إلى نشاطٍ عسكريٍّ أكبر لحزب العمال الكردستاني المناهض للحكومة التركيّة. كما أن هناك 2.5 مليون علوي عربيّ أكثر من ثلثهم "شبيحة" وفقًا لما يعتقده الصحافي، لهم عمق يصل إلى 20 مليون علوي تركي.

المسؤولون الأتراك قالوا لنا ردًا على أسلئتنا: إنهم يحرصون على تمييز موقفهم عن موقف إسرائيل والولايات المتحدة الأميركيّة وبعض الدول العربيّة، إلا أن هذا التمييز بحاجة إلى تعميق ووضوح، لأن سوريّا تشهد ثورة وثورة مضادة، وخلافات داخل المعارضة بين من يريد التدخل العسكري الدولي ويستدعيه ويلعب على نار الطائفيّة ويراهن على عسكرة الثورة، وبين من يريد حلًا وسطًا أو شبيهًا لما جرى في اليمن.

إن تركيا وكل الأطراف المحليّة السوريّة والخارجيّة يجب أن تفكر في مخرج للوضع المأساوي المفتوح على احتمالات مأساويّة أسوؤها التقسيم وحرب أهليّة طويلة، لأن الوضع في سوريا بلا أفق لحل قريب، وهذا يحتاج إلى دور تركي فاعل يُبقي على شعرة معاوية مع النظام، ويدعم عمليّة سياسيّة للتغيير لا تضع النظام أمام خيار واحد شمشوني يهدم المعبد على من فيه.

لا يمكن تغطية ما يجري في سوريا بمقال واحد، فالأمر بحاجة إلى أكثر من مقال، وخير ما أختم به هذا المقال: إن المرء يلاحظ أن القضيّة الفلسطينيّة قضيّة تركيّة، ومحل تأييد سياسيّ وعاطفيّ من 98% من الشعب التركيّ، وهذا يفتح أفقًا رحبًا للتعاون الفلسطينيّ العربيّ التركيّ على أساس المصالح المتبادلة والمشتركة دون هيمنة، ولكن هذا بحاجة إلى شريك عربي ومشروع عربي موحد بعيدًا عن الهيمنة الخارجية والتبعية، وهذان مفقودان حتى الآن، نأمل أن تستطيع الثورات العربيّة إيجادهما، فقد طال انتظارهما.

على تركيا أن تحافظ على مسافة أكبر عن السياسة الأميركية والإسرائيلية، وألا تجعل حاجتها للانضمام للاتحاد الأوروبي تطغى على حاجتها للعب دور مستقل في المنطقة، خصوصًا في دول الجوار. فأي مخرج للمنطقة لا بد وأن يرتكز إلى مشروع يجمع ما بين العرب ودول الجوار في مواجهة المخططات الخارجية التي تهدف إلى إبقاء المنطقة أو إعادتها إلى عهد التخلف والتجزئة والتبعية والفقر لتبقى مستباحة من كل ذوي الأطماع بها وبثرواتها وبموقعها الإستراتيجي.

Hanimasri267@hotmail.com

 

مشاركة: