المبادرة السياسية التي أطلقها القطاع الخاص تحت عنوان "مبادرة القطاع الخاص من أجل فلسطين"، مبادرة مهمة على مختلف الصعد، من حيث التوقيت والمضمون والأهداف. إلا أن هذه المبادرة المهمة لم تأخذ الاهتمام الذي تستحقه وأخشى، إذا لم تتابع أن تتحول إلى مجرد صرخة في واد، ينتهي تأثيرها بانتهاء الصدى المباشر الذي أحدثته.
فالمبادرة مهمة لأنها مقدمة من القطاع الخاص الذي يشكل شريكاً أساسياً وكاملاً مع السلطة الوطنية ومع القطاعات غير الحكومية والشعبية من أجل إنهاء الاحتلال، وتجسيد العودة والحرية والاستقلال.
فالقطاع الخاص يشكل ثلثي الناتج الإجمالي الفلسطيني، ويوظف نحو ثلثي العمالة الفلسطينية. فالمبادرة تعتبر مهمة، لأنها المرّة الأولى، على ما أعتقد، الذي يتحرك فيها القطاع الخاص بصورة جماعية، ويقدم مبادرة سياسية تعكس المصلحة الوطنية العليا والقواسم المشتركة، وهذا يعكس أن القطاع الخاص يستشعر الخطر المحدق في القضية الفلسطينية بعد الإجراءات التي اتخذها المجتمع الدولي لمقاطعة الحكومة الجديدة، وقطع المعونات عن الشعب الفلسطيني، وتجميد تنفيذ المشاريع التنموية. فالاستمرار بتنفيذ تلك الإجراءات سيقود إلى شل قدرة السلطة عن دفع رواتب موظفيها، وإلى توقف خدماتها الحيوية وانهيارها، وإلى حدوث تدهور اقتصادي شامل. فالقطاع الخاص، رغم دوره التاريخي المهم، متردد وخجول في الخوض في السياسة وهذه نقطة عكسية.
والمبادرة مهمة من حيث توقيتها كونها طرحت عشية انطلاق الحوار الوطني ووسط الأزمة الشاملة التي يشهدها النظام الفلسطيني والتي تعبّر عن نفسها في الاختلاف الواضح في البرامج السياسية بين الرئيس والحكومة، والتنازع الصارخ على الصلاحيات بينهما، والذي يهدد بإيجاد حالة من ازدواج السلطة، أو السلطة برأسين التي يمكن أن تقود إذا لم تتم معالجتها إلى الصدام الداخلي، وربما إلى الحرب الأهلية وسيادة حالة من الفوضى والفلتان الأمني بصورة كاملة. فأن يدلي القطاع الخاص بدلوه مهم، لأن الرئاسة والحكومة والفصائل بدون استثناء أدلوا بدلوهم بدون أن يجدوا حلاً للأمة. الحاجة الآن ماسة لأن يتدخل القطاع الخاص بكل قوته، ولأن يتدخل القطاعان الأهلي والشعبي، فالوقت من دم والتاريخ لا يرحم كل من يتقاعس عن القيام بدوره وواجبه الوطني وعلى أحسن وجه، وبأقصى ما يمكنه.
ولا يكفي أن يقدم القطاع الخاص مبادرة، فهذا تسجيل موقف مهم، ولكن الوضع الفلسطيني بحاجة إلى إنهاء الأزمة أو الحدّ منها، وهذا يستدعي تحركاً عاجلاً ومستمراً ومنظماً من القطاع الخاص، يرفق مع التمني والمناشدة والطلب القليل أو الكثير من الضغوط على جميع الفرقاء، خصوصاً حركتي "فتح" و"حماس". فإذا لم يدرك الجميع، أن مصلحة الوطن فوق وأكبر وأهم من مصلحته الخاصة، وان البرنامج الوطني أقدر من البرامج الحزبية والفصائلية، على تحقيق الأهداف الوطنية، لا يمكن أن نتجاوز الأزمة، بل ستتفاقم أكثر وأكثر، ونصل إلى الكارثة الوطنية، وعندها سنندم وقت لا ينفع الندم.
الأهمية الكبرى لمبادرة القطاع الخاص، تكمن في مضمونها، فهي تضمنت ثلاثة أركان: برنامج إجماع وطني، حكومة ائتلاف وطني، إصلاح المنظمة. وعند التدقيق في بنود المبادرة، سنجد أنها لم تنحز تماماً لأي برنامج بل جسدت القواسم المشتركة إلى حد كبير.
فالمبادرة أكدت أهمية برنامج سياسي شامل يحظى بالإجماع الوطني وينسجم مع قرارات الأمم المتحدة، والمبادرة العربية، ويشكل مرجعية للتحرك السياسي الفلسطيني لإنهاء الاحتلال، وتجنبت عن قصد الإشارة إلى مجمل قرارات الشرعية الدولية، وإلى "خارطة الطريق"، وإلى الاتفاقات الموقعة بين إسرائيل و"م.ت.ف"، وإلى المفاوضات لأنها تدرك أن هذه النقاط تشكل مواضيع خلافية، بين الفصائل والفعاليات المختلفة، وبين الرئيس والحكومة. ولكنها مع ذلك أشارت بوضوح إلى ضرورة تبني مبادرة السلام العربية، لأنها أرضية الإجماع العربي والشرعية العربية، ولا يمكن أن تشذ الشرعية الفلسطينية عن الشرعية العربية.
وأعطت مبادرة القطاع الخاص، أولوية للتصدي للمشروع الإسرائيلي لرسم الحدود وفرض حل من جانب واحد، لأنه المشروع الذي يتوحد الفلسطينيون من أجل إسقاطه قبل أن يتحول أمراً واقعاً، من الصعب إذا لم يكن من المستحيل إسقاطه.
وتناولت المبادرة جوانب مختلفة تتعلق بالتمسك بالطابع الديمقراطي التعددي للسلطة والمنظمة، وأكدت أهمية الحوار ونبذ العنف، ومواصلة مسيرة الإصلاح للسلطة، والشروع في اصلاح المنظمة وتطوير تمثيلها وبنيتها بما يستجيب وطبيعة المرحلة ومستجداتها.
ولقد شرّفني منيب المصري وهو الشخصية الوطنية البارزة، وأحد المبادرين لطرح مبادرة القطاع الخاص، بالمشاركة في أحد اللقاءات التي سبقت بلورة المبادرة بصيغتها النهائية، وشاهدت بأم عيني، كيف أن رجال الأعمال الفلسطينيين، المنغسمين كلياً بالاقتصاد والمشاريع، يفهمون سياسة بصورة جيدة، لأنهم يدركون بلا شك أن السياسة اقتصاد مكثف. ولاحظت أن خريطة الأداء داخل القطاع الخاص شبيهة إلى حد ما بخريطة الألوان والقوى الموجودة في الساحة الفلسطينية. وبالتالي الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه المبادرة هو: إذا كان بمقدور القطاع الخاص وهو يمثل الاجتهادات المتنوعة الموجودة في الخريطة السياسية الفلسطينية أن يتوصل إلى مثل هذه المبادرة المشتركة، فلماذا لا تضع كل الأطراف هذه المبادرة كأرضية يستند إليها الحوار الوطني القادم؟ هذا الحوار إذا لم يستند إلى أرضية تجسد القواسم المشتركة، فهو إما لن يقلع، أو سيبقى أشبه بحوار الطرشان، أو سيواجه الفشل الذريع، الذي لن يستفيد منه أي طرف فلسطيني. فالاحتلال هو المستفيد الوحيد من غياب إرادة سياسية فلسطينية واحدة وطنية وواقعية، وقادرة على التحرك الفاعل سواء في مجال حشد كافة القوى والإبداعات والكفاءات الفلسطينية في مجرى واحد، أو في مجال الحصول على أقصى دعم عربي وإسلامي ودولي للقضية الفلسطينية.