المؤتمر السنوي السادس |

فلسطين ... رؤى إستراتيجية سياساتية


يكتسب المؤتمر السنوي لمركز مسارات هذا العام أهمية استثنائية كونه يعقد في لحظة فاصلة بين مرحلتين؛ مرحلة اتفاق أوسلو التي وصلت إلى طريق مسدود، ومرحلة التحول باتجاه بلورة إستراتيجية سياسية ونضالية قادرة على تغيير المسار السابق، وإعادة إحياء القضية الفلسطينية، وإحباط خطط وسياسات تعميق الاحتلال والضم والاستيطان الاستعماري.

تميزت مرحلة أوسلو بالاعتماد على إستراتيجية سياسية ديبلوماسية ترى أن المفاوضات هي الأسلوب الوحيد أو الرئيسي للتوصل إلى تسوية، وما يقتضيه ذلك من اعتماد على إثبات الجدارة وبناء المؤسسات والبرهنة على أن السلطة الفلسطينية بمقدورها أن تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة وعالم مضطربين بشكل مفتوح على احتمالات عدة، مع الرهان على المجتمع الدولي والولايات المتحدة كوسيط.

هذه المرحلة لم تحقق الحقوق الفلسطينية ولا السلام، بل أصبحت المنطقة أبعد عنه في ظل خضوع إسرائيل أكثر فأكثر لتحكم الأحزاب والجماعات اليمينية واليمينيّة المتطرفة الرافضة لأي تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية التي يكفلها القانون الدولي وتؤكد عليها قرارات الأمم المتحدة، بل أحيت بدلًا من ذلك خطة إقامة "إسرائيل الكبرى"، وما تقتضيه من تسريع تنفيذ خطط وسياسات تعميق الاحتلال والضم وتوسيع الاستيطان وتقطيع الأوصال والفصل والتمييز العنصري والتهجير القسري والقتل والمجازر.

وجراء ما تقدم، أصبح الشعب الفلسطيني اليوم أبعد عن إنجاز الحقوق الوطنية التي تشمل ممارسة حق تقرير المصير كحق جمعي للفلسطينيين أينما تواجدوا، وحق عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم، والمساواة الفردية والقومية لشعبنا في أراضي ٤٨، بما يتضمنه ذلك من إنهاء الاحتلال وتجسيد السيادة والاستقلال الوطني للدولة الفلسطينية التي اعترف بها العالم كدولة بصفة مراقب، في وقت تعمل فيه حكومة إسرائيل كل ما تستطيعه لمنع تجسيدها وفتح الأبواب أمام فرض سيناريوهات "الوطن البديل" على حساب الأردن، والضم والحكم الذاتي، والإمعان في فصل القضية عن الشعب والأرض، وفصل القطاع عن الضفة الغربية، مع تقسيمها إلى تجمعات ومعازل منفصلة بدون هدف واحد، ولا رؤية واحدة، ولا مؤسسة وطنية جامعة.

ورغم أن مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال، بما فيها الكفاح المسلح، حق تكفله قواعد وأحكام القانون الدولي، إلا أن إستراتيجية الكفاح المسلح كأسلوب وحيد، والرهانات على متغيرات وأطراف عربية وإقليمية، وصلت إلى طريق مسدود. وبات يبدو أن الدور الرئيسي للمقاومة المسلحة ينحصر في الحفاظ على السلطة، في حين جرى تبرير المشاركة في السلطة بحماية المقاومة، دون أن ينتقص ذلك من نماذج الصمود والبطولة التي جسدها قطاع غزة في مواجهة العدوان الذي أخذ شكل الحروب التدميرية ثلاث مرات، واستمرار فرض الحصار المشدد منذ سنوات طويلة على مليوني فلسطيني.

في ضوء هذا المأزق، يقف الفلسطينيون اليوم على أعتاب نقطة تحول إستراتيجي، حيث أصبح المطلب الفلسطيني، الذي يكاد أن يكون جماعيًا، يشدد على ضرورة مراجعة التجارب السابقة واستخلاص العبر والدروس، وبلورة إستراتيجية سياسية ونضالية قادرة على تغيير المسار ووقف حالة التدهور، إلى درجة تردد صدى هذا المطلب بقوة في خطاب الرئيس محمود عباس الأخير من على منصة الأمم المتحدة، لا سيما بدعوته إلى اعتماد برنامج سياسي جديد في دورة المجلس الوطني القادمة التي يفترض أن تعقد قبل نهاية العام.

إن من أهم متطلبات نجاح الإستراتيجية الجديدة ضرورة أن تقطع الصّلة مع الإستراتيجية المعتمدة منذ ما قبل اتفاق أوسلو وحتى اليوم؛ بمعنى أن لا تصبح الإستراتيجية البديلة بروافعها وأدواتها المتعددة مجرد أدوات ضغط لإحياء ما يسمى عملية السلام وتحسين شروطها، وإعادة إنتاج المسار السابق. فهذه العملية ماتت منذ زمن طويل، والحكومات الإسرائيلية تستخدمها للتغطية على ما تقوم به من فرض وقائع تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليا، بحيث لم يعد هناك جدوى من محاولات إحيائها.

الفلسطينيون بحاجة إلى عملية سياسية جديدة شرط انطلاقها ونجاحها أن تكون مرجعيتها واضحة وملزمة منذ البداية، ملتزمة بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بحيث يتم التفاوض من أجل تطبيقها وليس إعادة التفاوض عليها. نعم، حان وقت تغيير قواعد اللعبة السياسية، وتوفير متطلبات هذه العملية من خلال التركيز على إحداث تغيير في موازين القوى وجعل المشروع الاستعماري الاحتلالي الاستيطاني العنصري مكلفًا لإسرائيل ومن يدعمها، ووقف ما تقوم به الإدارات الأميركية المتعاقبة من جعل إسرائيل دولة فوق القانون الدولي ومحمية من المساءلة والمحاسبة.

يهدف المؤتمر السنوي السادس لمركز مسارات إلى مواصلة إسهامه في النقاش الدائر حول الأهداف الوطنية الفلسطينية القابلة للتحقيق في هذه المرحلة، وخطة العمل القادرة على تحقيقها، مع الحذر من وضع مهمات وأهداف أقل أو أكثر مما يمكن تحقيقه. فالسبب الرئيسي الذي يقف وراء فشل "اتفاق أوسلو" وعدم قدرته على إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية يرجع إلى المراهنة على إمكانية قبول إسرائيل بتسوية متوازنة دون تغيير في موازين القوى. وفِي هذا السياق، لا بد  أيضًا من التحذير من اعتبار إطلاق شعار الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية هو البديل أو الخيار الممكن التحقيق دون تغيير أكبر في موازين القوى.

وبالتالي، إذا لم يكن هناك حل على الأبواب، سواء الدولة الفلسطينية أم الدولة الواحدة أم غيرهما من الحلول التي تلبي الحقوق الفلسطينية، فلا بد من اعتماد إستراتيجية تقوم أولًا على السعي للحفاظ على القضية والمكاسب، وأهمها منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الكيان الوطني والمرجعية السياسية والممثل الشرعي الوحيد، ما يستدعي إعطاء أولوية لإعادة بناء مؤسساتها واعتماد ميثاق وطني وبرنامج سياسي مشترك، بما يحافظ على الحقوق التاريخية والوطنية، ويضمن حقوق الإنسان وحرياته والمساواة بين الفلسطينيين، ويوفر مقومات الصمود والتواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين، ويعزز ما يجمع الفلسطينيين، وهو أكبر مما يفرقهم، كما يلحظ الظروف الخاصة التي تعيشها التجمعات الفلسطينية المختلفة، وما تقتضيه من أشكال عمل ونضال مختلفة. وتقوم هذه الإستراتيجية ثانيًا على إحباط المخططات والخيارات الإسرائيلية، وثالثًا تغيير موازين القوى بما يسمح بالتقدم على طريق تحقيق الحقوق الوطنية.

سوف يبحث المؤتمر مستقبل القضية الفلسطينية في ظل تطورات وتحديات الصراع وواقع التجزئة، والخيارات الإستراتيجية وسياسات العمل الوطني، وعلى رأسها خيارات ومتطلبات إعادة بناء الوحدة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية ومشاركة سياسية حقيقية، خصوًصا بعد التطورات الإيجابية الأخيرة على هذا الملف، إضافة إلى مستقبل السلطة في ضوء ما يطرح من سيناريوهات تتراوح ما بين الانهيار، والحل، والإبقاء على الوضع القائم، وإعادة النظر في شكلها ودورها ووظائفها. كما يطمح إلى تقديم توصيات واقتراحات تحول دون فشل هذه التجربة الجديدة مثلما حدث مع سابقاتها.

وسيتوقف المؤتمر أمام تحديات العمل السياسي في أراضي ٤٨، والمشروع الوطني الفلسطيني، ومتطلبات إعادة بناء الحقل السياسي الوطني، وتحديات ومقومات النهوض الوطني، إضافة إلى المبادرات وأشكال العمل الجديدة في الفضاء الثالث.

وتزداد أهمية المؤتمر من كونه يأخذ شكلًا جديدًا من خلال دعوة قادة الصف الأول لتقديم رؤاهم الإستراتيجية وخطة العمل التي يسيرون عليها أو يقترحون الأخذ بها، إضافة إلى مفكرين/ات وباحثين/ات وسياسيين/ات وناشطين/ات من مختلف التجمعات وألوان الطيف الفكري والسياسي والاجتماعي سوف يشاركون في نقاشات على شكل جلسات طاولة مستديرة، لطرح أفكار جديدة يؤمل أن تساهم في بلورة الرؤية الوطنية الشاملة، والإستراتيجية الوطنية الفلسطينية، وسياسات العمل الوطني المطلوبة للمرحلة القادمة، في ظل التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية.