أم ناصر " نجلاء ياسين " أخت وأم وجدّة لثلاثة أجيال فلسطينيّة متتابعة عرفوها فأحبّوها ، لم تحْظ بنعمة الإنْجاب فعوّضها الله بآلاف الأبناء والأحفاد الذين حرصوا على السّؤال عنها والتّواصل معها على مدى أكثر من أربعة عقود ، ولم يَخْل بيتها يَوْماً من باحثٍ عن حُنُوِّ أمومتها الفائضة .
التقيتها ببيروت في أولى سنوات دراستي الجامعية في مطلع سبعينيّات القرن الماضي . كنت حديثة الخروج من مدينتي نابلس الواقعة للتّوّ تحت الاحتلال الإسرائيلي ، وجَرْحٌ غائر في داخلي من أمّتي العربيّة التي عَشَّمت أبناء جيلي بتحرير وطنهم السّليب ، فإذا بالاحتلال ذاته يفتك بأجزائه التي بقيت خارج الاحتلال عام 1948 مع أراضٍ عربيّة أخرى بضعفي مساحة فلسطين .
كانت أم ناصِر من بين مجموعَةِ عربيّة أوسع من مصريين وسوريين ولبنانيين وعراقيين وأردنيين وخليجيّين التحقوا بالثّورة الفلسطينيّة الفتيّة ، ورؤوا في ذلك تجسيداً عمليّاً لعروبةٍ لا تكتمل إلا بتحرير فلسطين .
امرأة سوريّة في مُقْتَبل العُمر ، تضجّ بالحياة وتُشِعّ أنوثة وحيويّة وحماسة للعروبة وفلسطين ، تَمَرَّدت على الهزيمة ، دعم زوجها الفلسطينيّ قرارها بالمُشاركة في دعم الحركة الثَّوْرِيّة الناشئة في الأردن . أدركت مُبَكِّراً أهمِّيّة إحياء التّراث الفلسطيني والحِفاظ عليه في الشّتات ، فأسّست فرقة للفنون الشّعبيّة الفلسطينيّة واهتمَّت بفنّ الدّبكة ، خُصوصا ، وقدَّمت العُروض في الاحتفالات والفعاليات التي ترمي لدعم الثّورة وجَمْع التبرّعات .
وعندما واجهت الثورة محنة الاقتتال في الأردن وآن موعِد الرّحيل ، اختارت أم ناصِر الثّورة وآثرت الانتقال مع الثّوارِ إلى لبنان ، ورُبّما أمِلَتْ حينذاك ، مثل نساءٍ ثائراتٍ غيرها ، من أزواجِهنّ المُحِبّين اللحاق بهن ، ولم يدرين أنّ العقليّة الشّرقِيّة مهما تَعاطفت لا تَدْفَعُ بِرَجُلٍ للحاق بزوجته إلا ما ندَر .
لكِنّ ، ذلك ، وإن آلمها سنيناً ، كما أسَرَّت بذلك مراراً ، لم يَدفعها للتّراجع عن قرارها ، فبقيت في لبنان ، وعملت مع زميلاتها في التَّنظيم النسائي لحركة فتح ، وفي تمثيل الحركة نقابيا في الاتِّحاد العام للمرأة الفلسطينيّة ، وأسهمت عبرهما ، أيضاً، في تأسيس جمعيّة معامل أبناء وأسر شهداء وجرحى فلسطين
" صامد " ، لاستيعابهم للعمل المنتج من جهة ، ولتوفير بعض المُنْتجات البسيطة التي تسدّ احتياجاتهم واحتياجات سكّان المُخيّمات الفلسطينيّة من جهةٍ أخرى .
وعِنْدَما فرَض نموّ الثّورة وتشَعُّب علاقاتِها اللبنانيّة والدّوليّة فتح مكتبٍ لرئيس اللجنة التَّنفيذيّة لِمُنَظَّمة التَّحرير الفلسطينيّة في لبنان ، اختارها الرئيس عرفات لإدارة مكتبه والاضطلاع بمهمة العلاقات العامّة ، دون أن تتخلى عن مواقعها التّنظيميّة والنِّقابيّة .
وبحلاوة لسانها السّورِيّ ولباقتها ، وديبلوماسِيّتها ، ودماثتها ، وأناقتها ، وخفّة ظِلِّها ، وابتسامتها المُختلطة أحيانا بالدُّموع ، والتي لم تفارقها أبداً في الشّدائد ، أضفت على مكتب الرّئيس لمسةً دافئة بَدّدّت ما تنطوي عليه عادة مقارّ الثّوّار المُسْتَهْدفين على الدّوام من جفافٍ وخشونة ، فتحمّلت شقاء العمل مع رئيسٍ استثنائيّ لا يتْعب يوصل الليل بالنّهار ، دائم الحركة والتّرحال ، حريص على الإلمام بكلّ التّفاصيل ، بابه مفتوح للفلسطينيين والعرب وأحرار العالم أجمعين ، حاضِر الذِّهن مُتَّقِد الذّاكِرة لا يغفر النّسيان لأبسط الأمور .
فأثبتت أم ناصِر جدارة لافتة ، وأظهرت موهبةً فريدةً وقدرة فائقة على استيعاب انفعال الرّئيس وغضبه وعَصبيّته ، وتَحَمّلت قسوة الرَّسائل التي كان يَقصد ،عِبْرَها ، توجيهها إلى زائريه ومُراجعيه وضيوفه ، ودأبت على تخفيف التّوتّر ومراضاة المُستائين من بعض القرارات أو من انعدام صدورها . وفي كثيرٍ من الأحيان ، كانت تُلقي باللائمة على نفسها لتبرير سُلوكٍ لا علاقة لها به ، وكانت ملجأ للشّاكين والغاضبين ورسول سلام ومحبّة ، ما أكسبها نفوذاً واعترافا بدورها لم يقو على إنكاره كثير من المُتَعَصِّبين لفلسطينيّتهم ، وبدت حريصة على توافق ووفاق رفاق الدَّرب ، فحظيت بمحبّة واحترام الجميع .
وفي المؤتمر الرابع لحركة فتح الذي انعقد في ربيع عام 1980 في دمشق ، انتخبت من بين قلَّةٍ من النِّساء لعضويّة المجلس الثّوريّ للحركة . وواصلت العمل بذات الهمّة والحماسة والدّأب في أعقاب الحرب الإسرائيليّة الأطول ضدّ منظمة التّحرير الفلسطينيّة واجتياح لبنان عام 1982 وإبعاد قيادة المنظمة إلى تونس ، وأسهمت في إعادة البناء ولمّ الشّمل من جديد ، وأعيد انتخابها مُجدّداً لعضويّة المجلس الثوري في المؤتمر الخامس للحركة الذي انعقد في تونس عام 1989 .
وعندما قدمت أم ناصر لفلسطين في أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو ، كرّست كل جهدها للعمل النقابيّ عبر موقعها كأمينة عامة للاتِّحاد العامّ للمرأة الفلسطينيّة وعملت بذات الهمّة والنشاط والمثابرة والتّفاني .
توثّقت علاقتي الشخصيّة بأم ناصر بعد انتقالها للإقامة عند شقيقتها الصّغرى فرقد في مصر ، حيث كنت قد عدت لاستئناف عملي في جامعة الدّول العربيّة بعد انتهاء مدة إدارتي لمعهد ماس عام 2004 ، وحرصت على التّواصل الدّائم معها طيلة فترة إقامتي في مصر ، وعلى زيارتها في كل مرةٍ تطأ فيها قدماي أرض الكنانة .
كان بيتهما بيت كُلّ الفلسطينيين المُقيمين والوافدين والزّائرين ، وكانت أم ناصِر مسكونة بفلسطين وقضيّتها ، فازداد حنينها لوطنٍ عشقته أكثر بعد أن سكنته . كانت تستحضر فلسطين في كلِّ أحاديثها ، وما أخالها أحبت وطنها سوريا أكثر .
كانت دائمة الاستِعلام عن أخبار الجميع ، الصّغير قبل الكبير ، حريصة على التّواصل هاتفيّا مع كُلِّ من ألمّ به مرض ، وعلى تقديم واجب العزاء لكلِّ من فقد عزيزاً ، والتّهنئة بتخرّج الأبناء أو زواجهم أو قدوم الأحفاد .
كانت أم ناصر رمزا للسّيِّدة العربيّة السوريّة الأصيلة العاشقة للحرِّيّة ، ونموذجا للاختيار الواعي لامرأة جسَّدت عروبتها بالارتباط بالقضيّة
الفلسطينيّة ونُصرتها ، فنذرت عُمرها لِخِدْمَتِها .
وظلَّت أم ناصر حتى الرَّمقٍ الأخير مِثالا نادِراً للإخلاص لفلسطين والوفاء للقائد الاستثنائيّ الذي عَمِلت معه ، وأفنى حياته من أجل حُرِّيّة شعبه ورِفعة أمّته .
لروحها الرّحمة ، ولأسرتها وعائلتها وشعبها السوري الأبيّ ، ولرفاقها وأبنائها وأحفادها الفلسطينيّين جميعاً ، ولأمتها العربية خالص العزاء .