الرئيسية » ماجد كيالي »   21 حزيران 2016

| | |
الفكر السياسي الفلسطيني يراوح مكانه
ماجد كيالي

 يبدو أن التفكير السياسي عند الطبقة الفلسطينية السائدة، منذ أكثر من أربعة عقود، بات مغلقاً، أو متوقفاً، عند خيار الدولة الفلسطينية المستقلة، الذي تمّ التأسيس له في الدورة 11 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974).
المشكلة أن هذا يحصل رغم كل ما مرّ في النهر، أي رغم متغيرات الحالة الفلسطينية، بعد انتهاء حقبة الكفاح المسلح في الخارج، والتحولات في البيئة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وانتهاء الحرب الباردة (نظام بوتين حليف استراتيجي لإسرائيل)، ورغم تحول حركة التحرر الفلسطينية إلى سلطة، إثر عقد اتفاق اوسلو الجزئي والمجحف والمهين (1993)، والمشكلة أن هذا مستمر رغم التغيرات في البيئة السياسية العربية، سواء قبل «الربيع العربي» أو بعده.
ما يلفت الانتباه في كل ذلك أن الطبقة السياسية الفلسطينية تبدو منفصمة عن الواقع، وعن موازين القوى، والمعطيات المحيطة، وكأنها غير معنيّة بما تفعله إسرائيل وما تصرح به، علماً أن هذه، وهي المعنيّة، لم تسهّل اتفاق أوسلو (ولا خطة «خريطة الطريق» ولا مسار انابوليس)، بل إنها اشتغلت على تقويض مسار التسوية والمفاوضات، عبر تعزيز الاستيطان وبناء الجدار الفاصل وحصار غزة وتكريس علاقات التبعية والهيمنة الاستعماريتين، أمنياً واقتصادياً وإدارياً وسياسياً، في الضفة الغربية.
ولعل ما يثير التساؤل أن هذا كله يحصل، أي فقدان حركة التحرر الوطني الفلسطينية دينامياتها الفكرية والسياسية، مع أن الفلسطينيين يتوفّرون على نخبة هي من الأكثر تعلماً وثقافة واطلاعاً وحركة بين المجتمعات العربية بحكم ظروفهم وأحوالهم. وتفسير ذلك أن هذه الحركة باتت في عقودها الثلاثة الأخيرة وكأنها منغلقة على ذاتها إزاء مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، وأنها فقدت الجاذبية التي كانت لها، بحيث أضحت قوة النبذ فيها أقوى من الجذب، يفاقم من ذلك ترسّخ طبقة سياسية تعيد إنتاج نفسها وشرعيتها وأفكارها منذ نصف قرن.
مناسبة هذا الكلام المقترحات، أو مشروع النقاط العشر، الذي قدمه ناصر القدوة، بصفته عضواً في اللجنة المركزية لحركة «فتح»، وفي المجلس المركزي الفلسطيني، كما أنه أحد أبرز المرشحين لخلافة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتم تقديم المشروع في الندوة التي عقدها له مركز «مسارات» في رام الله (9/6)، الذي بات يعدّ من أهم مراكز دراسات السياسات في الأرض المحتلة.
من مطالعتي النقاط المذكورة في المشروع لم أجد طرحاً جديداً على صعيد التفكير السياسي في تلك النقاط، التي ذكرتني بمشروع عام 1974، كما أسلفت، وهو وضع جد مؤسف، مع الاحترام والتقدير لشخص القدوة، والذي كنت أتوقع منه شيئاً لافتاً أو مبتكراً، بالنظر الى تاريخه وخبرته وجديته والمواقع التي شغلها.
ويمكن القول، بصورة إجمالية، أن النقاط المطروحة جاءت عمومية، ولا تقول شيئاً محدداً في مسألة معينة، وأنها إعادة تأكيد للنهج السياسي الذي سارت عليه القيادة الفلسطينية منذ عقود. فوق ذلك فإن النقاط المذكورة تجاهلت، أو قفزت فوق مسألة مركزية، وهي المتعلقة بوضعية الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل)، شرعيتها وأحوالها ودورها، علماً أنها أضحت متقادمة ومستهلكة، ولم يعد لديها ما تعطيه لا على صعيد الفكر السياسي ولا على صعيد الدور النضالي، إن إزاء مجتمعها أو على صعيد مواجهة إسرائيل. والفكرة انه لا يمكن لهذه البنى أو الكيانات أن تحمل أي مشروع وطني، لا دولة واحدة ولا دولة في أراضي 1967، ولا ربع دولة، كما ولا أي شكل من أشكال المقاومة، أو الانتفاضة، لا شعبية ولا فصائلية، لا سلمية ولا مسلحة.
النقطة الأولى من النقاط العشر التي عرضها القدوة تحدد الهدف الوطني حصراً بـ «إنجاز الاستقلال... وممارسة السيادة في دولة فلسطين على حدود 1967»، لكنه هنا يؤكد أن هذا يجرى «على أساس أن الدولة قائمة... وليس على أساس أخذ الدولة من إسرائيل.» الغريب أن القدوة لم يلحظ أن العالم كله (تقريباً) الذي اعترف بدولة فلسطين لا يستطيع أن يضغط على اسرائيل كي تترجم هذا الاعتراف، أو كي تنسحب من الضفة الغربية أو من القدس الشرقية، وأن اتفاق اوسلو، الذي تقف وراءه قوى دولية، تنصّلت منه إسرائيل منذ أكثر من عقدين، هذا غير حديثنا عن أن هذا هدف الفلسطينيين منذ أكثر من اربعة عقود، فماذا يعني أخذها من إسرائيل، وكيف؟ المشكلة أيضاً أن القدوة يرى في خيار الدولة الواحدة كلاماً «رومانسياً وضاراً» من دون أن يعرف أحد لماذا؟ علماً أن هذا الخيار كان طرح في بداية صعود الحركة الوطنية الفلسطينية (أواخر الستينيات) التي نكصت عنه لمصلحة خيار الدولة في الضفة والقطاع (1974). يغيب عن القدوة هنا أن هذا التحديد وهذا التسرع يدفعان إلى تجزئة الشعب الفلسطيني، أو إخراج اللاجئين من هذا التوصيف، أو تهميشهم، وأيضاً القبول بالرواية الإسرائيلية، باعتبار أن الصراع بدأ في 1967، وليس في 1948. إلى كل ذلك فليس من الحكمة في شيء حصر الفلسطينيين في خيار واحد، وإنما يجب طرح خيارات متعددة أو متوازية، وضمن ذلك عدم وضع هدف الدولة المستقلة مقابل هدف الدولة الواحدة، أو بالعكس. والفكرة أن هدف الدولة الواحدة هو الذي يطابق بين قضية فلسطين وشعب فلسطين وأرض فلسطين، أي أنه يحفظ وحدة الشعب والأرض والهوية والرواية التاريخية، ليس على أساس العصبية وإنما لصدّ الادعاءات الصهيونية، وعلى أساس أن أي تسوية يفترض أن تتأسس على عنصري الحقيقة والعدالة (ولو النسبية). كما أن الحركة الوطنية التي تتخلى عن الحقيقة والعدالة النسبيتين، بسبب موازين القوى، أو العجز والترهل، تكفّ عن كونها حركة تمثل شعبها، وفي حالتنا الفلسطينية تكف عن كونها حركة وطنية ضد الكولونيالية الاستيطانية العنصرية الصهيونية.
وبديهي أن فهم خيار الدولة الواحدة لا يعني أنه خيار قريب، أو سهل، ولا هو مطروح للتفاوض، في المدى المنظور، إذ إنه سيحتاج الى تغيرات عربية ودولية وحتى إسرائيلية، لكن هذا الخيار يبقى بمثابة الحل الوحيد الذي يجيب على كل الأسئلة الفلسطينية والإسرائيلية، لذا فأي حل حتى لو كان على شكل دولة مستقلة في الضفة والقطاع يفترض أن يصبّ في هذا الخيار، أو أن يبقي على هذا الأفق للمستقبل، لأن حل الدولة في الضفة والقطاع لا يجيب عن قضية اللاجئين، ولا عن وحدة الشعب الفلسطيني، كما لا يجيب عن المسألة الإسرائيلية. وها هي إسرائيل تقاتل الفلسطينيين حتى على أرض الضفة بسعيها لقضم أجزاء منها، وبمواصلتها تكريس الهيمنة عليهم، أي أنها تقاتل على كل فلسطين، والأحرى بنا نحن أيضاً ان نقاتلها على كل فلسطين، بالوسائل المشروعة والممكنة والمجدية. والفكرة هنا أن الصراع ضد الصهيونية لا يقتصر على الجغرافيا والأرض، وإنما هو صراع على الحقوق والقيم، أي صراع على الحقيقة والعدالة والحرية والمساواة ودولة المواطنين.
بعد ذلك، تأتي النقطة الثانية المتعلقة بأشكال النضال، لكنها جاءت غامضة، مع استبعادها العمل العسكري. أما النقطة الثالثة، ففيها يعيد القدوة النقاش بخصوص إعطاء الأولوية لمهام التحرر الوطني على مهام إقامة الدولة، بما في ذلك «إعادة صياغة السلطة الفلسطينية وتحويلها إلى سلطة خدمية، وترحيل المهام السياسية والسيادية إلى المنظمة، ومراجعة العقيدة الأمنية لتكون مهمة الأجهزة الأمنية خدمة المواطن.» في النقطة الرابعة يتحدث القدوة عن إعادة الاعتبار للكيانات السياسية الفلسطينية، التي «تمر في مرحلة ضعف شديد، يصل في بعض الأحيان إلى حد درجة الموات، فالمجلس الوطني غائب منذ 20 عاماً»، لكنه ينسى أن ذلك مرهون برؤية سياسية جديدة وجامعة، وبإعادة بناء هذه الكيانات على أسس تمثيلية ومؤسسية وديموقراطية ونضالية، بدل بنائها على أساس المحاصصة الفصائلية، أو المزاجية التي تحكم صانع القرار الفلسطيني. ما يحسب للقدوة، أيضاً، أنه يستبعد «المفاوضات من دون توفر أساس سياسي واضح متفق عليه ومشرعن دولياً، وإعلان فشل المقاربة القديمة التي تقوم على أساس المفاوضات المباشرة من دون شروط أو مرجعية».
على أية حال، فإن هذا النقاش ضروري وهو يثري الحياة السياسية الفلسطينية ويسهم في انتشالها من حال الجمود، وهذا يحسب لمركز «مسارات»، ولناصر القدوة، لكن هذه مناسبة، أيضاً، للإشارة إلى إضافات مهمة يقدمها كتاب ومثقفون فلسطينيون من خارج الطبقة السياسية السائدة، وأخص منهم بالذكر نديم روحانا في مادته: «فلسطين الجديدة»، في مجلة الدراسات الفلسطينية (العدد 105 شتاء 2016)، وغانية ملحيس في مادتها: «المشروع التحرري الفلسطيني النقيض للمشروع الصهيوني» (موقع «مسارات»/ أيار - مايو 2016)، وهنيدة غانم في مادتها: «الشرذمة وتعريف المشروع الوطني» (جريدة «الأيام»، 11 و13/ 6)، وهو ما سنفرد مقالة خاصة لمناقشته.

مشاركة: