الرئيسية » ماجد كيالي »   26 تموز 2016

| | |
هل ثمة تفكير سياسي فلسطيني خارج الفصائل؟
ماجد كيالي

منذ ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة في منتصف الستينات هيمنت الفصائل بتياراتها الثلاث: الوطني «الفتحاوي» واليساري «الجبهاوي» والإسلامي «الحمساوي» على المجال العام، وضمنه مجال التفكير السياسي، والشعارات والرموز، على رغم اختلاف رؤاها. وكانت الفصائل احتلت الرأي العام الفلسطيني بإزاحة الصوت الآخر الذي كان يصدر عن المثقفين والكتاب والفنانين والعاملين في الشأن العام من المستقلين، أي غير المنتمين للفصائل، بحكم إمكانياتها، والأدبيات التي صدرت عنها، والمؤسسات الإعلامية والثقافية التي باتت تمتلكها.

 

 

هكذا ففي غضون كل تلك الفترة لم يعد بوسع صوت فلسطيني أن يفرض حضوره إلا إذا كان منخرطاً في المؤسسة الفصائلية، أو موالياً لها، مع استثناءات قليلة، ولعل شعار: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» أو «النظرية تنبع من فوهة البندقية» يعبر عن ذلك، في حين استطاع الفلسطينيون، قبل ظهور المقاومة، الحفاظ على تماسكهم وحضورهم بفضل النخبة المثقفة منهم، والتي أبرزت أسماء كبيرة، في مختلف المجالات.

 

 

وفي الواقع فقد بتنا، منذ أكثر من أربعة عقود، نسمع صوت الفصائل، أو صوت فصيل أو فصيلين مهيمنين، من دون صوت الفلسطينيين الآخرين، ومن يمكن اعتبارهم بمثابة ممثلين لمجتمع مدني، من دون أن يقلل ذلك من مكانة الفصائل. بيد أن الحديث يدور هنا عن هيمنة الخطاب الرسمي على رغم ثبوت قصوره عن رؤية الواقع، وإخفاق مرتكزاته، ومع تضاؤل قدرة الفصائل على الاستحواذ على إجماع عند غالبية الفلسطينيين، وفقدانها جاذبيتها بالنسبة إلى النخب، التي باتت قدرتها على التعبير عن حالها أفضل من الماضي، مع تكلس الفصائل وتآكل دورها الكفاحي، وتراجع قدرتها على الإنتاج في حقل الأفكار السياسية. وقد شهدنا أن الخطاب الفصائلي توقف منذ أربعة عقود عند خيار الدولة المستقلة، والمفاوضات، والتسوية، واعتبار إسرائيل مجرد دولة احتلال (بدأ عام 1967)، في اقتراب للسردية الإسرائيلية، وهو خطاب نكوصي، وليس واقعياً، وذلك بالقياس إلى الخطابات التي نشأت عليها الفصائل.

 

 

في مقابل هذا النكوص، وانحسار مكانة السردية الوطنية الجمعية في الخطاب الرسمي، لصالح خطاب تسوية متوهمة تمثله قيادة المنظمة والسلطة و»فتح»، أو لصالح خطاب ديني تمثله حركة «حماس»، شهدت الساحة الفلسطينية، بعد أفول ظاهرة العمل المسلح (من الخارج)، إثر الخروج من لبنان (1982)، ولا سيما بعد إقامة السلطة بموجب اتفاق أوسلو (1993) ظهور خطابات سياسية فلسطينية جديدة، لا تعترض على الخط الرسمي فقط، وإنما تحاول تجاوزه، برزت ضمنها شخصيات من الداخل والخارج، كهشام شرابي وادوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد وشفيق الحوت وأنيس صايغ، وكنديم روحانا وكميل منصور وعزمي بشارة وسعيد زيداني وأسعد غانم وجميل هلال وجورج جقمان ومهند عبد الحميد وهاني المصري وخليل شاهين وخالد الحروب، وهو ما اشتغلت عليه مع آخرين عاملين في الحقل الأكاديمي والثقافي والصحافي (راجع مادتي في «الحياة»: «نحو قطيعة مع الفكر السياسي السائد، 29/5/2016، و»الحاجة إلى استعادة خيار الدولة الديموقراطية الواحدة»، 22/12/2015).

 

 

في هذا الإطار سأعرض هنا لثلاثة كتاب حاولوا التفكير من خارج الخطاب النمطي السائد، في تشخيص حال الفلسطينيين كشعب، في تشرذمهم، وفي تعريف المشروع الوطني. ففي مادتها: «الخصوصية في ظل الوحدة»، حاولت د. هنيدة غانم «تجاوز الشرذمة وتعريف مشروع وطني جامع»، («الأيام»، 11/6/2016) مقترحة «بناء الكينونة الفلسطينية الجماعية... مع الأخذ في الاعتبار الخصوصيات والمحددات المؤثرة للجماعات المختلفة سواء في الداخل أو الضفة والقطاع والقدس أو الشتات»، وهذا يختلف عن الخطاب الفصائلي الذي لم يعد يفيد في حديثه عن وحدة الشعب، كمسلمة من دون أن يعي ما يحصل في مجتمعات الفلسطينيين أو ما يحصل لهم، بخاصة ما يتعلق بظاهرتي تآكل مجتمعات اللاجئين في الخارج (خصوصاً سورية ولبنان والعراق)، وترسخ حالة من الاختلاف بين أولويات وحاجات كل جماعة فلسطينية في الداخل والخارج (أي فلسطينيي 1948 وفلسطينيي الضفة وفلسطينيي غزة وفي كل بلد من بلدان اللجوء في سورية ولبنان والعراق والأردن ومصر)، مع تضاؤل مكانة منظمة التحرير كممثل شرعي للشعب، وتحول ثقل العمل الفلسطيني إلى الداخل، والتركيز على الدولة في الضفة والقطاع مقابل تراجع هدف حق العودة للاجئين. وتطرح غانم معاودة طرح الأسئلة البديهية، للاتفاق على أجوبة لها: «من نحن؟... ماذا نريد؟ وما العلاقة بين الجزء والكل؟ كيف نريدها أن تكون؟». أيضاً تطرقت إلى «التحول التدريجي في منظمة التحرير في التعامل مع إسرائيل من كيان مستعمر إلى دولة محتلة... ما يعني شرعنتها بحكم الأمر الواقع»، مؤكدة أن اختلاف أولويات الفلسطينيين وأهدافهم، النابعة من خصوصية كل تجمع وحاجاته، هي في الواقع مترابطة ومتشابكة ولا يمكن الفصل بينها، وأنهم جميعاً «يتوقون للحرية والعدالة والمساواة، سواء في دولة مستقلة أو في العودة أو في المساواة».

 

 

وفي أكثر من مادة نشرتها د. غانية ملحيس مؤخراً (في موقع مركز «مسارات») حاولت تقديم وجهة نظر متكاملة حول «المشروع التحرري الفلسطيني النقيض للمشروع الصهيوني... بما يعنيه ذلك من تحديد هدف وطني مركزي واضح، يجمع عليه الشعب في كافة أماكن تواجده... كي يوجه أهدافاً فرعيةً متعددة متسقةً ومتكاملة ومتتابعة، تنجزها التجمعات الفلسطينية المختلفة... تراعي المصالح الحيوية لهذه التجمعات... تأخذ بالحسبان اختلاف ظروف كل منها، وما يفرضه ذلك من اختلاف في أساليب وأشكال نضالها فيجنبها ما يضر بها أو يفوق احتمالها.» وعلى الصعيد السياسي ترى الكاتبة أن «البرنامج السياسي المرحلي... أسس عملياً لنهج فلسطيني جديد يستعيض عن هدف تحرير الوطن وهزيمة الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، بالتسوية السياسية والاستعداد لتقاسم الوطن... ما أخرج عملياً الأراضي الفلسطينية التي أنشئ فوقها الكيان الصهيوني من دائرة التفاوض الضروري لإتمام المقايضة بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عليها وحل قضية اللاجئين وفقاً للقرار الدولي رقم 194. ليصار لاحقاً إلى حصر موضوع التفاوض بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وكأنها أراض متنازع عليها بين الفلسطينيين والإسرائيليين». وتؤكد ملحيس أن «المصارحة بالواقع ليست دعوة إلى اليأس والإحباط الذي نراه بأم العين يطبق على الفلسطينيين، بسبب تيه نخبهم السياسية والتنظيمية والحزبية والفصائلية ومواصلتها البحث عن أوهام وحلول ومبادرات خارج السياق الصحيح لمواجهة الكيان الاستعماري الصهيوني. وإنما هي دعوة لتبصر طريق الخلاص، ببلورة مشروع نهضوي إنساني تحرري عصري» وعندها ثمة ضرورة لـ «إعادة النظر في فكرة الدولة القومية باعتبارها شكلاً وحيداً لتحقيق الحرية والعودة وتقرير المصير للشعب... بالاستعاضة عنها بمفهوم الدولة الوطنية»، مع الاعتراف بـ «حقوق المواطنة المكتسبة ليهود إسرائيل حصرياً (وليس عموم اليهود) في فلسطين، عند تخليهم عن عقيدتهم الصهيونية الاستعمارية العنصرية، والقبول بالعيش المشترك في دولة ديموقراطية عمادها المواطنة التي تكفل للجميع حقوقاً (أصيلةً ومكتسبة) متساوية في العيش الآمن الحر الكريم وتقرير المصير... ويضمن تساوي حق جميع أفراد المجتمع بالمشاركة في الحياة السياسية، وفي إدارة الشأن العام».

 

 

أود أن اختم هنا بمادة على غاية الأهمية كتبها د. نديم روحانا (نشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 105، شتاء 2016)، تحدث فيها صراحة عن أن «المرحلة الحالية التي تعيشها قضية الشعب الفلسطيني أوشكت على نهايتها... انتهت المرحلة التي كان من الممكن أن نعتقد فيها أن قضية الشعب الفلسطيني قابلة للحل عن طريق إقامة دولة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة... الأهداف تآكلت الواحد تلو الآخر». ويؤكد روحانا على ضرورة الشروع بصوغ «وعي متجدد بأن الصراع بين الحركة الوطنية الفلسطينية وبين الصهيونية هو صراع طويل الأمد، وأننا لا نوشك على الوصول إلى نهايته» وأن الصهيونية كحركة استعمارية كولونيالية لا يمكن أن توفر للفلسطيني العيش بكرامة في أي جزء من وطنه، وأنه لذلك لا يمكن للفلسطيني التعايش مع الصهيونية وبأنه «إذا كان الفلسطيني يرى في الصهيونية حركة كولونيالية، فإن الهدف سيكون واضحاً، وهو تفكيك النظام الكولونيالي» وأن «المشروع الوطني الجديد لن يكتب له النجاح إذا لم يشمل الشعب الفلسطيني كله في فلسطين وفي الشتات... حيث أحد أسباب فشل المشروع الدولتي تخليه عملياً عن الشتات وعن فلسطينيي 1948»، أما الهدف فبرأيه «يتعين على المشروع الوطني أن يقدم الفكرة التحررية التي تحرر كل فلسطيني من القمع والاستلاب، ويوفر له الحرية والكرامة والاستقلال، ويحرر الجميع من الصهيونية ولا يتعايش معها... فكرة فلسطين الجديدة إلى العالم ترتكز على اعتمادها القيم الإنسانية والتحررية، والمجاهرة بهدفها المعلن وهو تفكيك النظام الكولونيالي الاستيطاني، واستبدال النظام الصهيوني بنظام يضمن الحرية والمساواة والديموقراطية للجميع».

 

 

هكذا ثمة نضوب وجمود في الفكر السياسي الفصائلي وثمة عافية وحيوية ونهوض في الفكر السياسي الفلسطيني الذي تعبر عنه مجموعة من المثقفين المستقلين النقديين.

 

 

 

مشاركة: