الرئيسية » غانية ملحيس »   21 تشرين الأول 2019

| | |
المشهد اللبناني … فرصة قد تكون الأخيرة لكي وعي الطبقة السياسية
غانية ملحيس

مراقبة الحراك الشعبي في لبنان خلال الأيام القليلة الماضية ، تدل على ان الشعب اللبناني قد بدا يصحو اخيرا ويستخلص الدوس والعبر من تاريخه الحديث الحافل بالصراعات الأهلية ( 1858 ،حرب الخمسة عشر عاما ونصف نيسان 1975-تشرين الاول 1990 ) ، ويعي ان أزمته الحقيقية تكمن اساسا في نجاح سياسة التخويف الذاتي المتواصلة على مدى اكثر من قرن ، عبر توظيف التنوع الاثني والديني والطائفي والمذهبي ، بداية لاطالة امد الاستعمار الفرنسي .

ثم لتأبيد سيطرة الورثة من القوى المحلية المتغربة المتنفذة بعد رحيله ، التي توافقت على صيغ تقاسم الإرث ، واتفقت فيما بينها على احترام خصوصية كل منهم في منهج ادارة حصته ، والتي تشابهت في اساليبها وارتكازها على التجييش الطائفي وماسسته عبر بنى حزبية ومؤسسية ، تستقطب الشباب وتؤهله وتسلحه وتجنده للزج به في حرب المصالح عند الحاجة . ما اسهم ، وما يزال ، في تقويض فرص النهوض ، وفي تعطيل عملية بناء الدولة الوطنية القادرة على تلبية طموحات الجماهير الشعبية وتطلعاتهم المشروعة المشتركة العابرة للاثنيات والأديان والطوائف والمذاهب .

وحتى لا نقسوا على الذات ، وتفقد شعوبنا الثقة في أهليتها للقيام بالتغيير الذي تحتاج ، فتكف عن المحاولة ، كما يامل ويسعى له تحالف القوى المحلية والدولية المتنفذة .

من المهم الإشارة الى ان الغرب الذي يعتقد غالبيتنا بتفوقه الحضاري ، قد سبقنا في خوض ذات التجارب التي استخدمت فيها الحروب القومية والدينية والطائفية ، وحصدت ارواح ملايين البشر واستنزفت الكثير من الموارد ، قبل ان يستيقظ وعيه ويضع حدا لصراعاته البينية ، وينجح بالتأسيس للتغيير عبر بلورة نظم ومؤسسات سياسية وتشريعية واقتصادية واجتماعية وتربوية تؤسس للدولة الوطنية القادرة على تامين حقوق المواطنين ،بما يكفل النمو والتطور ويحقق الأمن والاستقرار الداخلي ويقوي المناعة المجتمعية ، ويعزز قدرة هذه الدول على

حل ازماتها بعيدا عن رفاه شعوبها .

غير ان استنساخ تجارب الغرب قد لا يكون ممكنا لبلوغ ذات النتايج ، ليس فقط في بلادنا العربية فحسب . وإنما ، ايضا ، لشعوب العالم غير الغربي الساعية للتغيير . فالقاعدة العلمية تؤشر الى ان استهداف الحصول على ذات النتايج توجب تطابق الشروط التي افضت لها .

تعذر الاستنساخ للنموذج الغربي وتجلياته الحياتية في بلادنا ، لا يتصل بانعدام الارادة والقرار . فالنخب المفتونة بالمنجزات الغربية والساعية لمحاكاة نموذجها في بلادنا تسيطر على القرار وتتحكم بمفاصله الاساسية السياسية والعسكرية والقانونية والاقتصادية والتربوية والثقافية ، وتبذل جهودا حثيثة ما تزال تتواصل للقرن الثالث على التوالي ، وتتكثف وتتسارع في عصر العولمة ، غير انها تصطدم بسلبية النتايج وتعمق الأزمات وتتالي انفجارها وتفجرها لأتفه الأسباب ،

فهل يصدق عاقل ان انتفاضة لبنان ناتجة عن ضريبة تطبيق الهواتف الذكية ، او ان انفجار وتجدد الحراكات الشعبية في بلادنا الممتدة من المحيط الى الخليج ، تتصل بالأسباب المعلنة لتجدد وتدافع موجاتها عند كل قرار ؟!

ثم أليس من اللافت انفجار الحراكات الشعبية ، ايضا، في بعض البلاد الغربية التي نحلم بمحاكات تجاربها ؟!

على الرغم من ان ،ذلك، يستدعي التفكر والتأمل العميق فيما بات سمة ملازمة للعصر المازوم ، الا ان ما يهمنا في المدى القريب تطويق الأزمات التي يتتالى انفجارها قبل ان تطيح بالبلاد والعباد في منطقتنا ، ثم البحث لاحقا في سبل حلها للتأسيس لمستقبل اكثر اشراقا .

نقطة البداية عند البحث عن المخارج الآنية والاستراتيجية معا ، تكمن في ادراك جوهر التباينات بين الحضارة الغربية الحديثة ومرتكزاتها المادية ومرجعياتها القيمية والأخلاقية ، التي تحاول النخب المتغربة تسريع تسيدها في بلادنا ، عبر استنساخ ذات القيم والآليات والأدوات التي احرزت نجاحات مهمة في بلاد الغرب ، والسعي لفرضها على بلاد تنتمي شعوبها الطامحة للتغيير الى حضارات أصيلة لها مرتكزاتها الفكرية والروحية ومرجعياتها القيمية والأخلاقية المغروسة في الوعي والذاكرة الجمعية ، التي صقلتها تجارب وآليات وأدوات نابعة من حضارتها ، وتمكنت في مراحل تاريخية سابقة من تحقيق نجاحات مهمة اثرت الحضارة الغربية ذاتها وعموم الحضارة الإنسانية .

وما تزال النخب المتغربة الساعية لاستنساخ التجارب الغربية الناجحة تتجاهل الاسباب الرئيسة للنجاحات الغربية ، واولها : ما سبقت الإشارة اليه في المقدمة من تمكن النخب الأوروبية من بناء الدول الوطنية القادرة على تامين مصالح ورفاه شعوبها ، والإقرار بحقوق مواطنيها في العيش الحر الكريم وضمان تساويهم امام القانون ، وإشراكهم في الدفاع عن مكتسباتهم بتفعيل آليات المراقبة والمساءلة والمحاسبة الذي يشكل الأساس لتحصين الجبهة الداخلية .

وثانيها : توفر بيئة خارجية مؤاتية لتزامن اليقظة الاوروبية مع بداية انحسار القوى الدولية المتنفذة آنذاك ، ما أبقى الخارج بعيدا عن التدخل والتأثير وحرف مسار الإصلاحات الداخلية في الدول الغربية .

وثالثها : مقدرة النخب الغربية على مواصلة تحميل كلفة تنمية وتطوير وتامين رفاه شعوبها عبر التوسع الاستعماري ونهب ثروات وموارد الشعوب المستعمرة .

وعليه ، فان السعي لاستنساخ التجارب الغربية الناجحة في بلادنا في ظل ظروف نقيضة ، تتنامى فيها الحاجات الاساسية وتتضاءل الموارد المتاحة لتلبيتها ، محكوم عليه بالفشل التام ، الذي يفاقم من وطأته جشع النخب المتسلطة وإمعانها في الاستحواذ على الموارد الوطنية الضئيلة المتاحة ، وتوافقها على تقاسمها عبر المحاصصة الفئوية ، الطائفية والحزبية والطبقية ، وبؤس الادارة ، والترويج لنظريات خصخصة الحكومات والخدمات الاساسية بدعوى الكفاءة ، والاستقواء على الضعفاء والتطاول على قوتهم ، وقمع الحريات ، والاحتماء بالقوى الخارجية المتربصة بالمنطقة سيسهم في تعميق الأزمات ويسرعها .

ولبنان على سوء أوضاعه وتفاقم ازماته ، ربما يمثل الصورة الاقل ظلاما في بلادنا العربية ، فما رأيناه على الشاشات خلال الايام الماضية يبشر بالخير : شعب حي يعي أفراده حقوقهم ، ويملا حراكهم الشارع ، ويعبرون عن ارائهم بلا خوف ، وينتقدون نظامهم السياسي والطائفي وأحزابهم علنًا ، ولا يستثنون احدا ، ولا يسمحون لاحد باستغفالهم ، ويطرحون مطالبهم المجمع عليها ، بوضوح

ويشاركون جميعًا أطفالا وشبابا وشيوخا ، رجالًا ونساء ، مسيحيين ومسلمين ودروز بكل طوائفهم ومذاهبهم ، رجال دين وعلمانيين ، محافظين في لباسهم ومتحررين ويذكرون قادتهم ان الشعب وحده مصدر السلطات ، وانه وحده صاحب الحق الحصري في منح شرعية مشروطة لقياداته .

لكن الخطر المتربص بلبنان وشعبه ما يزال بالغا ، ودلالاته محاولة البعض الالتفاف على الشعب ومحاصرة مطالبه واختزالها في تغيير النظام وليس المناهج ، وفي استبدال وتدوير المسؤولين بين المواقع ، وفي المطالبة باستبدال الطبقة السياسية بتكنوقراط وخبراء غير مسيسين كي يسهل استيعابهم .

نجاح الحراك في التاسيس لمرحلة نوعية تنتقل بلبنان وشعبه الى بر الأمان يرتهن بالقدرة على التصدي الحاسم للتحالف الوثيق والمتنامي العابر للحدود بين أمراء الطوائف واصحاب المصالح من القوى الاستعمارية الدولية والوكلاء المحليين ، وبمقدرته على الدفع باتجاه بلورة برنامج إنقاذ وطني واضح الأهداف ، يتعامل مع اوجاع الشعب ويستجيب لاحتياجاتهم الاساسية ويلبي مطالبهم المحقة والمشروعة في مهلة زمنية معلومة ، ويمنح التفويض المشروط للقيادة القادرة على التنفيذ

حمى الله شعب لبنان وشعوبنا العربية من الطوفان الجارف المحدق بهم وباوطانهم .

 

مشاركة: