الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   18 كانون الأول 2019

| | |
غُيِّب فازداد حضورًا .. حنا ميخائيل
غانية ملحيس

العنوان لكتاب أعدته الصديقة جيهان حلو لاستحضار سيرة ومسيرة أحد اهم قادة الفكر والممارسة في الثورة الفلسطينية المعاصرة.

فالمثقفون العضويون أمثال حنا إبراهيم ميخائيل (أبو عمر)، الذين يتطابق فكرهم مع سلوكهم في بلادنا نادرون، رغم كثرة النخب وازدحام المشهد السياسي الفلسطيني والعربي بآلاف المنظرين وحاملي شهادات الدكتوراه، الذين يبرعون في القفز بين المعارضة والسلطة، ومعيارهم الأوحد في تحديد مواقفهم يرتبط بمواقعهم.

والقادة في بلادنا يعتبرون المثقف والمرأة من مستلزمات المظهر الحداثي الذي يحتاجونه لتجميل المشهد. وقادة الثورة الفلسطينية لم يشكلوا استثناء كما كان يؤمل، رغم وطنيتهم الأكيدة واستعدادهم العالي للتضحية بالذات في ميدان الاستشهاد دفاعًا عن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير، ولا ننسى أن غالبية قيادة فتح التاريخية قضوا شهداء.

لكنهم كانوا في الوقت ذاته يهابون المثقفون العضويون لأنهم اصحاب فكر نقدي حر. يستمعون لآرائهم عند الحاجة وفي المآزق، لكنهم يعمدون إلى محاصرتهم في أطر استشارية غير ملزمة، ويبعدونهم عن مواقع اتخاذ القرار لانهم عصيون على التطويع والاستيعاب.

إدوارد سعيد وحنا ميخائيل وإبراهيم أبو لغد وإلياس شوفاني وناجي العلي وغيرهم نماذج في المشهد الفلسطيني. يزداد حضورهم رغم غيابهم، ويزداد تغييبهم لأن مسيرتهم وسيرتهم شواهد حية على بشاعة المشهد الذي ضاق بأصحاب الفكر والرأي الحر وأوصلنا الى الواقع الفلسطيني والعربي المغرق في ظلمته.

يتميز حنا ميخائيل عن غيره بانه من أوائل المثقفين الفلسطينيين الذين حسموا امرهم بعد هزيمة حزيران عام ١٩٦٧، ووجدوا في الثورة الفلسطينية الوليدة منعطفًا مفصليًا للتغيير، فانخرط في صفوفها مبكرًا للإسهام فعليًا في صنعه.

عرفته في مطلع سبعينيات القرن الماضي، عندما كانت الثورة الفلسطينية تمتلك روية نهضوية ومشروعًا لتصحيح مسار التاريخ الذي تم لي عنقه باستبدال فلسطين بإسرائيل.

لم يكن أبو عمر حالما أو طوباويا، بل كان متيقنا من أن مواجهة تداعيات التآمر الكوني على وطنه وشعبه تفوق قدرة جيل واحد، وكان يعي أن مهمة الجيل الذي عايش النكبة والنكسة تجاوز الصدمة واستعادة الوعي بالفهم الدقيق للأسباب الذاتية والموضوعية التي أدت إلى الإخفاق في التصدي للغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية العنصرية ووقف تقدمها للتأسيس للنهوض والشروع بالتغيير.

وكان يحرص على التردد على الاتحاد العام لطلبة فلسطين في لبنان. ويحاور الطلبة بأسلوبه البسيط المحبب ولهجته القروية العذبة وابتعاده عن استخدام المصطلحات المعقدة التي كانت رائجة آنذاك للتدليل على ثقافة المتحدث، ويوظف معارفه العلمية الواسعة ببراعة العالم وتواضع التلميذ. كان يطرح التساؤلات التي تحفز العقل وتحث الفكر وتثير الفضول للمعرفة، ويدل على مصادر يمكنها ان تساعد على الفهم، وأحيانًا يزود المتسائل بكراسة وكان وجودها تصادف مع سعيه للمعرفة. وعندما يعود مرة أخرى لزيارة الاتحاد يستدرج الطلبة للنقاش بأسلوب يبدو عفويا ليعرف مدى استيعابهم. كان ودودا في تفاعله مع الشباب المندفع، حريصا على تبصيرهم بشروط الانتصار في صراع ضار وطويل مع عدو يتفوق في ميزان القوى والقدرات والتحالفات مع مراكز القوى واصحاب المصالح المحلية والعربية والإقليمية والدولية.

ما أزال أذكر ردود فعله حين كان يرى انفعالنا وانتقاداتنا لبعض سلوكيات القادة، ورغم رفضه الحاسم لها كان ًيعمد إلى تهدىتنا لا لترويضنا، وإنما لترشيد غضبنا وتعليمنا ان القضاء على السلبيات رهن بتطور الوعي وتفعيل النقد الذاتي.

وعندما كان يرى إحباطنا من بعض المواقف، كان يشد ازرنا بالحديث عن الحتمية التاريخية ويستحضر التجارب المشرقة لثورات انتصرت على الاستعمار رغم الفوارق في موازين القوى، لكنه سرعان ما يستطرد بالقول ان هذه الحتمية ليست ذاتية الحركة وانما تحتاج الى تفعيلها عبر امتلاك شروط الانتصار. وكان يوكد ان اول هذه الشروط يكمن في تنمية الوعي المعرفي الدقيق بالعدو، وبالتخطيط والتنظيم الصحيح لخوض الصراع معه، الذي لن يحسم بالضربة القاضية، وإنما بتراكم الإنجازات وتتابعها. وكان ينبه الى أهمية العمل مع الجماهير، فهي وحدها القادرة على حماية استمرار الثورة حتى بلوغ النصر، وكان ينبه إلى أهمية الدعم العربي والدولي، لكنه كان واضحا بان حشده يرتهن أساسًا بتطور العامل الذاتي الفلسطيني.

أذكر أنني التقيته صدفة - بعد انقطاع أكثر من سنتين - بالقرب من مقر اتحاد الطلبة، في ذات اليوم الذي غادر فيه مع رفاقه بيروت ولم يعودوا. وكنت برفقة صديق - قضى شهيدًا بعدها بأسابيع - من ضمن آلاف الطلبة الفلسطينيين الذين تدفقوا من مختلف بقاع الأرض لنصرة الثورة الفلسطينية التي كانت تتعرض لهجمات القوى الانعزالية وقوات النظام السوري، نظر إلى ساعته واصطحبنا إلى مقهى قريب وقال إن أمامه ساعة، وكان كعادته ودودا مفعمًا بالأمل لرؤيته الاندفاعة العفوية لطلبة فلسطين حول العالم وقدوم. الآلاف لحماية الثورة، وربما كان يرى بأم العين حصاد ما زرعه فينا من الثقة والإيمان بحتمية النصر.

لغز اختفائه وزملائه أثار تساؤلات عديدة، وما تزال معلقة بعد أربعة عقود دون اجابات، حول الفهم المغلوط وبؤس الثقافة التي تتغنى بحجم التضحيات وأعداد الشهداء والجرحى والأسرى عوضًا عن الإنجازات. وحول المسؤولية عن الاستهانة بحياة المناضلين.

قصرنا جميعًا في استحضار مسيرة أبو عمر ورفاقه على مدى سنوات طويلة، شغلتنا عن ذلك كثرة الرحيل وانشغالنا بإعادة لملمة الذات بعد الخروج من بيروت، رغم حضوره الدائم في وعينا، وافتقاده في المنافي البعيدة وفي المفاصل التاريخية التي اسهم غيابه وامثاله عن توجيه بوصلتها، فوصلنا إلى الدرك الأسفل الذي نحن فيه.

شكرا لجهان الحلو التي ظلت على إصرارها لاستحضار سيرة قائد متميز وظف فكره ووعيه واثر العمل في الميدان، وأبقت على تمسكها برفض تغييب نموذج ملهم حظيت بفرصة مشاركته حياته النضالية والشخصية، وأشركتنا في استعادة سيرته الثرية التي نحتاج للإلمام بتفاصيلها من اجل النهوض بالوعي المعرفي لأجيال فتية لم يحالفها الحظ بمعرفة قادة عظام ضحوا بحياتهم من اجل تحرير وطنهم ورفعة شعبهم، في مرحلة مفصلية تتعرض فيها النماذج الوطنية الملهمة للتغييب، ويتعرض التاريخ النضالي الفلسطيني للتشويه لتبرير ظلمة الحاضر ولمحاصرة المستقبل.

ولنأمل ألا ينحصر جهد إحياء سيرة الرواد والمفكرين والثوار في جهود شخصية لذويهم وأصدقائهم، وأن يشكل هذا الكتاب، بداية لجهد وطني جماعي لاستعادة سير المناضلين الملهمين من أجل تغيير الحاضر والتأسيس لمستقبل مغاير أفضل.

 

مشاركة: