الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   04 تشرين الأول 2020

| | |
المأزق الفلسطيني الراهن كما يراه الشباب الفتي (3)
غانية ملحيس

يتميز الشباب الفلسطيني الفتي بوعي فطري بقوة الحق القادر -عند توفر الإرادة - على الانتصار على حق القوة.

ويختلفون، بذلك، عن الطبقة السياسية الفلسطينية القائمة بجميع مكوناتها الفصائلية والحزبية والأهلية. التي أسهم في صقل وعيها تعب السنين ومتعة الامتيازات التي توفرها سطوة السلطة ومكتسبات المناصب، في غياب الشفافية وتغييب الشعب ومؤسساته القادرة على المساءلة والمحاسبة.

ويتمتع الشباب بالحيوية وصفاء رؤية ينضجها وعيهم الحسي، الذي تبلوره المواجهات اليومية المباشرة مع عدو عقائدي استيطاني عنصري. يسيطر قادته على الدين ويحتكرون مهمة تفسير وتطويع نصوصه. ويوظفون الأساطير ويزرعونها في وعي أطفالهم، لتنشئة أجيال اسرائيلية تسيرها العقيدة ويسهل قولبتها وتنظيمها وتوجيهها لامتهان الاٍرهاب واستباحة قتل الفلسطينيين العزل. بدعوى الواجب الديني والتكليف الإلهي لتنفيذ وعده الحصري للشعب المختار بتخصيص فلسطين له. فلا قبل للبشر بمناقشته أو تغييره. ولا مجال لالتقائه مع الشرائع والقوانين الوضعية الإنسانية والدولية التي تنظم عيش الناس على كوكب الأرض.

ويمتازون بالقدرة على مواكبة الثورة التكنولوجية واستخدام أدواتها التي تفتح أعينهم على عوالم لم يعهدها جيلنا. الذي اعتادت غالبيته التموضع في قوالب أيديولوجية دينية وقومية وأممية، تقود العقول وتحد من قدرتها على ممارسة التفكير الحر الذي يطور العقول لصنع التغيير.

ويشغلهم التفكير بمواجهة تحديات الحاضر والتأسيس للمستقبل. خلافا لجيلنا المخضرم المشدود للماضي. الذي يعيش على أمجاد تاريخه النضالي، والبطولات التي سطرها أفراده في معارك الدفاع المستميت عن ثورة شعب تعرض لأفدح ظلم في التاريخ الإنساني المعاصر. وكان يمكنها ان تغير وجه المنطقة، لولا تضافر الأعداء من كل حدب وصوب وإشغالها لعقود عدة في معارك الدفاع عن الوجود.

ويحسب الشباب للجيل المخضرم نجاحه في لملمة أشلاء الشعب الفلسطيني بعد نكبة العام 1948 -رغم تواطؤ الكون على إخفائه -. والحفاظ على هويته الوطنية الجامعة، والمحافظة على تماسكه المجتمعي داخل الوطن وفي أماكن اللجوء، وتمكنه من استعادة الحضور الفلسطيني الفاعل على الساحتين العربية والدولية، والاستعصاء على الخضوع وإبقاء جذوة النضال التحرري مشتعلة. ما أكسب رموزه التأييد والاحتضان الشعبي الواسع.

غير ان اتفاق أوسلو - الذي تلى الانتفاضة الشعبية التي غيرت قواعد الاشتباك مع العدو ونقلت المواجهة الفلسطينية معه إلى مركز الصراع -، أتاح للجيل المخضرم، الذي استعجل الحصاد قبل الأوان ولم يكن مستعدا لتولي مسؤولية إدارة شؤون الشعب الفلسطيني المقيم داخل الأراضي المحتلة عام 1967. فأربكه وقيده بشروط تعجيزية حبكت بإتقان، سواء لجهة محدودية الموارد التي بقي معظمها تحت سيطرة الاحتلال، أو لجهة اقتصار الصلاحيات على الحدود التي يسمح بها الاحتلال لتوفير المستلزمات المعيشية والخدمات الأساسية للمواطنين. ورهنها -تسهيلا أو عرقلة - بالوفاء باشتراطات أمنية وسياسية.

فظهر هذا الجيل أمام الشعب - الذي ائتمنه وانتخب رموزه لمواصلة قيادته خلال المرحلة الانتقالية لإيصاله للاستقلال -، ضعيفا أمام مغريات السلطة التي أغدقها مجتمع المانحين متعمدا على مسؤولي السلطة المستحدثة التنفيذية والتشريعية، ومنظمات المجتمع المدني، التي لعبت دورا مهما في تنظيم وقيادة النضال الشعبي الفلسطيني أثناء الانتفاضة الاولى. وحصرت اسرائيل المعاملة التفضيلية بالطبقة السياسية الفلسطينية الرسمية والاهلية، بالتوازي مع تشديد قيود الحركة والتنقل على عموم الشعب. الذي بات عليه، أيضا، تحمل أعباء تمويل اجهزة ومؤسسات السلطة المستحدثة. وبدى الجيل المخضرم عاجزا أمام شعبه عن الوفاء بالوعود الكثيرة التي سوق بها الاتفاق.

وعندما تكشفت خدعة أوسلو في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، حاول الزعيم ياسر عرفات تصويب الخطأ بالضغط ميدانيا عبر دعم انتفاضة الأقصى، دون الانقلاب على أوسلو والتحلل من قيوده. ودون مصارحة الشعب بحقيقة ان تنفيذ اتفاق أوسلو - رغم تدني سقوفه -، يحتاج إلى نضال فلسطيني وتضحيات كبيرة لتغيير موازين القوى على الأرض /وليس حصد مكتسبات ومغانم كما تم ترويجه عند تسويق الاتفاق ولم يستفد منها فعليا سوى النخب /، لإجبار اسرائيل على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية. ولإلزام رعاة عملية التسوية السياسية والمجتمع الدولي بمنع انحراف مسار التسوية وعدم السماح لاسرائيل بتغيير شروطها، رغم إجحافها الشديد بالحقوق الفلسطينية.

وفاقم الوضع عجز حركتي فتح وحماس (الفاعلين الرئيسيين في انتفاضة الأقصى) وإخفاقهم في إدراك تداعيات التغير الخطير في المشهد الدولي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، ومواصلتهم العمليات الاستشهادية في الداخل الاسرائيلي. ومكن، ذلك، اسرائيل وحلفائها الدوليين من استكمال انقلابهم على اتفاق أوسلو، بإعادة اجتياح اسرائيل لمناطق الحكم الذاتي عام ٢٠٠٢، وتكبيد الشعب خسائر جسيمة، والإبقاء على السلطة الفلسطينية للقيام بدور الوكيل الذي يحتاجونه للسيطرة على الشعب الفلسطيني من جهة، وبتشريع الحرب الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني وربطها بالحرب على الاٍرهاب من جهة اخرى. ومهد، بذلك، لاغتيال الرئيس عرفات، الذي حمل مسؤولية إخفاق أوسلو. وتم إعادة السلطة إلى مسار التفاوض، الذي يبقي على استمرار العملية السياسية للوفاء الأحادي الفلسطيني بالالتزامات تجاه اسرائيل، دون تسوية الصراع.

ولم يعتد الفلسطينيون على امتداد نضالهم الممتد، وما يزالون، مراجعة تجاربهم وممارسة النقد الذاتي البناء، القادر وحده على منع تراكم الأخطار. وتصويب المسار.

وعلى الرغم من أن سنة الكون تقضي بتعاقب الأجيال. إلا أن ثقافة ترسخت لدى الجيل الفلسطيني المخضرم بأن الثورة مسؤولية تمتد مدى الحياة. وأغلبيته لا تعترف بتأثير العمر على كفاءة الأداء (سرعة وجودة). فواصلوا الإمساك بكل مفاصل الحياة العامة، في السلطة والمنظمة والفصائل والتنظيمات والنقابات والمنظمات الأهلية. بل إن جيل الكهول (50- 65 سنة)، أيضا، ما يزال ينتظر دوره، ويعتقد بأحقيته بتولي المسؤولية -عند شغور المواقع - ما يحكم انسداد الآفاق أمام الشباب، ويضعهم أمام خيار البحث عن فرص لاختراق الأبواب الموصدة بإحكام، تتيحها معايير تتصل بالولاء والقرابة والنفوذ، أو البحث عن حلول فردية والعزوف عن المشاركة في العمل العام.

لا يجد الشباب الفتي تفسيرا لأسباب انفصام سلوكنا الخاص اتجاه الأبناء والأحفاد، الذين نسلم بتفوقهم علينا، ونفخر بنجاحاتهم، ونوفر لهم كل الدعم والرعاية. ونحجم عن ذلك في سلوكنا العام، فنحجب عن أقرانهم الفرص ومواقع المسؤولية بدعوى افتقارهم للخبرة.

ويعجزون، أيضا، عن فهم كيف يمكن لمن فجروا ثورة وقادوا انتفاضتين - عندما كانوا في مثل أعمارهم - أن ينكروا على الجيل الفتي قدرته على تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية وتصويب مسارها.

وعلى الرغم من إقصائهم عن مواقع صنع القرار، وافتقارهم إلى أطر تنظيمية ومؤسسية توحدهم وتوظف طاقاتهم الهائلة. ما يزال الشباب الفتي ينشطون فرادى، ويتشاركون الرؤى حول توصيف الواقع المرير. ويجمعون على خطورة المأزق الذي بلغه الوضع الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات. وتتوافق تفسيراتهم لمسبباته الذاتية والموضوعية. وتتقاطع تصوراتهم بشأن سبل الخروج منه، وبشأن الحاجة الفلسطينية الماسة لاستعادة زمام المبادرة والتأسيس للنهوض.

ويأخذون على الطبقة السياسية الفلسطينية في السلطة والمعارضة تقادم المناهج وانفصالها عن حقائق الواقع القائم. ويلاحظون اعتماد خياراتها السياسية على فرضيات لحل الصراع، سبق وأن صاغها اليسار الصهيوني للحفاظ على النقاء اليهودي لدولة اسرائيل بالانفصال عن الفلسطينيين، ولم يعد لها وجود منذ ان هزم وفقد حضوره المؤثر في المشهد السياسي الاسرائيلي قبل عقدين.

ويلومونها على استمرار تجاهل التحولات الاستراتيجية وتداعيات سيطرة اليمين الديني الصهيوني المتطرف على القرار الاسرائيلي منذ مطلع الألفية الثانية، بالتزامن مع تنامي تأثير المسيحيين الانجيليين المتصهينيين على القرار الأمريكي عموما، والخاص بالشرق الأوسط خصوصا. واعتمادهما القوة والإخضاع منهجا وحيدا لحسم الصراع الوجودي مع الشعب الفلسطيني. ولحسم التنافس على قيادة الإقليم العربي - الإسلامي بمسماه المستحدث "الشرق الأوسط الجديد".

وعليه، لا يفهم الشباب الفلسطيني سببا لإصرار النظام السياسي الفلسطيني - الذي توافقت أطرافه على المصالحة مؤخرا - وتمسكه بمواصلة البحث عن حلول سياسية وهمية للصراع الفلسطيني -الاسرائيلي (حل الدولتين)، رغم إدراكهم أن تحقيق هذا الحل، حتى بافتراض واقعيته لتسوية صراع وجودي، يحتاج إلى استراتيجية كفاحية متوسطة المدى لتصويب الاختلال الهائل في موازين القوى في مركز الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، برفع كلفة استمرار الصراع الوجودي المفروض على الشعب الفلسطين لتتجاوز عوائده. وإزالة الغشاوة الصهيونية عن عيون يهود اسرائيل وعموم اليهود، وتبصيرهم بعواقب مواصلة السلوك الاستعماري العنصري الإلغائي.

ولا يفهمون، أيضا، أسباب التشبث بتكرار ذات التجارب التي سبق وأخفقت، عندما كان ميزان القوى أقل اختلالا. ولا يجدون جدوى من مواصلة التهديد باللجوء للرباعية الدولية، ومؤتمرات السلام الدولية لمواجهة صفقة القرن. إذ سبق اختبار انعدام مقدرة هذه الأطر -  بافتراض توفر الرغبة - على الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها وتنفيذ قراراتها الإجرائية. بل عجزت حتى عن منع اسرائيل من تدمير المشاريع التي مولها ونفذها المجتمع الدولي في إطار اتفاق أوسلو.

ويتابع الشباب عن كثب تطورات جهود المصالحة الفلسطينية التي طالما طالبوا بإنجازها، ويتخوفون من مؤشرات توحي بإعادة إنتاج نظام المحاصصة الفصائلية العاجز. ويرونه شديد الشبه بنظام المحاصصة الطائفي اللبناني الذي بات تجذره يهدد بقاء لبنان.

ويراقبون بارتياب تطورات يتسارع إيقاعها فلسطينيا وعربيا وإقليميا ودوليا. وتثير متابعتهم لتحركات وتصريحات بعض القادة مخاوفهم من إمكانية تكرار استدراج الفلسطينيين إلى شرك التسوية الأمريكية "صفقة القرن" - بدعوى انعدام الخيارات -. ويحذرون من فداحة الأخطار والتداعيات التدميرية لهكذا خيار على حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله لعقود عدة، والتي تتجاوز بعشرات الأضعاف انعكاسات التورط الفلسطيني بإبرام اتفاقات أوسلو.

ويرون بأن مقياس صدقية النظام السياسي الفلسطيني في معارضته لصفقة القرن، يكمن بالتنفيذ الفوري للقرارات الفلسطينية المجمع عليها شعبيا ورسميا، بالتحلل من كافة الالتزامات في اتفاقات أوسلو - الملغاة فعليا من قبل اسرائيل والراعي الامريكي منذ عام 2002-. وإنهاء الانقسام الجغرافي والسياسي والاقتصادي ومعالجة تداعياته، لإتمام عملية المصالحة الوطنية الشاملة، وفق استراتيجية كفاحية تستعيد وحدة الضفة والقطاع، وتعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني جامع لكافة مكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات، وتجدد شرعيتها الوطنية والتمثيلية، كي تستعيد ثقة الشعب بقدرتها على مواصلة تحمل مسؤولية قيادة المشروع الوطني التحرري.

ويتابع الشباب عن كثب الحوار النشط بين المفكرين والمثقفين والنشطاء الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه. ويقدرون الجهد المهم الذي يبذلونه. لكنهم يأخذون عليهم الانشغال بتشخيص وتحليل الواقع الفلسطيني المأزوم، والبحث في بدائل الخروج منه بالتعويل على إمكانية تغير من أسهموا في تشكله. وبممارسة الضغوط عليهم عبر إصدار البيانات ومطالبة النظام السياسي الفلسطيني في وسائل الإعلام بإصلاح تداعيات الخيارات والسياسات والسلوكيات الخاطئة، وتصويب ما أفسدوه في بيئة العمل الفلسطيني على امتداد العقود الثلاثة الماضية!!

ويلومون المثقفين على انكفائهم داخل الأطر والتجمعات النخبوية، وعدم انخراطهم بالعمل مع الجماهير الفلسطينية العريضة، القادرة وحدها على توفير موجبات التغيير والإصلاح وتأمين روافده الشعبية، التي تجد مصلحة حقيقية في التصدي لمهمة تحقيقه:

  • عند اقتناعها بصواب الخيارات الكفاحية، وبقدرة المناهج والسياسات الجديدة على المواءمة المثلى بين أولوية تعزيز الصمود الوطني بتوفير مستلزماته المادية والمؤسسية وتوزيع اعبائه بعدل، وبين اطلاق عملية الإصلاح الفلسطيني الشامل المستحق، بسرعة مناسبة. وكلفة يتحملها الجميع كل حسب طاقته وامكاناته.
  • وعند وثوقها بصدقية واستقلالية ووطنية ونزاهة القوى التي تتصدى لعملية الإصلاح، جماعات وأفراد.

ويسترشد الشباب في رؤيتهم لسبل الخروج من الواقع الفلسطيني المأزوم بتاريخ فلسطين الممتد لآلاف السنين. والذي يؤشر إلى تعاقب حضارات كبرى عليها حكمت العالم أثناء صعودها وغادرتها عند أفولها، وتركت شواهد كثيرة تملأ سطح الأرض وباطنها، وتوثق مراحل الصعود والأفول. ويعون دلالات رحيلها جميعا، واستعصاء فلسطين على الزوال.

ويعلمون، أيضا، أن الصراع المستدام مع الغزاة عبر التاريخ اكسب شعبها الصغير صلابة نادرة - فاستعصى على الفناء. انهزم الفرس واليونانيون والرومان والبيزنطيون والسلاجقة والفرنجة الأوروبيون (الصليبييون) الذين استوطنوا فلسطين قرابة قرنين ورحلوا. واستعصت أسوار عكا على نابليون بونوبارت الذي غزا بلادا كبيرة وهزم أمما قوية، فعاد من حيث أتى. وانتفض الشعب على ظلم وجبروت الحكم العثماني. وقاوم استعمار بريطانيا العظمى التي تصدت بنفسها لمهمة زرع الكيان الاستيطاني الصهيوني في وطنه. ورحلوا جميعا، وبقي الشعب الفلسطيني صامدا مرابطا على أرض وطنه.

وعلى الرغم من سيطرة الاستعمار الصهيوني على كامل فلسطين حاليا وتقدمه خارجها وتهجير نصف شعبها خارج وطنه.يدرك الشباب الفلسطيني أنها مرحلة عابرة.

ويعلمون ان التاريخ لا يمضي بخط مستقيم، ويعرفون خاصية حركته اللولبية التي تنطوي على مراحل صعود وهبوط. ويثقون باتجاهه العام نحو الصعود،، ويرون أن مسؤوليتهم تقضي بمنع استطالة زمن الهبوط. ويعتقدون أن ذلك رهن بقدرة الشعب الفلسطيني على بناء توافق وطني عام بين كافة مكوناته داخل الوطن وفي الشتات، حول القاسم الوطني المشترك الأعظم، لتوفير موجبات الصمود والتأسيس للانتصار.

ويدركون بأن عملية التغيير الفلسطيني المستحق إحداثه عملية شاقة ومؤلمة، وتستغرق وقتا، وتصطدم بمصالح فئات متنفذة عديدة، وتحتاج إلى إرادة وعزيمة، وإلى قوى وطنية طليعية تلتزم بإصلاح شامل في الحقل الوطني الفلسطيني، لتصويب الاختلالات التي اعترت الرؤى ومنظومة القيم والمناهج الكفاحية والسياسة والاقتصاد والمجتمع والإدارة والهياكل المؤسسية خلال العقود الماضية.

ويعتقدون بأولوية إصلاح الإطار العام لأهميته في توجيه الإصلاحات في الحقول الفرعية، ويطالبون بالمسارعة بالعمل بالتوازي والتزامن في المجالات الرئيسة التالية :

أولًا: إزالة التشوهات التي علقت بالرواية التاريخية الفلسطينية، والتي تعرضت للتزوير بفعل التآمر الاستعماري الغربي الصهيوني، واختلاق الأساطير الدينية لاختراع الشعب اليهودي وتسويغ إنشاء كيان استعماري استيطاني يهودي وظيفي. بالادعاء بتفويض الخالق لقبائل كانت تسكن البلاد في القرن الخامس عشر قبل الميلاد بامتلاك فلسطين. ثم انفردت دون سائر البشر بالاحتفاظ عبر العصور بنقائها العرقي، رغم تشتتها وتوزعها على دول العالم كافة. ليعاد بعثها بعد آلاف السنين بالتزامن مع صعود النظام الرأسمالي في أوروبا، وسعي القوى الأوروبية المتنفذة للتوسع الاستعماري خارج حدودها للاستحواذ على الموارد الضرورية لتطورها، وللسيطرة على الأسواق لتصريف فوائضها الإنتاجية وعلى الممرات التجارية الدولية.

ويعتقد الشباب ان نقطة البداية في كشف زيف الرواية الصهيونية تكمن بالمباشرة الفورية بإزالة الالتباس الذي أحدثته الخيارات الاستراتيجية الخاطئة لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بالقبول بمهادنة الصهيونية والموافقة على التفاوض وتقاسم الوطن مع نقيضها الوجودي، الذي يتمسك بروايته المزيفة وعقيدته الاستعمارية الاستيطانية العنصرية -. فاسهمت، بذلك، في تشويه الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والدولي، وأضفت صدقية على الرواية الصهيونية المزيفة.

ثانيًا: إعادة تعريف الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي وفقا لواقعه الحقيقي، وليس الافتراضي، وتحديد طبيعته كصراع وجودي، بين الشعب العربي الفلسطيني الأصيل صاحب الحق في فلسطين التي تعيش فيها أجياله المتعاقبة منذ آلاف السنين الممتدة.

وبين الغزاة المستوطنين الصهاينة. الذين يحاولون تديين الصراع السياسي، عبر إسباغ صفة القومية - غير المسبوق في التاريخ - وحصرها في دين دون سائر الأديان. ومنح أتباعه من مختلف الأعراق والقوميات والجنسيات حقا في استحقاق المواطنة فور قدومهم إلى فلسطين وفقا لقانون" العودة ". بالتوازي مع نزع الهوية الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني الأصيل وتجريده من حقوقه السياسية والوطنية - غير المسبوق في السياسة الدولية -، واعتبارهم مجرد طوائف غير يهودية مقيمة، يمكن لاسرائيل نقلهم من مواقعهم عندما تحتاج (بدو النقب وسكان الخان الأحمر ... إلخ). ويمكنها منع الفلسطينيين المقتلعين من ديارهم المقيمين داخل اسرائيل من العودة الى مدنهم وقراهم (أقرت وكفر برعم ... إلخ)، وعدم السماح للاجئين المقيمين في مخيمات القدس وقطاع غزة والضفة الغربية التي تم احتلالها عام 1967 بالعودة إلى قراهم ومدنهم داخل الخط الأخضر، وعدم الاعتراف بحق السبعة مليون لاجىء فلسطيني في الشتات بالعودة إلى وطنهم كما ينص القرار الدولي رقم ١٩٤، الذي قبلت اسرائيل على أساسه في الأمم المتحدة.

ثالثًا: بلورة رؤية استراتيجية بعيدة المدى لتحرير فلسطين من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. تؤسس لمشروع نهضوي إنساني تحرري نقيض. ينفتح على صيغ خلاقة للتعامل مع التداعيات الديموغرافية الناجمة عن الصراع، وفق الأخلاقيات الثورية التحررية التي تقدس الحياة الإنسانية وترتكز على مبدأ تساوي حقوق جميع البشر بالحرية والعدالة والمساواة في إطار القانون

ويفرق بين اليهودية كدين لا اختلاف مع أتباعه الذين شكلوا على امتداد التاريخ مكونا أصيلا من الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة. وبين الصهيونية كحركة استعمارية غربية استيطانية عنصرية ينبغي تكثيف النضال لهزيمتها. بمنع استقرار المستعمرين الصهاينة. ورفع كلفة بقائهم اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وديبلوماسيا وأخلاقيا. وتحميلهم أعباء سلوكهم العدواني، ومقاطعتهم وملاحقتهم قضائيا في المحافل الدولية. لجعل بقاء الكيان الصهيوني عبئًا ثقيلًا على مستوطنيه اليهود وعموم يهود العالم. وبذلك، تقويض مقدرته على مواصلة القيام بدوره الوظيفي الخاص كملاذ آمن ومزدهر لمستوطنيه اليهود ومصدر دعم لتعزيز النفوذ اليهودي في مواطنهم المختلفة في العالم. فتحرر اليهود من الصهيونية عبر رفع كلفة سيطرتها على الجماهير اليهودية داخل فلسطين وفي العالم (وهناك مؤشرات على تمرد بعض النخب اليهودية على الصهيونية سيكون محور مقال منفصل )،يشكل حجر الأساس في تقويض قدرة الكيان الاستعماري الصهيوني على مواصلة القيام بدوره الإمبريالي العام في المنطقة، كوكيل مكلف باستنزاف دولها وشعوبها، ومنع استقرارهم وتعطيل نموهم وتطورهم لإدامة هيمنة القوى الدولية المتنفذة عليها.

رابعًا: الاحتكام في اختيار المناهج الكفاحية إلى عدالة القضية الفلسطينية، وعلى حق الشعب الفلسطيني، المكفول في القانون الدولي، بممارسة كافة الأساليب الكفاحية المشروعة للتحرر من الاستعمار وبلوغ حقوقه الوطنية الثابتة في الحرية والعودة وتقرير المصير.

والثقة بقوة الجماهير الشعبية الهائلة عند تعبئتها وتنظيمها وإشراكها في الدفاع عن مصالحها الوطنية والحياتية، وبمقدرتها عند انخراطها الجماعي في النضال التحرري على تطويع ما يبدو مستحيلا وجعله ممكنا.

ويعتقد الشباب بأهمية الارتكاز في تحديد المناهج الكفاحية للمكونات الفلسطينية المختلفة بما يتناسب مع خصوصيات وظروف وطاقة كل منها. وما يعزز قدراتها الذاتية فرادى على الصمود المقاوم، ويسهم في تعزيز الصمود الوطني الفلسطيني بأسره، ويوفر موجبات موازين قوى جديد، تتراكم مفاعيله بشكل تدريجي وتراكمي عبر إنجازات يتم تحقيقها بالتوازي والتزامن في المجالات كافة.

وتتقاطع تصورات الشباب الفتي واقتراحاتهم للإصلاحات الفلسطينية الواجبة في المجالات الفرعية السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية، سيتم تكثيفها وتلخيصها في المقالات القادمة.

 

مشاركة: