الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   27 شباط 2022

| | |
شذرات على هامش الأزمة الأوكرانية
غانية ملحيس

مشكلة الولايات المتحدة الأميركية وعموم الغرب أنهم اعتقدوا أن انهيار الثنائية القطبية في أواخر ثمانينات القرن الماضي سيمكنهم من استئناف ذات المسيرة التي بدؤوها بعد انتصارهم الساحق في الحرب العالمية الأولى، عندما سعوا لاجتثاث الحضارات الأصيلة لإحلال الحضارة الغربية وعولمتها على الكون.

روسيا أفلتت، آنذاك، بعد الثورة البلشفية، وانغلقت على نفسها وركزت على تعديل ميزان القوى في الداخل لصالح الأغلبية. ما جعلها مثالا يمكن محاكاته خارج حدودها. وأهلها، ذلك، بعيد الحرب العالمية الثانية لفرض الثنائية القطبية على النظام الدولي.

واجتهد الغرب الاستعماري القائم على الرأسمالية وسطوة الأقلية التي تتحكم بالموارد، للسعي لتغيير الواقع الناشئ من خلال الحرب الباردة. فنجح في تفجير صراعات داخلية وإقليمية على امتداد العالم، وفي الترويج للنماذج الديموقراطية التي تمكن من إقامتها في بلاده بالإفادة من عوائد استعماره للشعوب الأخرى. واقتصرت تطبيقاتها على دوله، ولم يمتد تأثيرها للبلاد التي خضعت لاستعماره الطويل في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

وبالتوازي مع ذلك أسهمت مثالب ذاتية عديدة عرفها النظام الاشتراكي، ربما أهمها: الجمود الفكري، وتكلس الطبقات السياسية وفسادها، وغياب الحريات، واتساع الفجوة بين النظرية والتطبيق. ما أسهم في تقويض الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي من الداخل، وأدى إلى تفككهم وانهيار المنظومة الاشتراكية بدون حروب. وأسفر ذلك عن انتهاء الثنائية القطبية من النظام الدولي فوز النظام الرأسمالي بالتزكية وتفرده بالقيادة.

وعوضًا عن حل حلف الناتو بعد انتفاء مبرر وجوده في أعقاب تحلل حلف وارسو واندثاره. اعتقدت الولايات المتحدة الأميركية التي نجحت في إخضاع الغرب الأوروبي وإلحاقه بها وتسليمه بتفردها بالقيادة العالمية، وتحالفوا سويا لإخضاع عموم العالم. فأمعنوا في تمزيقه إربا وفقا لمصالحهم لإدامة الهيمنة الاستعمارية الغربية (زاد عدد دول العالم منذ الحرب العالمية الثانية من 52 دولة إلى 193 دولة حاليًا).

وبإمعان النظر في الجغرافيا السياسية لدول العالم - والدول العربية الـ 22 نموذجًا صارخًا- يتعذر إيجاد دولة واحدة ليست لديها مشكلات كامنة مع جيرانها، بسبب تداخلات حدودية أو إثنية أو عرقية أو قبلية أو طائفية أو مذهبية إلخ … بانتظار انفجارها عندما تتوفر الظروف وتتغير موازين القوى.

الأزمة الأوكرانية الراهنة إحدى تمثلات تصويب نتائج الحرب العالمية الأولى. سبقها قبل أربعة عقود استعادة ألمانيا للجزء الشرقي- والذي ما كانت ستسمح به الولايات المتحدة الأميركية وعموم الغرب الاستعماري لولا ضرورته، آنذاك، لتفكيك المعسكر الاشتراكي. ما يزال لدى ألمانيا أراضٍ كثيرة مقتطعة تسيطر عليها دول أخرى، وما يزال هناك تواجد لقواعد عسكرية أميركية على أراضيها.

وفي ضوء نتائج ما يجري في أوكرانيا، ستتوالى محاولات التصويب في مناطق أخرى على امتداد العالم، وقد تتشجع الصين على تسوية حدودها مع تايوان وهونغ كونغ. وربما لن تنتظر اليابان طويلا. وستواجه تركيا هزات في العام القادم مع انتهاء القيود على استخدام مواردها في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، وهكذا …

يشير التاريخ الإنساني المدون إلى أن الفاصل الزمني بين صعود الحضارات والدول وأفولها يرتبط بالعلاقة بين ميزان القوة والعدالة، اللذان يرتبطان بعلاقة عكسية. فتفوق القوة الذي يؤدي إلى الجموح وتخطي كل الحدود. هو ذاته الذي يؤسس للأفول. ولا يقتصر ذلك على العلاقات الدولية فحسب، بل يمتد لعلاقات أنظمة الحكم بالشعوب، ولمجمل العلاقات بين البشر.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
مشاركة: