الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   13 آذار 2022

| | |
هل يمكن للفلسطينيين استخلاص الدروس من الحقائق التي كشفتها الحرب في أوكرانيا؟ (1)
غانية ملحيس

الأفكار قوة دافعة للتاريخ، لكن تشكيل وقائعه تخضع لاعتبارات تتصل بموازين القوى التي تستبدل حقائقه الراسخة، بوقائع تمليها مصالح القوى الدولية المتنفذة. ونظرة متفحصة للتاريخ الإنساني منذ بدء تدوينه تبرز الحقائق التالية:-

أولًا: أن التاريخ البشري ما هو إلا سجل لتوالي صعود الحضارات الإنسانية وأفولها، وأن الفاصل الزمني بين الصعود والأفول يرتبط بمدى التوازن بين القوة والعدالة، اللتين ترتبطان بعلاقة عكسية. فتفوق القوة الذي يؤدي إلى الاستبداد والظلم، هو ذاته الذي يؤسس للأفول.

ثانيًا: أن النظام الدولي يحتكم إلى موازين القوى، ولا صلة تربطه بالمبادئ والأخلاق وحقوق الانسان. فإن كنت قويا ومقتدرا يمكنك استباحة الأوطان وتغيير مصائر الأمم والشعوب، وإخضاع الآخرين لطاعتك. وإن كنت ضعيفا فسوف يتم سحقك مهما كانت قضيتك عادلة.

ثالثًا: أن وجود الاتفاقات والقوانين الدولية الناظمة لعلاقات الدول لا يشكل ضمانة لنفاذها على الجميع. فالضعيف لا يملك من الخيارات سوى الاستجابة لمطالب القوي باعتباره أهون الشرور، ريثما يبني قوته الذاتية الكفيلة وحدها بصيانة حقوقه.

وأن فاعلية قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تؤخذ بالأغلبية الساحقة، تقتصر على الجانب المعنوي، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بفلسطين. (دون التقليل من أهميتها بشأن إبقاء الحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني في أرض وطنه حية في الذهن والضمير العالمي).

فبإمكان الفيتو الأميركي توفير الحماية والحصانة لإسرائيل واستثناءها من نفاذها. وقد قامت الولايات المتحدة الأميركية باستخدام الفيتو 42 مرة من أجل حماية إسرائيل. بل وحتى عند صدور القرار رقم 2334 بتاريخ 23 ديسمبر 2016، الخاص "بوضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967،ومطالبة إسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وعدم شرعية إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأرض المحتلة منذ عام 1967".والذي أتاح صدوره،آنذاك، امتناع الولايات المتحدة الأميركية عن التصويت في أواخر عهد أوباما عقابا لنتنياهو على إهانته له في عقر داره. لم يكتسب هذا القرار أي فاعلية تنفيذية، رغم انقضاء ثمانية أعوام على صدوره عن أعلى سلطة دولية.

رابعا: أن كل الحروب شر خالص لتداعياتها الكارثية على الشعوب. لكنها إحدى حقائق الحياة. والمبرر منها،فقط، هو ما يتصل باستعادة الحرية والسيادة، والحق الأصيل للشعوب في تقرير مصيرها في أوطانها كما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة الأولى لميثاق الامم المتحدة.

غير أن الغالبية الساحقة من الحروب التي عرفتها البشرية ذات علاقة بالأطماع الاستعمارية التوسعية ودوافعها عديدة: توسيع رقعة الأراضي، والوصول إلى المنافذ البحرية، والسطو على الموارد الطبيعية والمعدنية، والسيطرة على الأسواق لتصريف الفوائض الإنتاجية، واستغلال اليد العاملة الرخيصة، والهيمنة الدولية الخ ….

فجميع الإمبراطوريات التي تعاقبت سارت على ذات النهج منذ فجر التاريخ. لكنها تمايزت في مناهجها، وفي درجة العنف والوحشية لبلوغ أهدافها. إذ يجمع المؤرخون على أن المغول كانوا الأكثر وحشية في سلوكياتهم اتجاه الدول والشعوب التي خضعت لسيطرتهم، التي امتدت على 22% من مساحة الكرة الأرضية، (الأولى بأراض متصلة، والثانية بعد الإمبراطورية البريطانية التي امتدت سيطرتها إلى 23.84% من مساحة اليابسة، وشملت أراضي في جميع قارات العالم ما أكسبها لقب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس).

غير أن معيار المقارنة بين الإمبراطوريات الاستعمارية يفترض به أن لا يحتكم فقط إلى درجة الوحشية التي اتسم بها سلوكها اتجاه مستعمراتها. وإنما،أيضا، وأساسا إلى حجم الضرر البنيوي بعيد المدى الذي تسببت به للأمم والشعوب التي خضعت لسيطرتها.

ونظرة فاحصة للتاريخ المدون تظهر تفرد خصائص الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية عن سواها، ليس فقط لاتساع سيطرتها على الجغرافيا العالمية، وخصوصا البريطانية 23.84%، والأسبانية والبرتغالية معا 13%، والفرنسيه 7.72%، ثم الأميركية التي سعت منذ صعودها في مطلع القرن العشرين إلى الهيمنة الكونية، ونجحت منذ انهيار عصر الثنائية القطبية في التفرد بالقيادة الدولية، وإخضاع العالم لسطوتها. وإنما أساسا لضخامة وعمق التأثيرات البنيوية التي خلفها الغرب الاستعماري على حاضر ومستقبل الأمم والشعوب على امتداد الكرة الأرضية. اذ تنفرد الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية بخصائص عدة أهمها:

  • السعي لاجتثاث الحضارات الأصيلة، عبر إبادة الشعوب الأصيلة وإحلال الحضارة المادية الغربية مكانها (الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا ونيوزيلندا).
  • اعتمادها مبدأ "فرق تسد" لإدامة الهيمنة الغربية، عبر إعادة تشكيل الخرائط الجغرافية للمناطق الخاضعة لسيطرتها من أجل خلق ديناميات للصراعات بين الدول وداخلها، تتيح الفرص للتدخل الخارجي. واتفاقات سايكس - بيكو، نموذج لم يقتصر على منطقتنا، بل جرى تكراره في كل المناطق التي خضعت للسيطرة الاستعمارية الغربية.
  • استخدام الحروب والقوانين كآليات لتغيير الخرائط الديموغرافية في المناطق الخاضعة لسيطرتها، واعادة تشكيلها وفق أسس عرقية وإثنية ودينية وطائفية للحيلولة دون انصهار المكونات المختلفة للأمم والشعوب، ما يسهل إثارة الفتن الأهلية كلما اقتضت الحاجة لبسط الهيمنة.ويوفر، أيضا، فرصا لاختراق الدول عبر الاستقطاب الخارجي للمكونات الوطنية المتنافسة، لبنان نموذجا.
  • اقتلاع الشعوب بالقوة من أوطانها وإعادة موضعتهم وفقا للدور الوظيفي الذي تقتضيه مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
  1. اقتلاع 12.5 مليون إفريقي من المستعمرات الأوروبية في إفريقيا، شكل الأطفال المختطفون من أسرهم أكثر من ربعهم، لاستعبادهم في الإمبراطوريات الأوروبية (اسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولندا وفرنسا وبريطانيا). وفي بناء مستعمراتهم الجديدة عبر المحيط الأطلسي.(أميركا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا).فسنوا قوانين عنصرية صارمة تحدد الوضع القائم على أساس العرق والطبقة لإدامة استعباد الأفارقة المستقدمين مدى الحياة، وأتبعوا أطفال النساء الإفريقيات لأمهاتهم لتوريث العبودية، حيث يوفر امتلاكهم الثروة والقوة السياسية والعسكرية إذ كان يتم وضعهم على الخطوط الأمامية لجبهات القتال، وزجهم في الأعمال الخطرة والشاقة بالمناجم. وعلى الرغم من إنهاء العنصرية رسميا، ما يزال المواطنون السود والملونون، الذين مضى على وجودهم أكثر من خمسة قرون متصلة، يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، وما تزال حياتهم وحقوقهم مستباحة.
  2. اقتلاع يهود أوروبا الشرقية من أوطانهم الأصلية إبان الحرب العالمية الثانية (تضافرت تداعيات المذابح النازية المتزامنة مع إغلاق الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية حدودها أمام اليهود الفارين، من أجل توجيههم إلى فلسطين، التي تولت بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى مهمة إعدادها لاستقبالهم وتوطينهم فيها). واقتلاع الشعب العربي الفلسطيني من فلسطين المستهدف استبدالها بدولة يهودية وظيفية -إسرائيل- كي تضطلع بمهمة القاعدة الاستعمارية الاستيطانية الغربية المتقدمة، في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي للمنطقة العربية-الإسلامية الممتدة المستهدفة بالهيمنة.
  • الاستعلاء العرقي للمستعمرين البيض /من الأصول الأوروبية/.وتبني العقيدة العنصرية المرتكزة على سيادة البيض(أميركا وأستراليا وكندا ونيوزيلاندا وجنوب إفريقيا)، وعلى التفوق اليهودي على الأغيار (فلسطين).
  • استخدام القوة العسكرية لإحكام للهيمنة الغربية عموما والأميركية خصوصا، عبر إنشاء حلف عسكري عابر للجنسيات. فالمدقق في تاريخ حلف الناتو من حيث النشأة والتوسع المضطرد بعد انهيار الثنائية القطبية العام 1989، وحل حلف وارسو العام 1991. يخلص إلى استنتاج بأن هدف إنشاء حلف الناتو وتوسعه المضطرد لا علاقة له بالسياسات الدفاعية الأميركية والغربية، وإنما للسيطرة على عموم العالم غير الغربي.

فحلف الناتو، كما يعرف نفسه "منظمة عسكرية دولية" تأسست عام 1949 بمبادرة أميركية أسفرت عن إبرام معاهدة شمال الأطلسي، وشملت في عضويتها، آنذاك، بالإضافة لأميركا إحدى عشرة دولة من أوروبا الغربية (بلجيكا، كندا، الدنمارك، فرنسا، أيسلندا، إيطاليا، لوكسمبورغ، هولندا، النرويج، البرتغال، المملكة المتحدة) بهدف "الدفاع الجماعي المتبادل بين الدول الأعضاء، ردا على أي هجوم من قبل أطراف خارجية". علما بأن ثلاثة من أعضاء الحلف (الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا) حائزون رسميا على الأسلحة النووية، وهم أعضاء دائمون في مجلس الأمن الدولي إلى جانب روسيا والصين، ويمتلكون حق الفيتو. وقد توسع حلف الناتو لاحقا فانضمت إليه اليونان وتركيا عام 1955، وألمانيا الغربية عام 1955، وإسبانيا عام 1982.

وبالتمعن في ظروف إنشاء الحلف بعيد الحرب العالمية الثانية. يتضح أنه استهدف منذ البداية تقويض نظام الثنائية القطبية الناشىء في أعقابها، حيث تقود الولايات المتحدة الأميركية النظام الرأسمالي، ويقود الاتحاد السوفييتي والصين النظام الاشتراكي.

واللافت أن النظام الاشتراكي لم يعمد إلى إنشاء حلف مقابل، إلا بعد انضمام ألمانيا الغربية في العام 1955 لحلف شمال الأطلسي (إثر مؤتمري باريس ولندن لعام 1954). وبدء الحرب الباردة التي بادر إليها النظام الرأسمالي الغربي بتفجير الأزمات والحروب بالوكالة في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، لمحاصرة حركات التحرر الوطني والأنظمة الاشتراكية فيها. فعقدت دول الكتلة الشرقية مؤتمرا في وارسو بعد أسبوع من دخول جمهورية ألمانيا الاتحادية إلى منظمة حلف شمال الأطلسي في9/5/1955 وأعلن في14/5/1955 إقامة تحالف دفاعي جماعي بين دول الكتلة الشرقية، كثقل موازن لحلف شمال الأطلسي. وضم حلف وارسو جمهوريات الاتحاد السوفييتي الخمسة عشر وألبانيا وبلغاريا وألمانيالشرقية وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا والمجر.

وتجدر الاشارة إلى أن التوازن الذي أحدثته الثنائية القطبية في النظام الدولي قد وفر مظلة حماية نسبية لدول العالم الثالث ولحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، التي حظيت بدعم سياسي واقتصادي وعسكري من قطبي النظام الاشتراكي / الاتحاد السوفييتي والصين/. ومكن الكثير منها من تحقيق الاستقلال. وحظيت حركة التحرر الوطني الفلسطيني بدعم قطبي النظام الاشتراكي على الصعد العسكرية / التسليح والتدريب/ والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية. ووفر، أيضا، المنح التعليمية لعشرات الآلاف من الطلبة الفلسطينيين. وقد أسهم هذا الدعم في تطور وصمود الحركة الوطنية الفلسطينية ومنع تصفيتها. ولعب دورا حيويا في إعادة إدراج القضية الفلسطينية العادلة على جدول أعمال المجتمع الدولي، بعد أن تم شطبها وتغييبها لأكثر من ربع قرن (1948-1974).

واللافت أن انهيار الثنائية القطبية (1945-1989) وتفكك المعسكر الاشتراكي في نهابة ثمانينيات القرن الماضي، وتفكيك الكوميكون في5/1/1991، وحل حلف وارسو في 28/6/1991، وإنهاء الوجود القانوني لدولة اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في 26/12/1991، والمفترض به إنهاء العداء بين حلف الناتو وحلف والذي سبقه إعلان الرئيس السوفييتي ميخائيل جورباتشوف في7/12/1988 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التزاما أحاديا غير مشروط، بتخفيض حجم القوات المسلحة السوفيتية بنصف مليون جندي. وسحب ست فرق مدرعة من ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا والمجر حتى العام 1991. وتخفيض حجم القوات السوفيتية في هذه البلدان بمقدار خمسين ألف جندي. وتخفيض الأسلحة السوفيتية التقليدية في القسم الأوروبي من الاتحاد السوفيتي، وأراضي دول أوروبا الشرقية بعشرة آلاف دبابة و800 طائرة حربية وعدد كبير من قطع المدفعية. وتخفيض قدر كبير من القوات السوفيتية في القارة الآسيوية الموجودة في جمهورية منغوليا الشعبية.

وفي المقابل، قام حلف الناتو بالتوسع، فضم عام 1999 بولندا والمجر والتشيك. وفي العام 2004 ضم لاتفيا وليتوانيا وإستونيا ورومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا. وفي العام 2009 ضم ألبانيا وكرواتيا. وفي العام 2017 ضم جمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو). وفي العام 2020 ضم جمهورية شمال مقدونيا. وأصبح الحلف يضم ثلاثون دولة. أربعة عشر منها من دول الكتلة الاشتراكية السابقة.

  • استخدام الاقتصاد كآلية موازية للآلية العسكرية لإحكام الهيمنة الغربية عموما، والأميركية خصوصا على العالم أجمع. عبر السيطرة على الآليات الاقتصادية والمالية والتجارية الدولية (البنك الدولي للإنشاء والتعمير وصندوق النقد الدولي ومؤسسة التمويل الدولية ومنظمة التجارة العالمية).

وقد استخدمت الولايات المتحدة الأميركية هذه الآليات بداية لنقل مركز السيطرة من أوروبا إليها، فعمدت عام 1969 إلى استحداث آلية حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي كأداة مكملة للاحتياطيات الدولية، وتتألف من أربع عملات رئيسية هي "الدولار" الذي بلغت نسبة تمثيله في السلة إلى 49.7% و"اليورو" 32.9% و"الجنيه الإسترليني 12.1%و"الين" 7.1%. وتم إضافة اليوان الصيني عام 2018. ولبيان حجم تأثير الصندوق على الاقتصاد الدولي تكفي الإشارة إلى أنه قام بضخ 650 مليار دولار لتوفير السيولة النقدية في إطار مكافحة جائحة الكورونا. بلغ نصيب الدول الكبرى 70%، و3% فقط لاقتصادات الدول ذات الدخل المنخفض.

ثم قامت بتقويض نظام بريتون وودز عام 1971 وإنهاء اعتماد قاعدة الذهب كأساس لتثبيت أسعار الصرف، وإحلال الدولار الأميركي محل الذهب كقاعدة للتبادل وكملاذ للادخار. ووفقا لصندوق النقد الدولي، فقد شكل الدولار الأميركي في مطلع العام 2020 نحو 61.9% من الاحتياطيات الدولية. وللولايات المتحدة الأميركية الثقل الأكبر في القوة التصويتية في الصندوق، وتمتلك وحدها فيه حق الفيتو. ما يمكنها من التحكم الكامل بسياسات استخدام موارده.

ورغم أن إنشاء آليات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسة التمويل الدولية قد استهدف دعم الاقتصاد العالمي، والمعاملات التجارية بين الدول، إلا أنه جرى توظيفهم لبناء إمبراطورية تسيطر على اقتصاد العالم، من خلال الشروط التي يتم فرضها على الدول المقترضة: كسياسات الاقتصاد الحر، وتحرير التجارة، وخصخصة القطاع العام، وإلغاء دور الحكومات في توفير البنى التحتية التعليمية والصحية والاتصالات والمواصلات.

وللتدليل على الدور الخطير الذي لعبه كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في التدمير البنيوي للاقتصادات الوطنية في الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، نوجز بعض شهادات كبار الاقتصاديين الغربيين أنفسهم، فأستاذ الاقتصاد الكندي ميشيل تشوسودوفسكي (الذي عمل كمستشار اقتصادي لمؤسسات دولية عديدة ولعدة حكومات، ورئيسا لمركز أبحاث العولمة) يقول: أن برنامج صندوق النقد الدولي قد يترك البلد في بعض الأحيان فقيرا كما كان من قبل، لكن مع مديونية أكبر وصفوة حاكمة أكثر ثراء. ويقول الخبير الأميركي جوزيف ستيغليتز كبير الاقتصاديين في البنك الدولي الحائز على جائزة نوبل، وأحد أهم مساعدي الرئيس الأسبق بيل كلينتون: أن القروض التي تقدم من صندوق النقد الدولي تكون في حالات كثيرة ضارة. خاصة تلك التي توجه للدول النامية ودول العالم الثالث. ويوضح جون بيركنز مؤلف كتاب " الاغتيال الاقتصادي للأمم" والذي ترجم للعربية تحت عنوان "اعترافات قاتل اقتصادي“ السبل التي تعتمدها المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية في تغيير هياكل اقتصادات الدول، لخدمة القلة على حساب الغالبية الساحقة من الشعب. فيعرض لجملة الشروط التي تفرضها تحت شعار “الإصلاح الاقتصادي" وتقضي بتحرير التجارة، والخصخصة الكاملة للصحة والتعليم والمياه والكهرباء، وتقليص الضرائب على الدخل بدعوى تشجيع الاستثمار الأجنبي، والتحول من الضرائب المباشرة والتصاعدية للضرائب غير المباشرة على المبيعات، وتقييد التدخل الحكومي في الأسواق النقدية والمالية إلخ….

ويقول: هناك طريقتان لاحتلال أو تفتيت أي بلد تريد أميركا السيطرة عليه وعلى ثرواته: الأولى بالقوة أي باحتلاله. والثانية: بقتله اقتصادياً، أي بالخصخصة، وإغراقه بالديون. ولا يغفل التطرق إلى الإفساد باستخدام الرشاوي، وبالتهديد.

خامس الحقائق: أن الصراع الدولي الجاري بتصاعد منذ إعلان انتهاء الحرب الباردة إنما يستهدف تثبيت نتائج هزيمة النظام الاشتراكي في المجالات كافة العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية. وإلغاء نتائج اتفاق يالطا التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية، وأرغمت الغرب، آنذاك، على القبول باقتسام العالم وتقاسم النفوذ مع المعسكر الاشتراكي. ويسعى إلى تقويض كافة المكتسبات التي أحرزها قطبيه الرئيسين الصين وروسيا. بعد أن اطمأن إلى استكمال تحولهما وباقي العالم إلى النظام الرأسمالي. من خلال محاصرتهما وتحجيم دورهما في الساحة الدولية.

ومن أجل ذلك، بدأت الولايات المتحدة الأميركية - التي استكملت استعداداتها لإحكام سيطرتها على مراكز صنع القرار العسكري والسياسي والاقتصادي والمالي- بشن الحرب بداية على الصين، إذ رأت فيها التحدي القطبي الوازن الأكبر اقتصاديا وديموغرافيا وعسكريا وسياسيا لتفردها بالقيادة العالمية. وقد بلغت المواجهة مع الصين ذروتها في عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي تعمد تحييد روسيا، آنذاك، للتركيز في حربه على الصين، التي استطاعت استيعاب العقوبات وتجنب الاحتكاك، ونجحت في تأجيل حسم الصراع مع الغرب.

ثم حولت الإدارة الأميركية الديموقراطية الجديدة دفة الصراع للقطب الروسي، الذي يمثل التحدي الرئيسي الثاني لإضعافه أولا، وثانيا للقضاء على فرص التكامل الاقتصادي الذي كان يجري بتسارع مع ألمانيا، القوة الأوروبية المتنامية والوازنة اقتصاديا وديموغرافيا. والتي هزمت في حربين كونيتين ما تزال مرارة تأثيراتهما حاضرة في أذهان شعبها وأجيالها الفتية الساعية للنهوض. والمستهدفة أميركيا بالإخضاع لمنع تبلور قطب أوروبي يهدد انفرادها بالسيطرة على الغرب.

سادسًا: أن الولايات المتحدة الأميركية تستهدف من وراء المغامرة بتفجير الصراع المسلح مع روسيا على الساحة الأوكرانية دون الانخراط العسكري المباشر لحلف الناتو. تأمين اصطفاف عنصري للغرب تحت قيادتها، فتحت شعار هزيمة روسيا توظف حلف شمال الأطلسي لإحكام سيطرتها على دوله من جهة. وتفرض على عموم الغرب وحلفائهم على امتداد العالم شن حرب اقتصادية ومالية هي الأكبر في التاريخ، وقد تفوق في تداعياتها التدميرية تلك الناتجة عن الحروب العسكرية. فتضعف خصومها الأوروبيين بتحميلهم القسط الأكبر من تكلفة الصراع ما يؤمن انضباطهم الكامل للقيادة الأميركية من جهة ثانية. وتضعف عدوها الروسي لإقصائه عن حلبة التنافس كقطب وازن على الساحة الدولية من جهة ثالثة. وتعزز موقعها في الصراع التنافسي مع عدوها الأكبر، الصين عبر إضعاف حليفه الروسي من جهة رابعة. فإن تعذر حسم الصراع لصالح انفرادها بالقيادة العالمية، تكون قد منعت نشوء نظام دولي متعدد الأقطاب. وتعيد العالم إلى عصر الثنائية القطبية وتقاسم النفوذ مع الصين، باعتبار ذلك أقل البدائل سوءا، ربما لكلاهما. واللافت في الصراع الدائر حاليا التعامل الصيني الحذر والمتأني المناهض لأميركا والغرب، والمتحفظ نسبيا في الانخراط مع روسيا بالصراع. ربما لترجيح موقع الصين في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.

سابعًا: أن الصراع الاستقطابي الدولي الجاري حاليا صراع مركب غير مسبوق:

فهو صراع بين الحضارات القديمة غير الغربية، وبين الحضارة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وتسعى لعولمة وإحلال حضارتها، ونموذجها الأميركي الهجين، على العالم أجمع مكانها.

وهو يختلف جوهريا عما سبقه من صراعات كانت تجري في القرنين الثامن والتاسع عشر بين أقطاب ينتمون إلى ذات الحضارة الغربية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأميركا).

وهو يختلف جوهريا، أيضا، عن ذاك الذي شهده القرن العشرين بين نظام رأسمالي وآخر اشتراكي، يختلفان في العقائد والرؤى والأهداف والمناهج.

وهو صراع تنافسي يدور بين أقطاب النظام الرأسمالي النيو ليبرالي المعولم الذي تتحكم فيه قلة من أصحاب المصالح يتزايد تضاؤلها داخل الدول وعلى الصعيد الدولي. وتسيطر على الثروة والموارد وأنماط توزيع عوائد استخدامها. ويوضح تقرير أوكسفام الصادر في 21/1/2022 أبرز سماته التي يمكن تلخيصها بما يلي: تنامي الاختلال في توزيع الثروة والدخل داخل الدول والأقاليم وعلى المستوى الدولي. وتزايد تركزها في يد قلة مهيمنة من الدول وداخلها. ما يؤسس لتقسيم جديد للعالم بين أغنياء وفقراء.على صعيد الدول وداخلها. تختفي فيه الطبقة الوسطى، وتسود فيه طبقة غنية تتضاءل باضطراد، وتملك الثروة والقوة والسلطة، وتقيم بينها تحالفات مصلحية عابرة للجنسيات.وبين طبقة فقيرة يتسارع تناميها، ويتم تجريدها من أساسيات الحياة الكريمة. وتقايض احتياجاتها المعيشية بحقوقها الأساسية في الحرية وتقرير المصير، يتم تجنيدها في خدمة الأسياد. وقد اورد تقرير اوكسفام مجموعة من المؤشرات الدالة على ملامح العالم الذي نعيش فيه:

  • ضاعف أغنى عشرة رجال في العالم ثرواتهم بأكثر من الضعف خلال جائحة كورونا بمعدل 15 ألف دولار في الثانية أو 1.3 مليار دولار أميركي يوميا، فيما انخفضت قيمة الدخل إلى 99% من البشرية.
  • ارتفعت ثروة أصحاب المليارات عالميا منذ بدء جائحة كورونا مقارنة بما كانت عليه في السنوات الأربع عشر الماضية. وتشكل الزيادة بمقدار 5 تريليون دولار أميركي، وهو أكبر ارتفاع في ثروة أصحاب المليارات منذ بدء تدوين الإحصاءات.
  • ساعدت الحكومات أصحاب المليارات بتضخيم ثرواتهم. حيث ضخت البنوك المركزية تريليونات الدولارات في الأسواق المالية لإنقاذ الاقتصاد. وأدى ذلك إلى زيادة ثروات المليارديرات الذين يركبون الطفرة في سوق الأسهم. وقد فشلت حكومات البلدان الغنية في العامين الماضيين في زيادة الضرائب على ثروات الأثرياء، وواصلت خصخصة المرافق العامة. وشجعت احتكارات الشركات لدرجة أن الزيادة في تركيز السوق في فترة الجائحة وحدها، تهدد بأن تتجاوز في سنة واحدة ما كانت عليه في السنوات الخمس عشر الماضية من عام 2000 إلى عام 2015.
  • رغم أن الهدف المعلن من اللقاحات كان إنهاء الجائحة. إلا أن الحكومات الغنية سمحت لأصحاب المليارات من مالكي شركات الدواء والاحتكارات، بمنع إمدادات اللقاحات عن مليارات الأشخاص.

ويظهر التقرير أن فرض ضريبة بنسبة 99% على أغنى عشرة رجال في العالم لمرة واحدة فقط، تكفي لتغطية تكاليف إنتاج ما يكفي من اللقاحات لسكان العالم أجمع. ولتوفير الرعاية الصحية الشاملة والحماية الاجتماعية، وتمويل التكيف مع المناخ والحد من العنف القائم على النوع الاجتماعي في أكثر من 80 بلد. وأنه بعد كل هذا الإنفاق، سوف يبقى هؤلاء الرجال أغنى بثمانية مليار دولار أميركي مما كانوا عليه قبل الجائحة.

  • يساهم تفاقم اللامساواة يساهم بوفاة ما لا يقل عن 21 ألف شخص يوميا، بمعدل شخص واحد كل أربع ثواني. وأن المجموعات العرقية هي الأشد تأثرا من غيرها بالجائحة. فخلال الموجة الثانية من الجائحة في إنجلترا، كان احتمال وفاة الأشخاص من أصل بنغلاديشي بسبب إصابتهم بفيروس كورونا أكبر بخمسة أضعاف من السكان البريطانيين البيض. كما كان السود في البرازيل أكثر عرضة للوفاة بمرة ونصف المرة مقارنة بالبيض بسبب فيروس كورونا. وفي الولايات المتحدة، كان يمكن أن يكون 3.4 مليون أميركي أسود على قيد الحياة اليوم، لو كان متوسط عمرهم المتوقع يساوي متوسط العمر المتوقع للبيض.ويرتبط كل ذلك ارتباطا مباشرا بالتاريخ الاستعماري والعنصرية.
  •  تراجع إمكانية تحقيق التكافؤ بين الجنسين من 99 سنة إلى 135 سنة بسبب الجائحة والسياسات المنتهجة لمواجهتها. فقد خسرت النساء مجتمعة 800 مليار دولار أميركي من الدخل في العام 2020، أي ما يعادل أكثر من الناتج المحلي الإجمالي المجمع ل98 دولة. مع زيادة حجم البطالة بين النساء بنحو 13 مليون امرأة مقارنة بعام 2019. ويشير التقرير إلى أن 252 رجلا فقط، يمتلكون ثروة تفوق ما تملكه جميع النساء والفتيات في إفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي معا.
  •  يشير التقرير إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تعد واحدة من أكثر المناطق والاقاليم في العالم من حيث الفجوات الاقتصادية. قد زادت ثروات المليارديرات فيها بنسبة 23٪ أثناء الوباء، بينما شهد 90٪ من الأفراد الأقل حظا انخفاضا في حصتهم من الثروة في العام 2021. ويؤكد التقرير على إمكانية توفير مبلغ 79.3 مليار دولار أميركي سنويا في المنطقة، أي ما يكفي لزيادة الإنفاق على الصحة العامة في جميع دولها بمقدار النصف، لو تم فرض ضريبة سنوية على ثروة أصحاب الملايين والمليارات فيها.

يستهدف هذا العرض المسهب توفير إطار معرفي يتيح الإمكانية لاستخلاص الدروس التي يتعين علينا كفلسطينيين فهمها بدقة من أجل بلورة سياسات تحفظ وجودنا كشعب، وتعزز صمودنا على أرض وطننا وفي مواطن اللجوء. في فترة تاريخية فارقة تحمل من الفرص الواعدة لمن يجيد توظيفها، بقدر ما تنطوي عليه من مخاطر مصيرية للعاجزين.

وحري عن القول، بأن التفاعل بالنقد والعصف الذهني حول ما خلص إليه هذا الجهد البحثي المتواضع، ينطوي على أهمية كبيرة، في مسعاي للإسهام بالاستخلاص الصحيح للدروس التي يتعين علينا كفلسطينيين استخلاصها، والتي ستكون محور الجزء الثاني.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
مشاركة: