موجع رحيلك المبكر يا شيرين في لحظة تاريخية فارقة، حيث لم تعد ازدواجية معايير النظام الدولي مستترة. وحيث باتت حياة أبناء الشعب الفلسطيني تستباح على الملأ، حتى وإن حملوا جنسيه الولايات المتحدة الأمريكية، التي تولي الأولوية لوكلائها التنفيذيين في الكيان الصهيونى حتى على حساب مواطنيها الأمريكيين عندما يناصرون حقوق الانسان عموما والفلسطيني خصوصا. فعندها لا ميزة حتى لانتمائهم للعرق الأبيض كما حدث مع راشيل كوري، التي اغتالتها جرافة عسكرية إسرائيلية أمام أعين العالم في 16/3/2003،عندما حاولت منع اقتلاع البيوت في مدينة رفح الفلسطينية. وبالتأكيد لا تمنح المواطنة الأمريكية الحصانة لذوي الأصول الفلسطينية، كعمر عبد المجيد أسعد، الثمانيني الذي قتله النازيون الصهاينة مقيدا معصوب العينين وألقوا بجثته في منزل قيد الإنشاء في قرية جلجيليا شمال رام الله في 13/1/2022، ولا لشيرين أبو عاقلة التي امتهنت الصحافة " كي تكون كما قالت " قريبة من الناس، رغم أن ذلك ليس سهلا، وربما أنا غير قادرة على تغيير الواقع، لكنني على الأقل كنت قادرة على إيصال صوتهم إلى العالم ".
ليس دقيقا أنك لم تتمكني في حياتك يا شيرين من تغيير واقع الشعب الفلسطيني. فقد كشفت لحظة استشهادك أنك أسهمت في الارتقاء بمهنة الصحافة الملتزمة بالحق والحقيقة. وفي النهوض بالوعي الجمعي الفلسطيني والعربي باقتدار المرأة الفلسطينية، وتبديد التحفظ حيال قدرتها وكفاءتها في مجتمع محافظ ذكوري بامتياز. ونجحت في استحضار الهوية الوطنية الفلسطينية الواحدة التي اتسم بها شعبنا الفلسطيني منذ الأزل، وتوارت بعد أن شوهها الساسة الذين جزؤوا فلسطين، وقسموا شعبها إلى طوائف وقبائل وفصائل وتيارات تتصارع فيما بينها على نفوذ وهمي تحت حراب استعمار استيطاني عنصري يستهدفهم جميعا.، وتمايزت فلسطينيا واحتفظت باستقلاليتك في ساحة تعج بالخلافات والاستقطاب بأشكاله المختلفة: العقائدية والسياسية والاجتماعية والجهوية والحزبية والفصائلية. ومرشدك الوحيد في ذلك بوصلة الوطن الذي عشقتيه، وخدمة قضية شعبك التي نذرت حياتك لها.
والأهم يا شيرين أنك أعدت الثقة بصواب البوصلة التي يحتكم إليها الشعب الفلسطيني في تقديره ووفائه لرموزه. وعمادها الوطنية الحقة، والالتزام بإحقاق الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف ومرتكزها الحرية والعودة وتقرير المصير. والثبات على المبدأ القائم على وحدة الأرض والشعب والقضية. والمهنية والإخلاص في أداء المهام التخصصية، والمصداقية التي لا تكتسب إلا بالتراكم.
لقد أعدت لنا الروح يا شيرين رغم هول الحزن على رحيلك، واستحقيت المكانة الرفيعة في عقول وقلوب الفلسطينيين جميعا في كافة مناطق تواجدهم داخل الوطن المحتل وفي المنافي القريبة والبعيدة. وأصبحت محور إجماع فلسطيني قل مثيله، وتمكنت بشجاعتك الملفتة، ومهنيتك العالية، وهدوئك اللافت، وحضورك الدائم والمتميز في تغطية التراجيديا الفلسطينية، حيث يواصل الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ارتكاب حروب الإبادة والتصفية العرقية بحق الشعب الفلسطيني للعقد الثامن على التوالي دون خوف من عقاب. ولم تفت من عزيمتك الحصانة الاستثنائية الدولية الممنوحة لشعب الله المختار من نفاذ القوانين الإلهية والإنسانية. ولم ينل ذلك من إصرارك على المواظبة على كشف جرائم المستعمر الصهيوني.
ولم ترهبك تهديدات نظام الفصل العنصري، فتسابقت مع الزمن لتصلي إلى جنين ومخيمها قبل جنوده وخبراء المجازر والإرهاب المأفونين بالكره والحقد والمدججين بأحدث الأسلحة. لتكوني مع أهل جنين ومخيمها الصامدين الذين عرفوك كما عرفتيهم ووصفتيهم بحق بأنهم " لم يفقدوا الأمل قط. ولم يسمحوا للخوف أن يتسلل إلى قلوبهم، ولم يكسرهم جنود الاحتلال".
كل فلسطين يا شيرين يسكنها الحزن لرحيلك المبكر. وجنين ومخيمها وكما وصفتيهم بدقة متناهية في مقالتك أثناء تغطيتك لهروب أبطال سجن جلبوع. "لم يكونا مجرد قصة عابرة في حياتك المهنية والشخصية، بل المكان الذي يمكن أن يرفع معنوياتك ويساعدك على التحليق. ويجسد الروح الفلسطينية التي ترتجف أحيانا وتسقط، لكنها، فوق كل التوقعات، ترتفع لتتابع مسيرتها وأحلامها".
وها أنت تختارين جنين ومخيمها لتنطلق منها روحك الطاهرة وتحلق في سماء الكون بأسره. وليدوي صوتك عاليا بالمظلمة الفلسطينية. ولتواجهي بذات الأنفة والكبرياء ظلم المجتمع الدولي لشعبك المناضل الصامد الصابر. فترغمي زعماءه على التسابق-لمواراة تواطئهم على الحق الفلسطيني- بإدانة الجريمة النكراء. وإن اقترن، ذلك، بمحاولة تبرئة الجناة الصهاينة من دمك المهدور كما دماء عشرات آلاف الفلسطينيين، والتي ما تزال تتدفق على ثرى فلسطين للقرن الثاني على التوالي. ومسارعتهم بالدعوة للتحقيق في ملابسات الجريمة "، رغم معرفتهم اليقينية بالجناة، الذين أربكهم حجم الغضب الذي ملأ العالم بأسره، فتعددت وتناقضت رواياتهم وتكشف زيفها، وأربك ذلك رعاتهم وحلفاءهم.
يفجعنا رحيلك عن دنيانا يا شيرين، لكنه القدر الذي لا راد لجبروته، وعزاؤنا في قبوله أن الشعب الفلسطيني بأسره قد خرج لوداعك، وأنزلك منزلة القادة العظام والقديسين. ويخفف ألم مصابنا الجلل برحيلك المبكر أننا قد حظينا بشرف معرفتك شخصيا، والتعلم منك في كيف يكون حب الوطن، والسبيل إلى استحقاق شرف المواطنة الحقة. وكيف يكون التفاني في ممارسة مسؤولياتها، بافتداء حب الحياة وشغف عيشها بحرية الوطن والشعب.
فوداعا أيتها الفلسطينية النبيلة التي ملأ صوتها الدنيا في حياتها، وردد الكون بأسره أصداء صوتها المدوي بعد اغتيالها، شيرين أبو عاقلة… فلسطين المحتلة.
كم سيصعب علينا تصور المشهد الإعلامي الفلسطيني بدون إطلالتك البهية، وصوتك الهادئ الذي يحول الألم إلى أمل، وكم سنفتقد حضورك وابتسامتك الدافئة وثقتك بدور الكلمة والصورة في إيقاظ الضمير العالمي، ويقينك بحتمية انبلاج فجر الحرية مهما اشتدت حلكة الواقع.
لتنعم روحك الطاهرة بفضاء الحرية في سماء فلسطين، وستبقى سيرتك العطرة ومسيرتك الثرية الحافلة بالعطاء علامة فارقة، ومصدر إلهام للأجيال الفلسطينية المتتابعة.
تغمدك الخالق بواسع رحمته وأسكنك فسيح جناته، الرب أعطى والرب أخذ، وليكن اسم الرب مباركا.