هناك جدل كبير بشأن ترمب في فترة رئاسته الثانية، وهل يكون مثلما كان في فترة رئاسته الأولى؟ وتتباين الآراء بين من يرى أنه سيكون كما كان وأسوأ، وبين من يؤكد أن هناك ترمب جديدًا يناسب الوضع في أميركا والعالم القائم حاليًا، والذي يختلف عما كان عليه الحال قبل ثماني سنوات.
الآن ظهر أكثر من قبل أن العالم متجه نحو نظام عالمي متعدد القطبية، وهذا انعكس على منطقتنا، بدليل أن هناك تنافسًا بين ثلاثة مشروعات الإيراني والتركي والإسرائيلي، والغائب المشروع العربي. وهذا التنافس ساهم في التلاقي مع الموقفين الصيني والروسي بأن إسرائيل التي كانت تحسم حروبها خلال أيام، وفي حد أقصى في أسابيع، لم تستطع بعد أكثر من 400 يوم من حسم الحرب لا على الجبهة الفلسطينية ولا على الجبهة اللبنانية ولا على أي جبهة من الجبهات.
صحيح أنها شنت حرب إبادة وسببت نكبة ثانية للفلسطينيين، وأدّت إلى تهجير أكثر من مليون لبناني، وتدمير الكثير من القرى والمنازل والمؤسسات، ولكنها لم تقض على المقاومة، وتتكبد خسائر كبيرة بشرية واقتصادية وأخلاقية وعلى كل المستويات، خصوصًا في الرأي العام العالمي الذي شهد تحولًا كبيرا لصالح تبني وتفهم الرواية الفلسطينية.
كما أنها لم تتمكن من إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين، ولم تتمكن من إعادة المهجرين، وكذلك لم تستطع تهجير الفلسطينيين إلى خارج وطنهم، ولا إيجاد حتى الآن جهات محلية فلسطينية عميلة ولا جهات عربية ودولية تقوم بإدارة قطاع غزة، وتغطي على الاحتلال الذي ينوي هندسة القطاع جغرافيًا وبشريًا وإبقاء السيطرة الإسرائيلية عليه.
السؤال الآن: هل تتمكن حكومة اليمين المتطرف بعد فوز دونالد ترمب من تحقيق ما لم تحققه من أهدافها حتى الآن، وتمضي أكثر نحو ضم الضفة الغربية وتطبيق صفقة ترمب معدلة، بعد حذف ما تنص عليه من إقامة دولة فلسطينية على 70% من مساحة الضفة، مع أنها لن تكون دولة، بل معازل آهلة بالسكان مقطعة الأوصال ومعزولة عن بعضها البعض، من خلال المناطق العسكرية والأمنية والمستوطنات والطرق الالتفافية والمحميات الطبيعية والمناطق الدينية والأثرية.
المحسوم أن الوضع في ظل رئاسة ترمب الثانية سيكون أسوأ عما كان عليه في فترة رئاسته الأولى. فصاحب صفقة القرن التي هدفها دفن القضية الفلسطينية، الذي اعتبر أن مساحة إسرائيل صغيرة وبحاجة إلى توسيعها وطالب نتنياهو أثناء حملته الانتخابية بإنجاز المهمة بسرعة، وأن إدارة بايدن تقيّد يدي حكومة نتنياهو؛ لا يمكن أن يصبح ملاكًا أو شخصًا جديدًا، لأنه غاضب من نتنياهو لعدم وفائه والتزامه بوعده بالمشاركة في اغتيال قاسم سليماني، ولأنه لم يكن متحمسًا للسلام.
وكذلك لا يمكن المراهنة على ترمب لأنه متقلب ولا يمكن توقع ما يفعله، ورجل صفقات لا يتورع عن عقد صفقة تفيده ويتردد مرتين قبل الإقدام على ما قد يسبب له الخسارة، أو لأنه قوي لدرجة السيطرة على مجلسي الكونغرس والمحكمة العليا والتصويتين الشعبي والمجمع الانتخابي، ولن يحتاج إلى دعم مجموعات الضغط الصهيونية وغيرها، كونه لن يستطيع الترشح مرة أخرى وليس حريصًا كثيرًا على مستقبل الحزب الجمهوري، أو لأنه قال بأنه لن يشعل حروبًا وسيوقف الحروب القائمة، ولكن الناطقة باسمه إليزابيث بيبكو صرحت أنه يريد حسم الحرب مع الفلسطينيين بسرعة ولكن بانتصار حاسم لإسرائيل.
على الجميع أن يتذكر أن فلسفة ترمب التي عبر عنها بشعارات الحملة الانتخابية تقوم على "أميركا أولًا" وأن المستقبل للوطنيين لا للعولميين، وثانيًا نادى بالتخلي عن النزعة التدخلية العسكرية إلا للضرورة القصوى، واستعاض عنها باللجوء إلى الحروب الاقتصادية والعقوبات والحمائية والتعرفة الجمركية ورفع مساهمة الجميع، بمن فيهم أوروبا الحليفة، وثالثًا التركيز على الاقتصاد والاقتصاد والاقتصاد.
على الرغم من كل مما تقدم، وعلى أساسه لا يمكن التصرف على أساس أن ما سيحدث في المنطقة والعالم بعد عودة ترمب يتوقف على ما يفعله أو لا يفعله فقط، بل إن ما سيحدث يتوقف على ما يفعله أو لا يفعله اللاعبون في كل منطقة، من الصين التي تنافس على قيادة العالم، إلى إيران التي تسعى إلى الحفاظ على نفسها ودورها ونفوذها وتوسيعه، وكذلك على ما ستفعله أو لا تفعله الدول العربية، وتحديدًا السعودية، والقيادة الفلسطينية والفصائل على اختلاف أنواعها، وكل اللاعبين الفلسطينيين الذين يجب ألا يتبنوا إستراتيجية الانتظار وردود الأفعال، بل لا بد من رؤية شاملة وإستراتيجيات فاعلة مبادرة، وتوحيد القيادة وإحياء المؤسسة الوطنية التي تجسدها منظمة التحرير، فما سيحدث يتوقف على استمرار أو عدم استمرار السياسات العربية، فعلى العرب محاولة إغوائه أو إجباره، وهذا يتطلب بلورة مشروع عربي يسعى إلى وضع الحقوق والمصالح العربية على رأس الأولويات.
وإذا دخلنا أكثر في عمق الموضوع، هل تكرر القيادة الفلسطينية ما قامت به في فترة رئاسة ترمب الأولى، إذ راهنت عليه في البداية، وطالبته بعرض صفقته التاريخية، ثم صُدمت بما قام به، لدرجة وصفه الرئيس محمود عباس بـ "ابن الكلب"، وصولًا إلى قطع المساعدات الأميركية عن السلطة ووكالة الأونروا، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإغلاق القنصلية الأميركية في القدس، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، إضافة إلى اعتبار الضفة ليست محتلة، بل إنها أراضٍ متنازعٌ عليها والاستيطان فيها شرعي، فضلًا عن الاعتراف بضم الجولان وإطلاق الاتفاقات الإبراهيمية .
يؤمن ترمب بفلسفة السلام، ولكن على أساس تحقيقه عبر القوة والردع وإعادة أميركا عظيمة كما كانت، وأخذ ما يريد بعقد الصفقات والحروب والعقوبات الاقتصادية، وبرفع التعرفة الجمركية والتكلفة على الحلفاء والمنافسين والأعداء، وهذا سيزيد مروحة المتضررين منه والمعارضين لسياساته.
تأسيسًا على ما سبق، تستطيع القيادة الفلسطينية ألا تأخذ بالنصائح غير الحميدة التي تقدم لها باختيار عقد صفقة مع ترمب بالشروط التي يقبل بها وهذا خطأ كبير، بل خطيئة لا تغتفر؛ أي تقبل بسقف منخفض، سواء مباشرة أو من خلال الرياض، حيث تكون فلسطين جزءًا من الصفقة الأكبر التي ستعقد بين ترمب وابن سلمان لتطبيع العلاقات ودمج إسرائيل في المنطقة بوصفها لاعبًا مهيمنًا، مقابل الفتات للفلسطينيين والعرب.
كما تستطيع القيادة الفلسطينية أن تبدأ الآن وفورًا بجمع أوراق القوة والضغط الفلسطينية والعربية والدولية، وتقيم تحالفًا عالميًا مؤيدًا للحقوق الفلسطينية، والتصرف على أساس أن عدم تلبيتها هو الذي يهدد الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، وكذلك إعطاء الأولوية لترتيب البيت الفلسطيني، والشروع فورًا في حوار وطني شامل، وتشكيل حكومة وفاق وطني، وتفعيل الإطار القيادي المؤقت وتوسيعه بضم ممثلين عن تجمعات وقطاعات وشخصيات وحراكات فاعلة، تمهيدًا لتشكيل مجلس وطني جديد عبر الانتخابات حيثما أمكن واعتماد التعيين من خلال معايير موضوعية وبالتوافق الوطني حيثما لا يمكن إجراء الانتخابات.
ويتضمن ترتيب البيت الفلسطيني وحدة النظام السياسي، ووحدة مؤسسات والسلطة في سلطة واحدة، ووحدة الإستراتيجية والقيادة على أساس أن الهدف الأول هو وقف حرب الإبادة والضم والتهجير والإغاثة والتعمير، والهدف المركزي في هذه المرحلة هو إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين.
وبعد ترتيب البيت الفلسطيني أو بشكل متوازٍ معه، يتم حشد أوسع تأييد عربي، خصوصًا من العواصم العربية التي لها تأثير، وعلى رأسها السعودية، من أجل بلورة مشروع وموقف عربي موحد، والتفاوض مع ترمب من موقع قوة للتوصل إلى صفقة شاملة.
هل ترتيب البيت الفلسطيني والعربي ممكن أم صعب؟ بلا شك صعب، ولكنه ليس مستحيلًا، وهو يستند إلى أن المخطط له أن تكون إسرائيل هي الدولة المركزية المهيمنة على المنطقة، وهذا من شأنه تحجيم الدورين الإيراني والتركي، ومنع تزايد الدور العربي، ومنع بلورة مشروع عربي موحد، وبناء موقف آخر على أساسه يستند إلى أن الصين وروسيا ودول الجنوب والقوى القديمة والجديدة في الغرب ترفض بقاء السيطرة الأميركية الأحادية على العالم، كما ترفض استمرار إسرائيل في توفير الأجواء والدفع باتجاه الحروب وعدم الاستقرار، أو ترفض بقاء الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على المنطقة العربية التي تسمى زورًا الشرق الأوسط.
هناك إمكانية لتحويل الأزمات والتحديات الجسيمة إلى فرصة، فالآن الرياض والأمير محمد بن سلمان في وضع أفضل عما كانت عليه في العام 2016، وعلاقتها بطهران وأنقرة أفضل من السابق بكثير، وتنوعت علاقاتها على امتداد العالم مع بكين وموسكو وغيرهما، ولم تقتصر على الولايات المتحدة وأوروبا.
كما أن أوروبا ستكون متضررة من السياسة الانعزالية الأميركية التي ستُحمّل أوروبا أعباء إضافية، وستمكّن من إعطاء فرصة لوقف الحرب الأوكرانية على أساس تثبيت الوضع القائم؛ أي لصالح موسكو نسبيًا على الأقل، وهذا سيجعل أوروبا أو بعض دولها أكثر قدرة على القيام بدور استقلالي أكثر عن واشنطن.
هناك طريق لجعل عودة ترمب التي تشكل مأزقًا وتحديًا كبيرًا إلى فرصة إذا كانت هناك إرادة فلسطينية وعربية واعية لا تبالغ في المخاوف، ولا تقلل مما تملكه من أوراق قوة وقدرة على التأثير.