اقتبس من مقال سابق نشرته قبل خمسة أشهر، وأشرت فيه إلى الدور الرئيس للإعلام الذي يضاهي وقد يفوق في أهميته دورالقوة العسكرية. ما يتوجب معه تقديمه- وفقا للقدرة على التأثير- على السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. وليس كما استقر في الذهن كسلطة رابعة.
ذلك أن دورالإعلام لا يقتصرعلى تزويدنا بالمعلومات عن الأحداث والتطورات التي تدور حولنا محليا وإقليميا ودوليا فحسب. وإنما يسعى – عبر صوغها ونشرها – إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي والفردي ومنظومة التفكيرالتي تعيد ترتيب الأولويات لخدمة الأهداف الاستراتيجية، وتحفظ بنية وديمومة نظام الهيمنة الاستعمارية الغربية الصهيونية العنصرية. عبر تضخيم دورالأفراد في صنع مصائر الشعوب والدول. لحرف الأنظارعن دور المحافل التي تصنع القرار. ولتوجيه التفكير والجهد الإنساني بالتركيز على الأشخاص والجماعات التي تأتي بها ذات المحافل لإعادة هندسة العالم بالسرعة القصوى والكلفة الدنيا وبأقل قدرمن الضجيج.
وبالنظرإلى انشغال جميع وسائل الإعلام في مختلف أنحاء الكرة الأرضية بالرئيس الأمريكي- الملاحق قضائيا بقضايا جنائية وأخرى مدنية والمنتخب ديموقراطيا من الشعب والمجمع الانتخابي- والتركيز على فرادة شخصيته وسلوكياته وتصويره وفريقه وكأنهم نبت شيطاني شاذ وسط الأخيار.
وتجند الجميع: مفكرين ومثقفين وسياسيين ومحللين ومراقبين وأطباء نفسيين في تتبع قراراته التنفيذية- التي يحرص على عرض توقيعه عليها بالبث الحي لتنقله وسائل الإعلام المحلية والعالمية. وتصريحاته المزلزلة لاستقرار الحلفاء /كندا وأوروبا ودول الناتو/ وتوعد المكونات الأصيلة في أمريكا الجنوبية والشرق الأوسط المستهدف تسريع استكمال إعادة هندسته. بالجحيم إن استعصى أي منهم. وتمردت دوله على تنفيذ أوامره والخضوع لرغبته باستقبالهم ملايين الفلسطينين المقيمين في فلسطين منذ آلاف السنين. لتسمين دولة إسرائيل الصغيرة. والبدء بمليوني فلسطيني هم سكان قطاع غزة. بعد أن تيقن مبعوثه إلى الشرق الأوسط - ستيفن ويتكوف الملياردير والمستثمر ومطور عقارات والمحامي الأمريكي- من إنجاز وكيله الصهيوني نتنياهو وجيشه" الذي لا يهزم". مهمة الهدم والتدمير لقطاع غزة، ولم يتبق سوى إخلاء من نجا من سكانه من حرب الإبادة. وتسليم القطاع فارغا للسيد الأمريكي، كي يشرع المستثمرون بإزالة الركام وإنشاء" ريفيرا الشرق الأوسط". واستيفاء شروط استحقاقه جائزة نوبل للسلام.
وقد حرص الإعلام الأمريكي والعالمي الذين نقلوا وقائع المؤتمر الصحفي الذي أعقب اجتماع الرئيس الأمريكي مع نتنياهو كأول ضيف أجنبي/ مواطنه مزدوج الجنسية/على إضفاء فرادة على الرئيس الأمريكي وضيفه رئيس وزراء الكيان الصهيونى. اللذان يتميزان بصفاقة غير معهودة . وإبرازهما كاستثناء في التاريخ الأمريكي والصهيوني وعموم الغربي.
غير أن مراجعة عاجلة للرؤساء الأمريكيين الذين تعاقبوا على الحكم منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية فوق أنقاض السكان الأصليين وحتى اللحظة . تدلل على اقتصار التمايز بينهم على الشكليات، والتماثل في الجوهر الإجرامي. يؤكده ثبات الأهداف واختلاف الأساليب لبلوغها. وبالتمعن قليلا في الرؤساء الأمريكيين الذين تعاقبوا على الحكم في العقود الأخيرة منذ انهيار الثنائية القطبية وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة العالمية أواخر ثمانينيات القرن الماضي. (جورج بوش الأب،بيل كلينتون، جورج بوش الإبن، باراك أوباما، دونالد ترامب، جو بايدن ، ثم دونالد ترامب مرة أخرى) وتباين انتماءاتهم الحزبية:الجمهورية والديمقراطية، وما بدى اختراقا للتقاليد الأمريكية العنصرية وتحيزها ضد السود والمسلمين بوصول المهاجر باراك حسين أوباما للرئاسة. ليتبين أنه أكثر رؤساء أمريكا خوضا لحروب ضد الدول العربية والإسلامية (العراق وسوريا واليمن وباكستان وأفغانستان والصومال وليبيا). وأكثر الرؤساء الأمريكيين سخاء في تقديم المساعدات العسكرية للكيان الصهيوني. بإبرامه اتفاقا قبل أقل من شهرين من انتهاء ولايته. وبالرغم من إذلاله بإلقاء نتنياهو خطابا في الكونغرس رغما عنه. وتعهده بالتزام الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم 38 مليار دولار لمدة 10 سنوات، وهو أكبر التزام بالمساعدات العسكرية الأميركية لأي دولة على الإطلاق. ما يوضح براعة المحافل التي تصنع القرار، أو ما اصطلح عليه الدولة العميقة أو اليد الخفية. وكفاءتها اللافتة في فرز واختيار الرؤساء وفقا لاستحقاقات المراحل المختلفة، ومقتضيات تتابع وتراكم الإنجازات وترسيخها وتسريعها. لإدامة هيمنة وتفرد التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري بالقيادة العالمية. الذي تتولى حاليا الولايات المتحدة الأمريكية قيادته. وتسخر كل قواها لعرقلة بروز منافسين ومنع وصول أقطاب دوليين وازنين. برفع كلفة سعيهم لإنهاء الاحتكارالأمريكي وتأخيره لأطول فترة ممكنة إن تعذر منعه بالقوة.
ويلعب الإعلام دورا حاسما في حرف الأنظار. تارة بالترويج لزعماء لخداع الدول والشعوب بوعود كاذبة في صنع السلام الذي تتوق إليه. وتارة أخرى بالإيحاء بأن احتداد الأزمات التي تنذربانفجار الأوضاع ، يتعلق بسلوكيات القادة وجموحهم. لإبعاد النظام الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري عن دائرة الضوء.
ولا تتورع المحافل عن توجيه الإعلام لتحميلهم كامل المسؤولية. بل وتبدي جاهزية للتضحية بهم والتخلي عنهم عندما يصبح بقاؤهم في مواقعهم عبئا يهدد استقرار النظام. فيرفع الغطاء عنهم، ويروج لمرشحين آخرين ملتزمين بذات العقيدة والأهداف. وغالبا ما يأتي بهم من صفوف المعارضة الأكثر تمايزا، الملتزمة بذات الأهداف لإرضاء الرأي العام المحلي والدولي والإيحاء بالتغيير. ما يحفظ أساسات النظام ويعزز استقراره ويمكنه من المراكمة على ما تحقق من منجزات. والمضي قدما في تنفيذ ذات الرؤى والسياسات والأهداف الاستراتيجية التي يسعى لتحقيقها.
وقد برع الغرب في بناء النظام الرأسمالي وتثبيت مرتكزاته الاستعمارية الغربية العنصرية/ العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والإعلامية والإدارية إلخ…(الدولة العميقة)، وابتدع سبل تجديد النظام وتطويره ذاتيا، بما يحفظ مرتكزاته. ويؤمن استقراره الداخلي. ويوسع نفوذه الخارجي لتأمين مستلزمات البقاء والنمو والتطور، وإدامة هيمنته على النظام الدولي. ونجح في بناء آليات تنظيمية ومؤسسية مرنة، تضمن تحييد تأثير تغيرالأفراد على بنية النظام. وتتيح الفرصة لاستبدال القادة بسلاسة عندما يصبحون عبئا عليه.
ولفهم ظاهرة ترامب ونتنياهو في سياقها الصحيح يتوجب استحضار التاريخ. والعودة الى جذورومرتكزات الحضارة الغربية الأوروبية الحديثة الأنغلو - ساكسونية العنصرية. المأفونة بعقدة تفوق العرق الأبيض على الآخرين. واعتبارهم مرتبة أدنى. ومنهجها الاستئثاري الإقصائي، والعداء للآخر المختلف عرقا ولونا ودينا ومعتقدات. وأطماعها الاستعمارية التوسعية. وانقلابها على الأديان بداية بالانقسام بين الكنائس الأورثوذكسية الشرقية والكاثوليكية الغربية. والاستقطاب الديني والقومي الحاد أواخر القرن الخامس ومطلع القرن السادس عشر. بالتزامن مع تفكك النظام الإقطاعي. وتنامي القوميات. وظهورالرأسمالية. وسقوط الحكم الإسلامي في الأندلس الذي استدام نحو ثمانية قرون (711 - 1492). وانقلاب مارتن لوثرعلى الكنيسة الكاثوليكية الغربية وتأسيس البروتستانتية كقوة مسيحية ثالثة. والاستكشافات الجغرافية لما وراء البحار.
ومكن تزامن وتفاعل وتضافر تأثيرهذه العوامل مجتمعة، الغرب الأوروبي الصاعد من توظيفها للقطع مع التاريخ الإنساني. باستحداث حضارة مادية حديثة، تعلي شأن البشرعلى الخالق. وتقوض،بذلك، المرتكزات التي تأسست عليها كافة الحضارات الإنسانية التي سبقتها منذ أن آمن الإنسان العاقل بوجود خالق يدير الكون بتدبير محكم. وأدرك محدودية قدرته أمام حقيقة الحياة والموت. وأعجزه التفكير فيما يعقب الموت بعد فناء الجسد وانفصاله عن الروح. وآمن بالبعث ووجود حياة أخرى بعد الموت، ترتهن ثوابا أم عقابا بمدى الالتزام بضوابط السلوك الإنساني اتجاه الخالق والخلق في الحياة الدنيا. فتعددت الديانات التي اعتنقتها الشعوب على امتداد الكرة الأرضية. وتلاقت جميعها على خضوع الخلق للخالق. والتزام تعاليمه بالتمييز بين الحق والباطل. وبين الخير والشرّ في تنظيم وإدارة الحياة البشرية على كوكب الأرض. خلافا للحضارة المادية الغربية المستحدثة في القرن الخامس عشر"اللاحضارة". التي استبدلت الخالق بالإنسان. واستعاضت عن عبادته بعبادة المادة. وتأسست على مبدأ تفوق العرق الأنجلو- ساكسوني الأبيض، وأهليته الحصرية لإدارة الكون وإخضاع ساكنيه بالقوة. بإطلاق العنان لجنوح العقل الذي خص به الخالق الإنسان. وتحريره كليا من الضوابط الروحية وقيود المباح في السلوك الإنساني اتجاه الخلق من الطبيعة والكائنات الحية على اختلاف تصنيفاتها. واتجاه البشر أفرادا وجماعات وشعوبا ودولا. واستثنائه من جميع المحرمات والضوابط. وتشريع احتكامه لموازين القوى. واستبدال القانون الدولي بقانون الغاب. وعولمة حضارته المادية وإحلالها محل الحضارات الإنسانية كافة، لإحكام سيطرته الكونية.
لقد أسس الغرب الرأسمالي الأوروبي حضارته المادية الحداثية بالسطو على الإرث المعرفي التراكمي للحضارات الإنسانية التي سبقته. والاستيلاء على العلوم الطبيعية التي طورتها الإنسانية على مدى العصور. ونسب منجزاتها للعلماء الأوروبيين. وسخر المعارف وما أنتجه المفكرون والفلاسفة والعلماء الجيولوجيون والرياضيون والفيزيائيون والفلكيون والبحارة عبر العصور وطورها لتحقيق أهدافه الاستعمارية التوسعية. وزور التاريخ وأعاد كتابته. وسمى عصور تسيد الحضارات الانسانية الأصيلة بالعصور المظلمة. وتعمد محو منجزات الحضارة العربية - الإسلامية على وجه الخصوص. وجير الاستكشافات الجغرافية للبحارة الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين. على الرغم من أن كريستوفر كولومبوس (الذي وصل الأمريكيتين مصادفة في القرن الخامس عشر أثناء بحثه عن ممر بحري إلى شرق آسيا للتجارة) أشار في يومياته إلى وجود جامع على تلة بكوبا. ما يدلل أن المسلمين سبقوه باكتشافها. وتجاهل الغرب أن البحار المسلم خشاش بن سعيد بن أسود وصل أمريكا في القرن التاسع الميلادي. وأن العالم والمؤرخ والجغرافي والرحالة أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (896-957) قد وثق في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" وجود تجارة بين المسلمين في طليطلة والأندلس والسكان الأمريكيين الأصليين. وهو ما أكده عالم الآثار ثيروس إيرزل غوردون عندما أشار إلى أن القطع النقدية الإسلامية التي تم اكتشافها في فنزويلا أواخر القرن التاسع عشر وتعود للقرن التاسع الميلادي، تتعلق على الأرجح بأموال مفقودة من قارب أندلسي وصلها في القرن التاسع. مستشهدا بما كتبه المسعودي. ما يؤكد أن التجارة بين السكان الأمريكيين الأصليين والمسلمين في طليطلة والأندلس قد سبقت وصول كريستوفر كولومبوس بستة قرون. وأنه استهدف برحلاته الاستكشافية الأربعة ( 1492-1502) - التمهيد للتوسع الاستعماري الاستيطاني الأوروبي لما وراء المحيطات. على الرغم من تيقنهم أن ما أسموه ب "العالم الجديد" مأهول بملايين البشر وآلاف القبائل التي تسكن البلاد منذ آلاف السنين. وأسموا السكان الأصليين بالهنود الحمر لتمييزهم عن الهنود الآسيويين الذين عرفوهم . حيث يرى المستعمرون أحقية بإعادة تسمية وتعريف كل ما هو ليس غربيا وفقا لمنظورهم الاستعماري. تماما كما فعلوا لاحقا بإعادة تسمية العالم العربي- الإسلامي بالشرق الأوسط . وكما استبدلوا اسم فلسطين بإسرائيل.وكما يفعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حاليا باستبدال اسم خليج المكسيك بالخليج الأمريكي. وكما يحلم ويسعى لتهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة لإنشاء "ريفيرا الشرق الأوسط". وكما يسعى الكونغرس الأمريكي لتسمية الضفة الغربية بيهودا والسامرة.
ولم يقتصر سلوك الغزاة المستوطنين الأوروبيين على تغيير الجغرافيا. بل قاموا بإبادة نحو 90-95% من السكان الأصليين بالقتل ونشر الأوبئة والتعقيم بالمواد الكيميائية. ولتبرير إبادتهم جردوهم من إنسانيتهم فصوروهم كائنات منحطة أقل منزلة من الأوروبيين. تماما كما فعلوا عندما أبادوا وطردوا غالبية السكان الفلسطينيين من الجزء الفلسطيني الذي تم الاستيلاء عليه عام 1948. وكما يجري حاليا بوصف الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية بالحيوانات البشرية ووسمهم بالإرهاب، لتبرير حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المتواصلة منذ خمسة عشر شهرا في قطاع غزة، ومخيمات وقرى ومدن الضفة الغربية.
واستعبد الغزاة المستوطنون الأوروبيون من تبقى من السكان الأصليين (48 مليونا وفقا لبيانات 2023. لا تتجاوز نسبتهم حاليا 4.6% من مجموع سكان الأمريكيتين الشمالية والجنوبية. و3.7% من سكان أستراليا. و16% من سكان نيوزيلندا). ولمحو جرائمهم، أبادوا العمران مع السكان. وغيروا معالم الأمكنة وأسماءها، واجتثوا الحضارات الأصيلة (حضارة الإنويت والميتي في كندا. وبوبلو وأدنا وأوننداجو ووموهاك وشيروكي في الولايات المتحدة. و نورتي شيكو في وسط بيرو. والأولمك في المكسيك. والمايا والأزتك في أمريكا الوسطى/المكسيك وغواتيمالا، وهندوراس، والسلفادور /. والإنكا في الإكوادور والبيرو وتشيلي.والأبورجيون في استراليا،والماوري في نيوزيلندا).واستبدلوها بحضارتهم المادية الحديثة " اللاحضارة".
وأعادوا صياغة العلوم الإنسانية وساووها بالعلوم الطبيعية والفيزيائية لمنع دحضها. وعولموها بذريعة الحياد العلمي. ووضعوا القوانين والقواعد الاقتصادية لتعزيز مرتكزات النظام الرأسمالي التي تعظم الأرباح المادية. ونسبوا الدورالرئيس في النمو والتطورالاقتصادي للاستثمار المادي. فأدرجوا المال والآلات في محاسبة التكاليف ضمن بند الأصول التي ينبغي تعظيمها لمواصلة النمو والتطور. وأدرجوا القوى البشرية العاملة في بند الخصوم /التكاليف/، التي ينبغي تخفيضها إلى الحدود الدنيا لتعظيم الأرباح. واعتبروه معيارا للنجاح ومؤشرا لقياس كفاءة الإدارة. واستحدثوا علم الاقتصاد القياسي للتحكم باقتصادات الدول التي تحررت ومنعها من تصفية الإرث الاستعماري. بتقييد التنمية المستقبلية بمتغيرات تعتمد المعطيات الاقتصادية السابقة للاستقلال أساسا للقياس عند التخطيط للمستقبل لإبقاء هيمنته.
وأعادوا تعريف الحقوق الإنسانية وفقا لمعادلة الثروة والقوة. ما غير مفاهيم الحياة الإنسانية ومقومات العيش على كوكب الأرض. وعلى أساسها صاغوا العلاقات بين الدول وبين الأفراد داخلها.
كما أعادوا تعريف حاجات البشر وفقا لاعتبارات تحركها الغرائز التي لا حدود لجموحها. ولا رادع لعواقب انفلاتها، ولا قيود على طرق إشباعها باستخدام ما يبتدعه العقل البشري من فنون الإخضاع والسيطرة بأشكالها الخشنة والناعمة.
ومنذ ذلك الحين، بات تطورالتاريخ الإنساني رهنا بالتنافس بين الإمبراطوريات الإمبريالية للسيطرة على الموارد والأسواق عبر العالم. فاندلعت الحروب، وتنقلت مراكز القيادة الدولية بين المنتصرين وفقا لمدى قوتهم التدميرية وقدراتهم الاقتصادية والمالية.
ولم يقتصرعدوان الغرب العنصري المأفون بعقدة التفوق على الأغيار، بل طال مواطنيه المختلفين في الدين والمعتقدات. فاضطهد مواطنيه اليهود على مدى قرون طويلة. وتعرضوا للقتل والاستعباد والملاحقة والطرد لإلزامهم بالتحول القسري إلى المسيحية. وتنامى اضطهادهم ليهود أوروبا أثناء وبعد الحملات /الإفرنجية/ الصليبية 1096-1291. فتم طردهم من إنجلترا عام 1290. ومن فرنسا عام 1394. ومن النمسا عام 1421. ومن إسبانيا عام 1492. ومن البرتغال وإيطاليا بعد ذلك بوقت قصير. وتزايد اضطهاد الأوروبيين لليهود مع ظهور الرأسمالية. واشتد في أعقاب فشل مارتن لوثر باستمالتهم لدعم انقلابه على الكنيسة الكاثوليكية، فوعدهم بالعودة إلى أرض الميعاد. وانقلب عليهم لإخفاقه في كسب تأييدهم. واتهمهم بالنفاق. فدعا لمنع حاخاماتهم من الوعظ. وحرمانهم من التملك. وطالب بطردهم فتعرضوا لطرد جماعي من المقاطعات الألمانية اللوثرية. وفر كثير منهم إلى بولندا وأوروبا الشرقية. كما تعرض اليهود في غرب روسيا/ أوكرانيا/ لمذابح خلال الفترة 1881 -1884 لاتهامهم بقتل القيصرالروسي ألكساندر الثاني. وتمت ملاحقتهم في شرق أوروبا، ما دفع كثير منهم للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكانوا فيها آنذاك أقلية صغيرة. فلم يتجاوز عددهم عام 1840 أكثرمن 15 ألفا معظمهم هاجر من ألمانيا (بلغ عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية، آنذاك، نحو17 مليون). ثم تزايدت الهجرة اليهودية فوصل عددهم عام 1848 إلى 50 ألف.
ولم يواجه اليهود في الولايات المتحدة اضطهادا مماثلا لأوروبا. باستثناء أوامربترحيلهم من بعض الولايات الأمريكية- بعض مناطق تينيسي وكنتاكي وميسيسيبي- أثناء الحرب الأهلية، شأن الأقليات الأخرى. ومنعهم من ممارسة بعض المهن/المحاماة والطب والفنون/، ومن شغل الوظائف العامة،إذ كانت منذ عام 1790 تخضع لاختبارات دينية لشغلها/. وتقييد التسجيل بالجامعات بنسبة محدودة. وعدم السماح لهم بدخول بعض النوادي الاجتماعية. ومنعهم من شراء أملاك معينة. وهو ما كان ساريا على كافة الأقليات. وقد ألغيت القيود على اليهود بعد الثورة الأمريكية وصدور قوانين المساواة عام 1866 بينما أبقتها على الأقليات غير الأوروبية بإصدار قانون الإنفاذ. وشجّع ،ذلك، يهود أوروبا على الهجرة للولايات المتحدة الأمريكية. فهاجر إليها خلال الفترة 1881-1920 نحو 3 مليون يهودي من أوروبا الشرقية بسبب تنامي العنصرية ومعاداة السامية. ومع تنامي الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. أقرالكونغرس الأمريكي عام 1924 تنقيح قوانين الهجرة وفق "الأصول الوطنية" للأفراد. فحدد الحصص السنوية المتاحة لكل بلد للهجرة إلى الولايات المتحدة وفقا للاحتياجات الاقتصادية والأمنية المستوحاة معاييرها من أنصار تحسين النسل الأمريكي. بإعطاء الأولوية للمهاجرين من شمال وغرب أوروبا. ومنع المهاجرين من مواليد آسيا وإفريقيا. ولم يتسن سوى ل 110.000 لاجىء يهودي الهجرة للولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات 1933-1941. وقيدت الهجرة للولايات المتحدة الامريكية ودول أوروبا الغربية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية والإضطهاد النازي لإجبار اليهود الفارين من جنوب وشرق أوروبا على الهجرة إلى فلسطين واستيطانها. وتم تخفيف القيود لاحقا بعد إنشاء الكيان الصهيونى في فلسطين عام 1948.
وخلافا للغرب تمتع يهود البلاد العربية والإسلامية والمسيحيين بحرية العبادات وبالحقوق المدنية والسياسية. وتشاركوا جميعا الإيمان بوحدة الخالق والخضوع لتعاليمه التي تنص عليها الديانات. والانتماء للبلاد والدفاع عنها عند تعرضها للغزو الأجنبي. وحظي اليهود الأوربيون الفارون من الإضطهاد الأوروبي، بعد طرد العرب واليهود من إسبانيا عام 1492 ولجوئهم . ونعموا بالأمن والاستقرار في ظل الحضارة الإسلامية الجامعة للأعراق والأجناس والقوميات والألوان والأديان والمعتقدات. وتعايشوا مع أهل البلاد التي قدموا للعيش فيها وانصهروا معا على مدى أربعة قرون متصلة. ونموا وازدهروا وتبوؤوا أرفع المناصب. ولم يتأثر اندماج يهود البلاد العربية والإسلامية من الحريديم والسفارديم على السواء بتأسيس الحركة الصهيونية في أوروبا عام 1897، وانقلابها على الديانة اليهودية واحتكار شرعية تمثيل اليهود. فبحكم نشأتها الأوروبية العنصرية، لم تهتم الحركة الصهيونية خلال العقود الأولى لنشأتها - لاعتبارات تتعلق بتفوق العرق الأبيض الذي ينتمي إليه اليهود الأشكنازعلى السفارديم/الأوروبيين المهاجرين في القرن الخامس عشر والحريديم /يهود البلاد العربية والإسلامية/. ولسعيها في المراحل الأولى لتأسيس الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني وفقا للنسق الغربي. فتأخر اهتمامها بيهود المشرق حتى أواخر ثلاثينيات ومطلع أربعينيات القرن العشرين- بعد استكمال الجاهزية العسكرية والسياسية والاقتصادية والتنظيمية والقانونية والإدارية- والمؤسسية التي أشرفت عليها سلطات الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية. وعندما تبين تعذر استقدام أعداد كافية من اليهود الأشكناز /الأوروبيين والأمريكيين/ للاستيطان والاستقرار في فلسطين، ما يهدد نجاح المشروع الصهيوني برمته. بدأت الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية الاهتمام بيهود البلاد العربية والإسلامية. وعندما أخفقت في استقطاب أعداد وازنة منهم عمدت إلى تنظيم اعتداءات وتفجيرات استهدفت أحياءهم وممتلكاتهم لتقويض استقرارهم. وتواطأت مع الأنظمة في الأقطار العربية المستحدثة- وغالبيتها ما تزال تحت الاحتلال الأوروبي (البريطاني والفرنسي والإيطالي والإسباني)- فسارعت للتضييق على المواطنين اليهود لإثارة خوفهم وزعزعة استقرارهم لدفعهم للهجرة إلى الكيان الصهيونى الآخذ بالتشكل. وتوارت الأنظمة خلف تنامي الغضب والرفض الشعبي للمشروع الاستعماري الغربي الصهيونى العنصري في فلسطين.
لقد نجحت الإمبريالية اليهودية والإمبرياليات الأوروبية والأمريكية في إنشاء الحركة الصهيونية العالمية، وبناء شراكة استراتيجية تحظى بموجبها الإمبريالية اليهودية بمركز جغرافي في فلسطين يستوطنه اليهود حصريا ويخضع لسيطرتها. ويبلورون فيه قومية يهودية خاصة تعزز شراكتهم مع الإمبرياليات الغربية. وتقايض الدعم لإنشائه، بدور وظيفي يحتاجه الغرب لبناء قاعدة استعمارية استيطانية يهودية متقدمة في قلب المنطقة العربية - الإسلامية المستهدفة بالسيطرة والإخضاع.
وبالتزامن مع انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، في 14/5/1948 وإعلان الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية ديفيد بن جوريون قيام دولة يهودية على "أرض إسرائيل"وفقا للإعلان. والتي سوف تدعى دولة إسرائيل، وتقوم على 78% من فلسطين، وتضم أكثر من نصف المساحة التي خصصها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر عام 1947 للدولة العربية. ووقع وثيقة "الاستقلال" 39 صهيونيا، جلّهم من يهود الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية - بإستثناء السفاردي الوحيد المولود في فلسطين إبان العهد العثماني يخور شالوم شطريت. والمزراحي الوحيد اليمني، سعدية كوباشي الذي هاجر لفلسطين إبان العهد العثماني. وعلى الفور اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية بالحكومة الإسرائيلية المؤقتة باعتبارها السلطة الشرعية بحكم الأمرالواقع. ثم استبدلت بعد الانتخابات الاسرائيلية الأولى في 31/1/1949 حالة اعترافها القانوني ليصبح قطعيا. ومنحت الكيان الصهيونى حصانة سياسية ودبلوماسية لاستثنائه من نفاذ القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. واستخدمت حق النقض / الفيتو/ 83 مرة منذ إنشاء الأمم المتحدة عام 1945 منهم 41 لصالح الكيان الصهيونى.
لقد عكس تقرير أوكسفام الصادر في 20/1/205 تحت عنوان “ناهبون لا صانعون" طبيعة الغرب الإستعماري الصهيوني العنصري واستيلائه على ثروات شعوب العالم. وأشارإلى زيادة ثروات المليارديرات عام 2024، وغالبيتهم الساحقة في الشمال الغربي عموما والولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، بمقدار تريليوني دولار. بوتيرة نمو أسرع بثلاثة أضعاف قياسا بالعام 2023 . وبين أن 1 % من سكان الشمال العالمي،الذين يشكلون 21% من البشرية يستحوذون على 30 مليون دولار في الساعة من البلدان في الجنوب العالمي الذي يكافح سكانه من اجل البقاء على قيد الحياة. وأن 22 مليارديرا في العالم يملكون 71 تريليون دولار. وأن 60% من ثرواتهم تتأتى من السلطة الاحتكارية والمحسوبية والميراث.
وعلى الرغم من تركيز المقال على سلوكيات الغرب الاستعماري. فإن ذلك لا ينفي حقيقة إسهام الغرب الكبير في التطور الحداثي المادي. والاختراعات والتقدم العلمي في المجالات كافة : الطب والهندسة والصيدلة والصناعة والزراعة والتجارة ووسائل المواصلات والاتصالات والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والإدارة والتنظيم الخ... ولا ينتقص من عوائد ذلك الإيجابية على البشرية جمعاء.
لكن الثمن الذي دفعه العالم غير الغربي، وهم غالبية سكان الكرة الأرضية، وجزء وازن من مواطني الدول الغربية ذاتها وخصوصا من الأقليات العرقية والمسلمين. ومن الطبقات المسحوقة - يفوق العوائد الإيجابية للحداثة المادية الرأسمالية الغربية بأضعاف مضاعفة. بسبب تأثير سلبيات تطور الحداثة المادية عليه لافتقارها للقيم الروحية والضوابط الأخلاقية. وتغول الرأسمالية، وتركز الثروة والقوة والسلطة في أيدي قلة نيوليبرالية متناقصة، وتجزئة البلاد وتفريق الأمم والقوميات وتقسيم الشعوب إلى أعراق وألوان وأديان وطوائف ومذاهب. والاستيلاء على مواردها. وتمويل الحروب الأهلية والبينية. وانتهاج الإبادة الجماعية والتطهيرالعرقي لتطويع استعصاء الشعوب على الخضوع . واستقطاب النخب وتغريبها وإفسادها. وحماية استبداد الحكام. وتخريب واستنزاف الطبيعة. ونشرالأوبئة. وتطوير أسلحة الدمار الشامل. وتوظيف منتجات الذكاء الاصطناعي في الحروب والقتل. والتفاخر به بصفاقة غير مسبوقة عكسها جهاز البيجرالذهبي الذي قدمه رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو لمضيفة الامريكي دونالد ترامب، الذي أثنى بدوره على المهارة الاسرائيلية في الإبادة الجماعية عن بعد.
وبمقارنة تأثير تداعيات الحضارات التي عرفتها البشرية على امتداد التاريخ البشري. يمكن القول بدون تردد أن الحضارة المادية التي أسسها الغرب الاستعماري الصهيوني العنصري وعولمها. وبالرغم من تفوقها المادي الحداثي على سائرالحضارات التي عرفها التاريخ الإنساني. إلا أنها الأكثر تدميرا وتهديدا للبشرية والطبيعة على السواء. ما يتوجب على المتضررين جميعا التعاون معا وتنسيق الجهود لبلورة مشروع نهضوي إنساني لمواجهة الخطر الوجودي .
ويفترض بالشعب الفلسطيني المستهدف بالاستئصال من وطنه. والشعوب العربية والإسلامية المهددة بلادها بالإغراق بملايين اللاجئين الجدد. التأهب للدفاع عن النفس. والمسارعة لبلورة رؤى نهضوية تحررية وطنية وقومية تؤسس لوحدة الموقف. وخطط لتعزيز مناعة المجتمعات والشعوب والدول لمواجهة وهزيمة العدوان الأمريكي الصهيوني.
وهذا ممكن ومتاح. إذ تتوفرلأول مرة، فرصة تاريخية غير مسبوقة لتوحد الشعوب وتجاوزالانقسامات الأهلية والبينية المدمرة لمواجهة الاخطار المشتركة. كما تتوفر فرصة تاريخيّة غير مسبوقة لتوحيد شعوب الجنوب العالمي، وقوى التحررالعالمية المدافعة عن العدالة وتساوي حقوق جميع البشر في الحياة والحرية وتقرير المصير والكرامة الإنسانية. وهي قوى وازنة ومتنامية في الشمال الغربي. الذي أعرب غالبيته عن معارضته للتطهير العرقي في قطاع غزة وعموم فلسطين. وبات يرى بالمظلومية الفلسطينية تجسيدا للمظلومية الواقعة عليه من ذات المعتدين. الذين لا يؤمنون بغيرالقوة. وهي متاحة بالتضامن والتعاون والوحدة في مواجهة الظلم. وبالجاهزية للجم للمعتدين وإحقاق العدالة وتوفير الأمن والسلام لجميع شعوب العالم.
وهي المسؤولية التنويرية المناطة بالمفكرين والباحثين والمثقفين والناشطين الذين يتوجب عليهم المسارعة بحملها كل في مجال معارفه واختصاصاته. وتنسيق الجهود على المستويات الوطنية والقومية والإقليمية والدولية لبلورة خطط العمل.