عبر التاريخ، لم تندثر أمة إلا حين فقدت وعيها بقوتها الجماعية وأخفقت في تفعيل إرادتها لتغيير حاضرها وصنع مستقبلها. ولم تنتصر أمة إلا حين أدركت أن إرادتها أقوى من كل الطغاة.
من الثورات الكبرى إلى الحراكات السلمية. أثبتت الشعوب قدرة حاسمة على التغيير . ومقدرة على هزيمة امبراطوريات عظمى حكمت العالم. لتمسكها بإحقاق حقوقها الوطنية والتاريخية المشروعة غير القابلة للتصرف، وتقرير مصيرها والسيادة في أوطانها. والأمثلة على ذلك تفوق القدرة على الحصر . وسنكتفي ببعضها، وأكثرها دلالة في التاريخ الفلسطيني، فقد هزم نابليون على أسوار عكا عام 1799 عندما أجبره صمودها واستعصاؤها على العودة من حيث أتى.
وفي التاريخ العالمي هزمت النازية عندما استعصت ستالينغراد وأجبرت النظام النازي على الاعتراف بفشل جهوده الحربية. بسبب ما ألحقته مقاومتها بألمانيا من خسائر غير مسبوقة. تعادل ما تلقاه الاتحاد السوفيتي، التي كانت خسائره ثلاثة اضعاف ما تكبده الألمان . فهزمت ستالينغراد ألمانيا النازية، التي كانت قد تمكنت خلال عامين من غزو بولندا والدنمارك والنرويج وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ ويوغسلافيا واليونان وكريت. ووصل جيشها إلى مشارف موسكو . ولم تكن ستالينغراد أول نكسة كبرى للجيش الألماني فحسب. بل شكلت - رغم ما أصابها من إبادة ودمار حيث قتل نحو مليوني شخص ودمر 90% من المدينة- نقطة تحول حاسمة. إذ أفقدت ألمانيا المبادرة الاستراتيجية، فبدأت بالتراجع. ولم تكن معركة ستالينغراد التي تواصلت 200 يوم (23/8/1942 - 2/2/1943) مجرد هزيمة عسكرية لألمانيا فقط، بل كانت البداية لنهاية النازية.
ولن نسترسل في تناول الأمثلة المتصلة بالجزائر وفيتنام . وآخرها أفغانستان التي هزمت قطبي النظام الدولي تباعا : الاتحاد السوفييتي بعد عقد من احتلاله لها. وكان ،ذلك، عاملا رئيسا في تفككه عام 1991. والولايات المتحدة الأمريكية إذ شكل الانسحاب الأمريكي الفوضوي في آب /اغسطس/ 2021، بعد عقدين من غزو أفغانستان، نقطة تحول نوعي. وأثار الشكوك بقدرة الولايات المتحدة الأمريكية على حماية حلفائها. وأعاد تشكيل توازن القوى في المنطقة .
وتتعدد، أيضا، الأمثلة المتصلة بتأثير قوة الضغوط الشعبية السلمية في تغيير مصائرها. ومقدرتها عند توحدها على إسقاط أعتى الأنظمة الاستبدادية. فقد نجحت الثورة الفرنسية عام 1789 عندما انتفض الشعب الفرنسي وتمكن من إنهاء استبداد النظام الملكي بعد عقود من الظلم والفساد،واقامة نظام جمهوري غيّر مجرى التاريخ الفرنسي وعموم الأوروبي.(دون إغفال دور الثورة الفرنسية الحاسم في استكمال انقلاب حضارة الحداثة المادية الغربية والقطع مع الحضارات الإنسانية التي سبقتها).
ونجحت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1960 عندما قاد مارتن لوثر كينغ حراك الأمريكيين الأفارقة الذي أنهى الشرعية القانونية للتمييز العنصري، وأدى إلى إصدار “قانون الحقوق المدنية لعام 1964. وأحدث ،بذلك، تحولا نوعيا في حياة الأمريكيين الأفارقة . وإن لم ينه ،بعد، العنصرية المتأصلة لدى جزء وازن من العرق الأبيض المأفون بعقدة التفوق. وما يزال الأمريكيون الأصليون والأفارقة والأقليات العرقية يخوضون نضالا عنيدا من أجل المساواة.
ونجح الشعب الألماني بإسقاط جدار برلين الفاصل بين شطري ألمانيا الشرقية والغربية عام 1989. عندما أدت المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في ألمانيا الشرقية إلى انهياره. ومهدت ،بذلك، الطريق لاستعادة ألمانيا وحدتها الجغرافية والسياسية والديموغرافية بعد 44 عام من التجزئة والانقسام. وغيرت مسار التاريخ الأوروبي والعالمي. صحيح أن التغيير حقق عالميا نتائج معاكسة. وأعاد النظام الدولي إلى عصر الأحادية القطبية، وتفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة الدولية. وما تزال شعوب العالم عموما، وشعبنا الفلسطيني وشعوب الجنوب العالمي خصوصا، تعاني من تداعيات انحسار الحماية النسبية التي كان يوفرها النظام الدولي ثنائي القطبية لحركات التحرر الوطني والأنظمة التقدمية والأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية. فاندلعت الحروب لتدمير الدول وتغيير الأنظمة. وصعد اليمين العنصري في كثير من دول العالم. وتركزت الثروات في يد قلة متناقصة.وتنامى التفاوت الطبقي واستفحل الفقر واشتدت حدته. وتراجع دور الحكومات في توفير الخدمات العامة الصحية والتعليمية والبنى الأساسية والرعاية الاجتماعية. وتم خصخصتها بذريعة تحسين الكفاءة وفقا لمعيار الربح والخسارة عوضا عن العدالة. وتراجع دور الأحزاب والنقابات العمالية والمهنية في الدفاع عن المكتسبات التي حققتها الشعوب خلال فترة الثنائية القطبية. وقد كشف وباء الكورونا / كوفيد 19/ قبل خمسة أعوام عوار النظام الدولي أحادي القطبية ووحشيته التي وظّفها للانقضاض على كل الإنجازات التي حققتها الشعوب خلال حقبة الثنائية القطبية. وكشفت حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الجارية في قطاع غزة وعلى امتداد فلسطين الانتدابية ومحيطها الجغرافي وحشية وهمجية وخطورة النظام الدولي أحادي القطبية على شعوب العالم . والتي لم تسلم منها شعوب الدول الغربية ذاتها.
غير أن ذلك لا ينتقص من القوة الحاسمة لحراكات الشعوب. لكنه يؤكد أن منع حرف مسارها يرتهن بتسلح حراكاتها برؤى نهضوية، وأهداف واضحة ومحددة، وبرامج تنفيذية لبلوغها، وقيادات حكيمة ومؤتمنة وملتزمة بإحقاق حقوق شعوبها . وواعية للمخاطر الجسيمة للمتربصين بالحراك، من الأعداء الساعين لتقويضه وحرف مساره. ومن ذوي القربى الطامعين بتوظيفه لتحقيق مكاسب ضيقة لا علاقة لها بالوطن والشعب .
وقد أظهرت الثورات العربية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قوة وقدرة الشعوب العربية على الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية الفاسدة. كما أظهرت بالوقت ذاته، أن افتقار الحراكات الشعبية إلى قيادة وطنية تتوحد خلف هدف واضح مجمع عليه من كافة مكونات المجتمع. يشكل خطرا، ويسهل حرف المسار، ويبدد المنجزات التي تحققت بفضل التضحيات الجسيمة، ويفاقم المعاناة ويطيل أمدها ويرفع كلفة النضال التحرري والمطلبي.
ويمكن إيجاز أهم دلالات تجارب الشعوب عبر التاريخ بما يلي:
1.تفوق قوة الحق عندما يتوحد الشعب ويتمسك بإحقاقه مهما طال الزمن وعظمت التضحيات على حق القوة مهما بلغ جبروت الطغاة.
2. أهمية تحديد الهدف المرغوب بلوغه والمجمع عليه من قبل كافة مكونات الشعب، ومركزية وضوحه في نجاح حراكات الشعوب. والتمسك به حتى تحقيقه. والوعي بأن للقوة الطاغية حدودا لا ترقى إلى مستوى قوة الحق .
3 . الإدراك بأن التغييرات الكبرى تحتاج إلى وعي معرفي بموجبات ومستلزمات إحداثها.وبأنها لا تتم بين عشية وضحاها.وبأن إنجازها يحتاج إلى الإعداد والتخطيط والبرمجة واختيار الآليات المناسبة لإنجازها بالسرعة والكلفة الممكن احتمالها. وأن تحقيقها يستوجب تضحيات جسيمة ,وتحتاج مثابرة قد تمتد لأجيال.
4 . إدراك الدور المركزي للقيادة الوطنية الحكيمة الموثوقة المؤهلة لقيادة الحراك الشعبي. وأهميتها المحورية في تعبئة طاقات الشعب المتاحة والكامنة، وفي توجيه الجهد الشعبي الجماعي بفعالية لبلوغ الهدف المبتغى .
5 . الوعي الدقيق بحجم المخاطر الخارجية والداخلية المتربصة بالحراكات الشعبية . واليقظة التامة لمنع أي اختراقات خارجية أو داخلية لحرف مسارها تحت شعارات مضللة.
6 .ضرورة الإلمام بالتطورات الذاتية والموضوعية، والتقدير الصحيح لتأثير تفاعلاتها الداخلية والخارجية. لالتقاط ما تتيحها من فرص مواتية، وتوظيفها الصحيح للتقدم بثبات نحو الهدف المبتغي. ولدرء ما تحمله من أخطار يتوجب التصدي لها بحزم لحماية ما تحقق من منجزات .
7 . الإدراك بأن استقواء القادة على شعوبهم، وعدم قيامهم بمسؤولياتهم في الدفاع عن الوطن والشعب. والاحتماء بغير الشعب ، الذي لا حامي سواه. والتخاذل والتذرع بالحكمة والواقعية للتهرب من مسؤولية حماية الوطن والشعب من تغول الطغاة. لن يمكنهم من الإفلات من غضب الشعوب وعقابها . ولن يجنبهم غدر الأعداء عند استنفاذ مهمتهم . بل سيجدون حماتهم - عندما يصبحون عبئا ثقيلا عليهم - في طليعة المطالبين بمساءلتهم وملاحقتهم ومحاسبتهم .
وبالتمعن في الواقع الفلسطيني القاتم . وفي ضوء جسامة التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني على مدى خمسة أجيال متتابعة.منذ أن غزا التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري فلسطين في مطلع القرن العشرين . وأكثرها جسامة الخسائر البشرية والمادية غير المسبوقة التي ما يزال يتكبدها الشعب الفلسطيني في حرب الإبادة والتطهير العرقي المحتدمة حاليا . ففي 500 يوم تكبد الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية خسائر غير مسبوقة: 47.487 شهيدا و111.588 جريحا. 2,158% و 5.072% من اجمالي سكان القطاع على التوالي . و14 الف مفقود و 2 مليون نازح . وفي الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية 908 شهيدا، و6700 جريحا،وعشرات الآلاف من النازحين من المخيمات التي تتعرض للإبادة والتجريف. وهناك أكثر من 10 الاف أسير يعانون من همجية ووحشية عدو تفوق على جميع طغاة الكون. وفاقت سجونه ما شهده سجني غوانتانامو وأبو غريب من ارهاب أمريكي أثار فضائح عالمية. في حين أن سجني سدي تيمان وعرفر اللذان يفوقانهما وحشية لا يحظيان بالاهتمام الإنساني والدولي المستحق. بسبب التقصير الإعلامي والدبلوماسي الفلسطيني والعربي. لقد دمر العدو الصهيوني بأطنان لقنابل الأمريكية والبريطانية والغربية التي وصفت بالذكية 69% من المنازل في قطاع غزة تدميرا كليا أو جزئيا. و34 مستشفى من مجموع 36 مستشفى. و80 مركزا صحيا. و212 مؤسسة صحية. و 191 سيارة إسعاف. وتعرضت جميع الجامعات والكليات التطبيقية والتقنية إلى تدمير كلي او جزئي. وتضررت 88% من المنشآت التعليمية. و دمر 1129 مسجدا. وثلاثة كنائس. و206 موقع أثري .وجرفت 19 مقبرة. ولا تتوفر بيانات عن حجم الدمار في مخيمات الضفة الغربية . رغم أن الشواهد فيها تماثل ما يجري في قطاع غزة. وما يزال بعض أطراف النظام السياسي الفلسطيني وبعض المثقفين يتجادلون فيما بينهم حول جدوى مقاومة العدو المتربص بالوجود الفلسطيني.
ويتغاضون عن التغول الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية التي يعترف بها العالم مع قطاع غزة كأراض فلسطينية محتلة. وتنتشر فيهما 151 مستوطنة و 163 بؤرة استيطانية (والفوارق بينهما شكلية تتعلق بالاعتراف الرسمي بها كمستوطنات. وتمييزها عن البؤر الاستيطانية التي تنشأ كأمر واقع تحت حماية الجيش الصهيوني وتزودها دولته بالموازنات والخدمات). ويتذرعون بحماية الوطن وبحكمة عدم التصدي للاعتداءات اليومية للجيش والمستوطنين البالغ تعدادهم 869.450 مستوطن يهودي في الضفة الغربية والقدس الشرقية وفقا لبيانات 2024. والذي ارتفع عددهم من 115.000 مستوطن عند دخول اتفاق أوسلو حول الحكم الذاتي الانتقالي حيز التنفيذ عام 1993 وحظر المقاومة. ما مكن الاستيطان من التضاعف 7.5 ضعفا في زمن التسوية السياسية. وأصبح المستوطنون يمثلون 21.4 % من إجمالي سكان الضفة الغربية، يتحكمون بحياة 3.5 مليون فلسطيني يعيشون في معازل سكانية يفصلها عن بعضها 898 حاجزا عسكريا وبوابة حديدية. ومكن استمرار الالتزام الفلسطيني الأحاديّ باتفاق أوسلو المقيد بخمس سنوات انتهت منذ أكثر من ربع قرن العدو الصهيوني من تشريع سيطرته على 60% من الضفة الغربية / منطقة ج / وجزئيا على 22% / منطقة ب/ .واستباحة يومية لجيشه ومستوطنيه لما تسيطر عليه السلطة 18% من إجمالي مساحة الضفة الغربية،تعادل 3.77% من إجمالي مساحة فلسطين الانتدابية.
يأخذ البعض عليّ الاهتمام بالسياق والتفاصيل. لكنه يتعذر فهم الواقع الفلسطيني بمعزل عن حقيقة الصراع الوجودي مع العدو الصهيوني وتعقيداته كصراع مركب بأبعاده الجغرافية، والوطنية ، والقومية، والدينية، والتاريخية، والحضارية، وتشابكاته الطبقية، وتقاطعاته المصلحية المحلية والعربية والإقليمية والدولية تلاقيا أم تعارضا. وتسبب الجهل به بقصور معرفي في تفسير وقائع الحاضر. وفي تقدير حجم الخطر الوجودي المتربص بالشعب الفلسطيني . وفي خطورة استمرار الاستكانة الفلسطينية والعربية والإسلامية وعدم التصدي الحاسم لدعوة ترامب لتهجير 2 مليون فلسطيني من قطاع غزة. والتعامل معها بخوف واستخفاف. والاكتفاء ببيانات الشجب والاستنكار. والتذاكي بإقناعه بخطط بديلة لمشروعه الجهنمي المصنف كجريمة حرب في القانون الدولي. والاكتفاء بمراقبة تدمير قطاع غزة ومخيمات وقرى ومدن الضفة الغربية لجعلها مناطق غير صالحة للحياة. رغم إمكانية وقفها بموقف فلسطيني وعربي وإسلامي موحد حاسم حتى دون قتال. بتوظيف ممكنات قلب الموازين. حيث المعاهدات والاتفاقات السياسية الموقعة والمساعدات المالية التي شكلت جزءا منها. واتفاقات أبراهام اللاحقة، أمنت إسرائيل ومكنتها ضد الأطراف ذاتها الموقعة عليها وقيدت إرادتها. وباتت تهددها في اراضيها. رغم أن التهديد بإلغاء هذه الاتفاقات لا يشكل خطرا على الفلسطينيين والعرب الموقعين عليها . ولن يضير الدول والشعوب العربية التي أضعفتها المعاهدات والاتفاقات . بل إن التمسك بها هو ما يشكل خطرا وجوديا عليها . بعد ان تجاوز الخطر الوجودي فلسطين وبات يطال جوارها العربي والإسلامي إن لم تواجه الولايات المتحدة الأمريكية ووكيلها الصهيوني بموقف عربي وإسلامي حاسم يقلب الموازين.
وللتذكير ، فقط ،بأن ما بدى عام 1917 عندما صدر وعد بلفور مخالف للمنطق. إذ لم يزد عدد اليهود في فلسطين،آنذاك، عن 55.000 معظمهم حديثوا الهجرة إليها . وشكلوا 7.9% فقط من إجمالي سكان فلسطين . وكان يبدو حينذاك أن منح فلسطين العربية لليهود الذين سيتم استجلابهم من كافة بقاع الأرض كوطن قومي. وإسقاط حقوق الشعب العربي الفلسطيني المقيم فيها منذ آلاف السنين غير معقول بكل المقاييس. إلا أن ثلاثة عقود من دخول المخطط حيز التنفيذ . وعدم مواجهته بمشروع كفاحي نقيض مكنه من التحقق. ولم يحتج تفريغ فلسطين من سكانها عبر ترويعهم بمجازر لا ترقى -على فداحتها- لمستوى حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتدمير المنهجي الجاري لمقومات استمرار الحياة الفلسطينية. ما يجعل مشروع التهجير خطرا حقيقيا مرجحا، ليس فقط لسكان قطاع غزة. وإنما لثلاثة ونصف مليون فلسطيني هم سكان الضفة الغربية ، ومليوني فلسطيني من مناطق 1948. بغض النظر عن مسمى التهجير قسريا أم طوعيا.
والتذكير ،أيضا، بأن المبادرة في بلورة الموقف العربي والإسلامي والدولي لا يكون بخطة بديلة لإعمار قطاع غزة لإقناع ترامب ببديل التهجير. بل بخطة لإعادة إعمار قطاع غزة وتعزيز بقاء وصمود الفلسطينيين فيها وفي القدس الشرقية والضفة الغربية ، في إطار مشروع نهضوي تحرري شامل نقيض . يواجه مشروع الشرق أوسط الجديد الذي يحاول التحالف الإستعماري الغربي الصهيوني العنصري فرضه على المكونات الأصيلة للمنطقة. وبمشروع فلسطيني وعربي وإسلامي مقابل لبناء شرق أوسط جديد حر ومستقل يخدم مصالح شعوبه كافة. ويسهم في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في العالم.
ولا غنى عن القول بأن المبادرة ببلورة الموقف العربي والإسلامي الموحد. يجب أن تبدأ بفلسطين التي تقع في دائرة الاستهداف المباشر.لتموضعها في خط الدفاع الأول عن الأمة العربية والمكونات الأصيلة في الإقليم . فالصراع على فلسطين لم يكن يوما لذاتها. وهو ليس مجرد صراع حدود، بل صراع على مستقبل الأمة والمنطقة بأسرها. وفلسطين كانت على مر التاريخ مفتاح النصر كما الهزيمة. فإما أن تكون بوابة التحرر لجميع شعوب المنطقة ، أو تكون بوابة الاستعمار الصهيوني والهيمنة الأمريكية والغربية على المنطقة بأسرها . فهي مفتاح الحرب والسلام في الإقليم والعالم أجمع .
والمبادرة الفلسطينية التي نعني تبدأ أولا بانهاء الانقسام في النظام السياسي الفلسطيني فورا. فلم تعد الوحدة الوطنية خيارا سياسيا، بل أصبحت ضرورة وجودية في مواجهة الإبادة والتهجير، ما يوجب على جميع أبناء الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه فرضها بالقوة. وهم قوة هائلة قوامها 14.8 مليون فلسطيني وفقا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في منتصف عام 2024 . نصفهم داخل فلسطين الانتدابية (5.61 مليون فلسطيني في دولة فلسطين، و1.8 مليون في أراضي العام 1948)ونصفهم الآخر نحو 7.4 مليون في مواطن اللجوء .منهم 6.3 مليون في الدول العربية. ومن حقهم وواجبهم جميعا الانتفاض على واقع اختلال النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني القائم، الذي يحتكر أطرافه القرار- رغم تباين المسؤوليات. إذ يتعذر المساواة بين من يقاوم ومن يساوم. دون الانتقاص من تأثير غياب برنامج تحرري يحظى بتوافق وطني. أو التهوين من تأثير التدخلات الخارجية التي أفشلت جهود المصالحة، ولعبت دورا مهما في إدامة الانقسام. لكن ذلك لا يعفي الفلسطينيين من مسؤوليتهم الأساسية عن استمراره، بالاستقواء على بعضهم بالخارج. ما يجعل تجاوز هذه التدخلات أولوية أولى لأي مشروع وطني فلسطيني جديد. انطلاقا من المبادئ التالية :
وحدة الأرض الفلسطينية من رأس الناقورة شمالا الى أم الرشراش/ إيلات/ جنوبا. ومن نهر الأردن شرقا إلى البحر الأبيض المتوسط غربا.
وحدة الشعب الفلسطيني داخل الوطن وفي مواطن اللجوء خارجه.
لا شرعية لأي نظام سياسي فلسطيني منقسم.
أي قيادة فلسطينية لا تمثل الشعب الفلسطيني بكامله ولا تعمل ضمن إطار وطني موحد تفقد شرعيتها الشعبية والسياسية والقانونية.
المقاومة بكافة أشكالها السلمية والعسكرية حق مشروع للشعب الفلسطيني الذي له الحق في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة وفق القوانين الدولية.
المقاومة لا يجب أن تكون حكرا على أي فصيل، بل يجب أن تكون ضمن استراتيجية وطنية شاملة يتفق عليها الجميع.
القرار الوطني الفلسطيني مستقل ولا يحق لأي دولة أو جهة خارجية فرض حلول سياسية على الشعب الفلسطيني.
الشراكة السياسية مبدأ أساسي. ويجب أن يكون النظام السياسي الفلسطيني ديمقراطيا تعدديا.قائما على التداول السلمي للسلطة.وعدم احتكار أي طرف للقرار الفلسطيني.
رفض مخططات التجنيس والتهجير والتوطين. فالتهجير الجماعي للفلسطينيين، سواء من قطاع غزة، أم من الضفة الغربية أم القدس الشرقية أم من مناطق 1948 جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. ويتوجب مواجهتها بكل السبل والوسائل.
للاجئين الفلسطينيين حق العودة إلى فلسطين. وهو حق جماعي وفردي لا يسقط بالتقادم ، ولا يمكن التنازل عنه تحت أي ظرف.
احترام الحقوق والحريات العامة بما في ذلك حرية التنظيم والتعبير، وضمان حقوق الإنسان، ومنع القمع السياسي، وإشراك مكونات الشعب الفلسطيني كافة ، وتمكين المجتمع المدني الفلسطيني من المشاركة في صياغة مستقبل الوطن.
دعم صمود وبقاء الشعب الفلسطيني في أرض وطنه في مختلف مناطق تواجده / قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومناطق 1948 / عبر تعزيز قدراته الذاتية برفع مناعته المجتمعية ، وتخفيف معاناته وتقليص أعباء مقاومته. وتعزيز ترابطه وتكامله .
احترام ومراعاة خصوصية فلسطينيي 1948.وحقهم بتحديد أولوياتهم ومناهج إدارة شؤونهم في إطار وحدة الوطن والشعب والقضية. وحفزهم على ممارسة حقهم الأصيل بالمشاركة في صنع القرار الوطني الفلسطيني والتأسيس للمستقبل..
انتهاج سياسات شاملة لتمكين الشعب الفلسطيني في أراضي الدولة الفلسطينية المجمع دوليا على وجوب قيامها في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 . بانتهاج سياسات أمنية تحمي الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته وتحفظ السلم الأهلي . وسياسات اقتصادية تنهي ارتهانه الاقتصادي والمعيشي للاقتصاد الإسرائيلي. عبر خطط وبرامج تنفيذية تستعيد الترابط الاقتصادي الداخلي الأفقي والعمودي. وتطور قطاعات الإنتاج السلعي الزراعية والصناعية والخدمات المرتبطة بهما. وتعزز ترابط مخرجاتهما بالطلب الاستهلاكي المحلي. فتقلص الاعتماد على الواردات، وتوسع القدرة الاستيعابية لسوق العمل الفلسطيني. وانتهاج سياسات مالية وضريبة تقلص حدة التفاوت الطبقي. وسياسات اجتماعية تعطي الأولوية في التعليم والصحة لبناء الإنسان الفلسطيني وتمكينه صحيا ومعرفيا ووطنيا. وترعى الفئات الأقل حظا، وتحقق العدالة الاجتماعية وتحفظ بذلك الوحدة والاستقرار المجتمعي. وسياسات إعلامية داخلية تعزز الانتماء الوطني وتحصن الإنسان الفلسطيني بالمعرفة والمهنية والموضوعية والشفافية. وخارجية بتعزيز الرواية الفلسطينية عالميا وتسلط الضوء على الاعتداءات والانتهاكات الصهيونية للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي.
وانتهاج سياسات تمكينية للفلسطينيين في مواطن اللجوء خارج فلسطين . بحماية حقوقهم الجماعية والفردية، والمساهمة في تعزيز قدراتهم الذاتية وتخفيف معاناتهم . وحفزهم على ممارسة حقهم الأصيل في صنع القرار الوطني الفلسطيني والتأسيس للمستقبل.
ولتحقيق ذلك . يتوجب إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني لتمكينه من استنهاض طاقات الشعب الفلسطينية الوفيرة المتاحة والكامنة. ذلك أن النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني القائم عاجز بنيويا عن قيادة الشعب الفلسطيني في مرحلة مصيرية يواجه فيها تحديات وجودية.
ولقد سبق في مقالات عديدة لي وأكثر لغيري. توصيف التشوهات البنيوية العميقة التي تراكمت عبر ستة عقود من عمر الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة . لم تجر عبرها المراجعات الذاتية المستحقة رغم تعاقب الهزائم والانتكاسات. فاحتفظ النظام السياسي الفلسطيني ببقائه لأسباب عديدة فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية لا مجال لتناولها في هذا المقال. لكن يتوفر إجماع فلسطيني وعربي وإقليمي ودولي، على أنه بات عاجزا عن الفعل والتأثير . وأنه يعود الى زمن مضى وتغير جوهريا. فأغلب الفصائل لا وجود لها في الواقع. وبعضها لا يتجاوز عدد أفراده قادة الفصائل وذويهم. ومع ذلك ما يزالون يشغلون مواقع القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية التي تم تجويفها. ويحتجزون شرعية القرار الوطني الفلسطيني في مرحلة مصيرية تتعرض فيها القضية الفلسطينية لخطر التصفية. ويتوعدهم ترامب وشركاؤه الصهاينه باستكمال تنفيذ وعد بلفور الذي قطعه أسلافه المستعمرون عام 1917 . باستبدال كامل فلسطين وتحويلها إلى وطن قومي لليهود. واقتلاع الشعب الفلسطيني كله، وتوطينه في البلاد العربية والإسلامية. فبات الخطر الوجودي يتجاوز فلسطين وأهلها ليطال عموم المنطقة بدءا بالأردن ولبنان وسوريا والعراق ومصر، وأضاف إليهم وكيله الصهيوني نتنياهو السعودية ودول الخليج. ويطالبان كلاهما ( ترامب ونتنياهو) بعد الشروع بتصفية الأونروا، بتجنيس الفلسطينيين اللاجئين إليها منذ العام 1948 ، وباستقطاع أجزاء من أراضي الدول العربية لاستيعاب ملايين الفلسطينيين الذين سيقتلعون من وطنهم . حيث اسرائيل ،متناهية الصغر كرأس قلم على مكتب كبير وفقا لتوصيف ترامب. تحتاج للتوسع والتوغل في عمق البلاد العربية . لأداء الدور الوظيفي المناط بها في الاستراتيجية الأمريكية . ولن يكفيها كامل فلسطين الانتدابية والجولان السوري بحدوده الآخذة بالتمدد في العمق السوري. والمرشح للتوسع لاحقا في جنوب لبنان، حتى لو انسحبت منه القوات الصهيونية بعد يومين وفقا للاتفاق لتكليف اللبنانيين انفسهم بتحقيق ما استعصى عليهم بالقوة. وللتفرغ لإنهاء المهمة المركزية في فلسطين. فمن دون حسم الصراع على أرض فلسطين والعبث بمحيطها العربي، يتعذر مواصلة التقدم للسيطرة على الأراضي الممتدة بين النيل والفرات.وهو اساس مشروع التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري منذ أكثر من قرن.
وختاما. لقد استعرض المقال السياق التاريخي والسياسي للواقع الفلسطيني. مسلطا الضوء على المخاطر الوجودية التي يواجهها الشعب الفلسطيني في ظل حرب الإبادة والتطهير العرقي المستمرة، ومؤكدا أن الوحدة الوطنية لم تعد خيارا، بل أصبحت ضرورة لا تقبل التأجيل. فالواقع القائم يفرض على جميع الفلسطينيين تجاوز الانقسامات الداخلية وفرض وحدتهم الوطنية كضرورة وجودية لمواجهة التحديات المصيرية.
ومع ذلك، فإن تحويل هذه الرؤية إلى واقع عملي يتطلب تجاوز مرحلة التنظير إلى الفعل، عبر بناء حراك شعبي منظم لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني الموحد حول برنامج وطني تحرري إنساني نقيض. وإعادة هيكلة مؤسساته، وتفعيلها لحماية وحدة مكوناته، ولتعزيز مقومات بقاء وصمود الشعب الفلسطيني في أرض وطنه على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والتنظيمية والإدارية. كضرورة لا غنى عنها للنهوض العربي والإسلامي والدولي .
هذه القضايا، وغيرها من التحديات الجوهرية، ستكون محور المقالات القادمة، بهدف تقديم رؤية متكاملة للانتقال من التنظير إلى التنفيذ . ومن الخطاب إلى الفعل، عبر استراتيجيات تطبيقية وبرامج تنفيذية.
وفي هذا السياق، فإن مساهمة المفكرين والمثقفين والفاعلين الوطنيين الفلسطينيين ليست مجرد حاجة. بل هي ضرورة حتمية لوضع استراتيجية وطنية فلسطينية موحدة قادرة على التصدي للتحديات الراهنة، وتوظيف الفرص التاريخية المواتية المتاحة عربيا وإقليميا ودوليا.
إن اللحظة التاريخية لا تحتمل التردد أو التراخي. فهي تتطلب تكاتف جميع الجهود والعمل المشترك، ليس فقط لحماية القضية الفلسطينية من خطر التصفية. ومواجهة مشاريع التهجير القسري والطوعي. بل لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني على أسس جديدة تواكب تضحيات الشعب الفلسطيني وصموده الأسطوري.
قد تكون التحديات غير مسبوقة، لكن إرادة الشعوب قادرة على قلب الموازين وتصويب اعوجاج مسار التاريخ .