انعقدت الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي / 23- 24/ 4/ 2025 / بعد أكثر من ثلاث سنوات من تصاعد العدوان الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري على الشعب الفلسطيني لحسم الصراع الذي استدام أكثر من قرن. وتنامي الإخفاقات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية الفلسطينية في مواجهته. فشلت خلالها كافة الجهود المبذولة لإنهاء الانقسام في النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني، وتفاقم التشظي الفلسطيني. واتسعت الفجوات بين مكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه. وتعمق الانفصال الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي بين قطاع غزة والضفة الغربية والقدس. وبين التجمعات السكانية داخلهما. وتنامى الصراع الاستقطابي والإقصائي بين الفصائل والتنظيمات، وبين التيارات والأفراد داخلها. وازداد الاختراق الخارجي الإسرائيلي والعربي والإقليمي والدولي.
وبعد مرور 565 على حرب الإبادة الجماعية والتدمير والتطهير العرقي والتهجير في قطاع غزة ومخيمات وقرى ومدن الضفة الغربية خصوصا، لاجتثاث الشعب الفلسطيني جغرافيا وديموغرافيا وحضاريا، وتصفية القضية الفلسطينية لاستكمال إعادة هندسة المنطقة العربية الإسلامية الممتدة واخضاع شعوبها ودولها، لتسييد الكيان الصهيونى عليها. وإدامة الهيمنة الأمريكية والغربية عليها. وتعطيل انبثاق النظام الدولي الجديد متعدد الأقطاب الذي بات وشيكا.
وعليه، فإن القراءة النقدية لخطاب الرئيس محمود عباس في افتتاح الدورة الثانية والثلاثين للمجلس المركزي تستوجب الاسترشاد بمعايير موضوعية لما يفترض أن يتضمننه خطاب الرئيس أمام المجلس المركزي (الذي فوضه المجلس الوطني الفلسطيني / الإطار السياسي الاشرافي والرقابي الأعلى في منظمة التحرير الفلسطينية، في دورته الأخيرة الثالثة والعشرين عام 2018 بكامل صلاحياته)، في مرحلة هي الأخطر في تاريخ الشعب الفلسطيني منذ بدء الغزو الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري أواخر القرن التاسع عشر.
وكان يتوقع أن ينحو الرئيس في خطابه الافتتاحي للمجلس المركزي الفلسطيني الذي طال انتظار الشعب الفلسطيني لانعقاده في مرحلة هي الأخطر والأصعب في تاريخه ويراقبه العالم أجمع. لاستثمار التضحيات الهائلة للشعب الفلسطيني، وتوظيف مقاومته الباسلة وصموده الأسطوري، والحضور الطاغي للقضية الفلسطينية - الذي يتزامن مع تحولات تاريخية فلسطينا واسرائيليا وعربيا وإقليميا ودوليا - لتحديد مواقف القيادة الفلسطينية اتجاه التحديات الكبرى الداخلية والخارجية في مرحلة مفصلية، يواجه فيها الشعب الفلسطيني خطرا وجوديا جغرافيا وديموغرافيا وحضاريا. ما يفترض معه تضمين الخطاب الموجه للشعب الفلسطيني تقييما شاملا للوضع الوطني بصدق وشجاعة. عبر مراجعة نقدية شاملة مستحقة لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى أكثر من قرن، ولتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة على وجه الخصوص. وتناول نجاحاتها المهمة التي حفظت الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة. وحمت التماسك المجتمعي رغم تمزيق الوطن وتشتيت الشعب. وحافظت على الوجود الوطني الفلسطيني الفاعل رغم تآمر القوى الدولية المتنفذة وتواطؤ الكون عليه. وتناول إخفاقاتها في مواجهة التحديات ووقف تقدم المشروع الصهوني بالمواجهة والمهادنة على السواء. وبيان الأسباب الموضوعية والذاتية لإخفاق منهجي المقاومة والتسوية التفاوضية بطريقة مسؤولة، دون تهويل أو تهوين. لأهمية ذلك في تأكيد مصداقية القيادة، وجديتها في تحقيق نقلة نوعية في الأداء الفلسطيني يرقى إلى مستوى اللحظة التاريخية الفاصلة. ولاستعادة الثقة الشعبية بجدارتها وقدرتها على حماية المصالح والحقوق الوطنية الفلسطينية.
واستخدام لغة قوية تزرع الأمل الوطني، وتؤكد على وحدة الشعب داخل الوطن وخارجه على في الميدان والشراكة في القرار. وحقه المشروع في المقاومة بكافة أشكالها الذي كفلته الشرعية والاتفاقات والقوانين الدولية للشعوب الواقعة تحت الاحتلال. وأن الصمود والمقاومة بكافة أشكالها قادران على تغيير المعادلة مهما بلغت الصعوبات. وتحمّل المسؤولية الشخصية والمؤسساتية. والابتعاد عن الانفعال والعشوائية والانتقائية والاتهامات المهينة، والحفاظ على الهيبة الرئاسية، والحديث بثقة وهدوء يحشدان القوة لا الخوف. والعزم على مواجهة التحديات الجسام، الداخلية والخارجية. بتحقيق وحدة وطنية حقيقية قائمة على المصير المشترك، وليس على المحاصصة السياسية والفصائلية. والدعوة إلى نبذ كل الخلافات الداخلية فورا. والإعلان عن خطة عمل واضحة لتحقيق الوحدة.
وتوجيه رسالة واضحة للعالم العربي والإسلامي بوحدة المستقبل والمصير، حيث المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري يستهدفهم جميعا عبر فلسطين، التي تقع على خط الدفاع الأول عن عموم المنطقة العربية الإسلامية التي تقع في مركز العالم. وتشرف على خطوط التجارة والملاحة والمواصلات والاتصالات الدولية. وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة، وطاقة أحفورية تشكل عصب الاقتصاد الدولي، باحتياطيات مؤكدة هي الأضخم عالميا والأقل كلفة استخراجية. ما يجعل السيطرة عليها عنصرا حاسما في ترجيح موازين القوى الدولية. ففلسطين لم تستهدف يوما لذاتها، وإنما لفرادة موقعها الجيو استراتيجي والحضاري في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري، فضلا عن قداستها الدينية كمهد للديانات السماوية الثلاثة التي يدين بها ثلاثة ارباع البشرية. ما جعل استعمارها واستيطانها بمكون عازل غريب مغاير عرقيا وحضاريا - كما يدلل التاريخ قديمه وحديثه. للانطلاق منها، هدفا مركزيا للقوى الدولية الساعية للسيطرة العالمية -أيا تكن هويتها- لإخضاع جميع شعوب ودول المنطقة، ومنعهم من استعادة وحدتهم الجغرافية والديموغرافية والحضارية والسياسية والاقتصادية.
ومخاطبة المجتمع الدولي بلغة القانون والعدالة والحق والقيم الإنسانية لا بلغة الاستعطاف والاستجداء. ومساءلة الدول والمؤسسات عن تواطئها وانحيازها وصمتها. باستدعاء المبادئ الدولية وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وقرارات الشرعية الدولية الواجبة التنفيذ. وتوجيه رسالة واضحة بتعذر تجاوز حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة غير القابلة للتصرف، ومرتكزها الحرية والعودة وتقرير المصير في أي ترتيبات إقليمية ودولية. وإبداء الجاهزية الفلسطينية للتعامل الخلاق مع الحقائق الديموغرافية القائمة في فلسطين، عبر تساوي حقوق الجميع في الحياة والحرية والكرامة الإنسانية، وتفكيك النظام الاستعماري العنصري الصهيوني، والتساوي أمام القانون.
وعليه، وبالنظر إلى أن الحكم على الخطاب السياسي، يكمن في وضوحه وتماسكه وتناسبه مع لحظته السياسية وتأثيره وقدرته على مخاطبة جمهوره المحلي والدولي بلغة سياسية واضحة وبليغة ورصينة تظهر رؤيته للمستقبل. فإن تقييم خطاب الرئيس محمود عباس، ودون الإسهاب في تناول مضمونه ولغته، وفي الرسائل التي أراد الرئيس توجيهها للشعب الفلسطيني وقواه السياسية أولا، وللعرب ثانيا، ولإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وعموم التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري ثالثا، وللإقليم والعالم عموما. يفترض به أن يتم في ضوء الاجابة على الأسئلة الرئيسية التالية:
1- مضمون الخطاب: هل تمكن من تناول القضايا الأساسية، وتقديم مواقف واضحة بشأنها، ومبادرات سياسية لحلها؟
2- التوقيت والسياق: هل ارتقى الخطاب إلى مستوى المسؤولية التاريخية في ظل حرب الابادة والتطهير العرقي المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية للشهر التاسع عشر، وتستهدف البشر والشجر والحجر وفقا لتعبيره، وهل حمل تصورا لصناعة واقع جديد؟
3- لغة الخطاب: هل كانت تصالحية أم هجومية . توحيدية أم تفريقية.
احتوائية أم تحريضية، رصينة أم مبتذلة؟
4 - وظيفة الخطاب: هل حقق هدفه بتقوية الشرعية السياسية للقيادة الفلسطينية أم أضعفها؟ وهل ساهم في حل الأزمة الفلسطينية أم زاد من تعقيدها.
5-- تأثير الخطاب:
فلسطينيا: هل أسهم في تحقيق الوحدة الوطنية ام في تعميق الانقسام؟
وهل تمكن من جسر الفجوة بين القيادة والشعب ام أسهم في تعميقها؟
إسرائيليا: هل أسهم الخطاب في ردع العدو وإجباره على مراجعة سياساته وسلوكياته العدوانية؟ أم عززاعتقاده بإمكانية توظيف التشظي الفلسطيني لتصعيد عدوانه؟
عربيا: هل تمكن الخطاب من طمأنة الشعوب والدول العربية باقتراب التعافي الفلسطيني من خطر الاستقطاب والانقسام المدمر، أم فاقم مخاوفهم من تداعياته على القضية الفلسطينية وعليهم؟
دوليا: هل ساهم الخطاب في تعزيز السردية الفلسطينية؟ أو في تعزيز التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني؟
وبمتابعة ردود الفعل الفلسطينية والعربية والاسرائيلية والإقليمية والدولية، التي يتعذر تناولها في هذا المقال، ويمكن لأي مهتم الاطلاع عليها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. يمكن القول بدون تحفظ أن خطاب الرئيس محمود عباس في افتتاح الدورة 32 للمجلس المركزي لم ينجح – بالمعنى الاستراتيجي – على المستويين الداخلي والخارجي. وإن نجح في تحقيق هدفه باستحصال موافقة المجلس المركزي على استحداث منصب نائب الرئيس، الأمر الذي فاقم الغضب، وعزز القلق الفلسطيني، وقوّض شرعية النظام السياسي الفلسطيني. باعتبار الشرعية علاقة تبادلية بين القادة والشعب، وعملية تطورية قابلة للنمو أو التضاؤل، اعتمادا على عناصر رئيسية ثلاث: العنصر القانوني المتعلق بمدى توافق طريقة وأسلوب الوصول إلى القيادة، وممارستها، وتوافقها مع مبادئ القانون. وعنصر التمثيل المتعلق بمدى اقتناع وقبول الشعب للقيادة. وعنصر الإنجاز. المتعلق بمدى إنجاز القيادة لما هو منتظر منها من قبل الشعب.
وفي الختام، فإن المرحلة التاريخية الأخطر التي يمر بها الشعب الفلسطيني تتطلب منا جميعا الارتقاء الى مستوى تضحيات الشعب الفلسطيني العظيم. بمراجعة نقدية جادة لتجربتنا النضالية الطويلة، وتوظيف دروسها في بلورة رؤية نهضوية تحررية ترتكز على الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ومرتكزها الحرية والعودة وتقرير المصير. وتحقيق الوحدة الوطنية الحقة على قاعدة الشراكة في الميدان وفي القرار وفي التأسيس للمستقبل. واتخاذ خطوات حاسمة نحو التغير الضروري قادة وقوى سياسية وجماهير لصنع التغيير. فالتحديات الجسيمة التي نواجهها اليوم يفترض بها ان تكون حافزا لإعادة بناء الذات.
لقد أثبت شعبنا الفلسطيني المناضل القابض على الجمر في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس وداخل مناطق 1948 والشتات. أنه قادر على الصمود والمقاومة. ففي قلب كل محنة يكمن الأمل بالمستقبل. لكن هذا الأمل يحتاج رؤية وطنية تحررية جامعة لكافة مكونات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، وفقا للقاسم المشترك الأعظم. وقيادة مؤهلة ومعارضة مسؤولة تديران الاختلافات في إطار الوحدة والمصلحة الوطنية العليا.
في خضم التضحيات الجسيمة التي ما يزال شعبنا الفلسطيني يقدمها على امتداد أكثر من قرن. ووسط الأهوال التي يعانيها من إبادة جماعية وتطهير عرقي، وتهجير وتدمير. تكمن قوة نهوضه المستقبلي في تلك الروح الصامدة والإرادة التي لا تنكسر.
الطريق صعب وطويل، لكن لدينا الإيمان اليقيني بتفوق قوة الحق على حق القوة مهما طال الزمن وعظمت التضحيات. ولدينا الإرادة والعزيمة لبلوغها. ولدينا الفرصة للنهوض. وبناء فلسطين جديدة، تتحقق فيها الحرية، والعدالة والكرامة.
وستبقى فلسطين، كما كانت عبر تاريخها الممتد لآلاف السنين، عصية على الزوال. وسيبقى شعبها العربي الأبيّ الصامد المرابط على أرضه عصي على الفناء
انفض اجتماع المجلس المركزي وخرج ليوحي للوهلة الأولى، بما كان متوقعًا ومطلوبًا منه، وهو استحداث منصب نائب الرئيس، ولكن المدقق في التعديل الذي جرى على النظام الأساسي للمنظمة، على الرغم من عدم قانونيته لأن الجهة المخولة بتعديل النظام الأساسي للمنظمة هي المجلس الوطني الذي أنهى نفسه بنفسه حين فوض في العام 2018 صلاحياته كلها بصورة غير قانونية للمجلس المركزي؛ يرى أن التعديل يخول الرئيس بتعيين - بترشيح منه - نائب لرئيس اللجنة التنفيذية وبمصادقة أعضائها، وله أن يكلفه بمهام، وأن يعفيه من منصبه، وأن يقبل استقالته، وهذا لا يحقق الغرض الذي أراده الضاغطين لاستحداث المنصب، وهو تعيين نائب للرئيس بصلاحيات كاملة يقوم بمقام رئيس السلطة في حياته (أكرر في حياته)، ويخلفه بعد وفاته، حتى نص التعديل لا يضمن تولي حسين الشيخ رئاسة اللجنة التنفيذية في حال حصول شغور في منصب رئيس المنظمة، فاللجنة التنفيذية هي المخولة بانتخاب رئيسها ولكنها غير مخولة بانتخاب نائبه!
والشيء بالشيء يذكر. حيث أن المرسوم السابق الذي أصدره الرئيس في تشرين الثاني 2024، ينص على أن يخلفه رئيس المجلس الوطني في رئاسة السلطة، على أن تجرى انتخابات رئاسية خلال تسعين يومًا تجدد لمرة واحدة فقط، في مخالفة صريحة للقانون الأساسي للسلطة الذي ينص على أن رئيس المجلس التشريعي يحل محل الرئيس في حال شغور منصبه، على أن تجرى الانتخابات خلال ستين يومًا كما جرى بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات. وإذا لم تجر الانتخابات نتيجة ظروف قاهرة مثل القائمة حاليًا، أو إذا كانت، وهذا هو الدافع الحقيقي وراء المرسوم، هناك خشية من عدم فوز المرشح الذي تختاره اللجنة المركزية لحركة فتح، خصوصًا إذا ترشح القائد الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي في مواجهة المرشح الرسمي للحركة، فسيتم التذرع بالذريعة ذاتها التي ألغيت بسببها الانتخابات المقررة في العام 2021، وهي عدم السماح بإجراء الانتخابات في القدس.
ما سبق يوضح أن استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية لا يأتي في سياق إصلاح حقيقي، الذي يتحقق من خلال تغيير شامل يشمل الرؤية والمسار والإستراتيجيات وتفعيل المؤسسات المجمدة فعليًا، وتغيير الأشخاص الذين في معظمهم تقادموا وترهلوا وفسدوا، وضخ دماء جديدة وشابة، وتشكيل مجلس وطني جديد يشارك فيه ممثلون من مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني وكذلك المرأة من خلال تمثيل حقيقي وفاعل، وليس من خلال استجابة شكلية للضغوط الخارجية، وهو أغضب الفلسطينيين، ومعظم الفصائل، لأنه لم يحقق ما يريدوه من إصلاح ووحدة ومشاركة في تقرير مصيرهم، ولن يرضي الولايات المتحدة الأميركية والأطراف الإقليمية التي تطالب منذ فترة بإيجاد سلطة وقيادة فلسطينية جديدة أكثر طواعية للشروط الأميركية والإسرائيلية، وحاولت أن تحقق ذلك بتكليف شخص لرئاسة الحكومة من خارج المقربين والمساعدين للرئيس بصلاحيات كاملة وتحويل الرئيس إلى منصب فخري، كما حاولوا مع سلفه، وتحايل عليهم الرئيس عباس وقام بعد مراوغة طويلة بتكليف محمد مصطفى المقرب منه بتشكيل الحكومة، وقام خلال الأشهر السابقة بتعزيز سلطته بتغيير معظم قادة الأجهزة الأمنية الجدد وتعيين بدلًا منهم ضباط من الحرس الرئاسي الموالين له تمامًا؛ أي إن الرئيس يركز على تعزيز نفوذه ولم يفوض صلاحياته لأحد غيره، ولم يحسم أمر خليفته لأن يدرك أن العد العكسي لعهده يبدأ مع معرفة من خليفته، لذلك هو الآن، لا مع ستي بخير ولا مع سيدي بخير. فالمجلس المركزي المشكل على المقاس المطلوب حقق ما أراده الرئيس، وهو تثبيت رئاسته وتحكمه في النظام السياسي الفلسطيني بمختلف مكوناته، وحسين الشيخ نائب رئيس اللجنة التنفيذية رئيس دولة فلسطين الذي انتخبه سابقا المجلس المركزي وليس اللجنة التنفيذية، وليس نائب رئيس السلطة الذي حسم سابقا بالمرسوم الدستوري بأن يتولى رئيس المجلس الوطني رئاسة السلطة لفترة انتقالية، طبعا الرئيس يحرص على عدم حسم أمر الخليفة وبقاء التنافس قائما، ولكن مع خضوع متدرج بطئ فهو يعرف أن لا غنى عنه، من هنا نهتف عاش الرئيس المصر على الاحتفاظ بمفاتيح السلطة كلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا بدون معالجة أي شيء فاستراتيجية البقاء والانتظار هي المعتمدة بلا منازع.
لست بحاجة إلى من يقول لي أن كل ما يجري غير قانوني وغير شرعي، فأنا أعرف ذلك ولكن من الضروري إظهار المذبحة القانونية وليس السياسية فقط، لأنه لا يتم من خلال الاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات، فكل المؤسسات لم تنتخب منذ فترة طويلة، ولا يستند إلى توافق وطني ولا إلى النظام الأساسي للمنظمة الذي يتطلب تشكيل مجلس وطني جديد منذ فترة طويلة، ولا إلى القانون الأساسي الذي قتل تماما عندما تم حل المجلس التشريعي المنتخب قبل انتخاب مجلس جديد. أما المؤسسات القائمة فهي أبعد ما تكون عن أن تمنح الشرعية لأحد، خصوصًا بعد حصاد الفشل المتواصل، فلم يتم دحر الاحتلال وتجسيد الاستقلال، لا عبر المفاوضات والتنازل ولا من خلال المقاومة، ما يوجب المراجعة والتقييم والتغيير.
"أولاد الكلب" ليس أسوأ ما حدث
ليس الأمر الأهم والأخطر والأسوأ الألفاظ التي استخدمها الرئيس في خطاب افتتاح المجلس المركزي، بل الأخطر في أنه ساوى بين حماس والاحتلال في المسؤولية عن الإبادة الجماعية (خلافًا لبيان المجلس المركزي) الذي حمل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن الإبادة الجماعية والنكبة الجديدة، إن لم يكن قد حمَّل الرئيس حماس المسؤولية الأكبر، وطالبها بالتخلي عن السلطة وتسليم سلاحها، وتسليم الأسرى لديها، وتشكيل حزب سياسي؛ أي الموافقة على الشروط الإسرائيلية من دون تحقيق أي شيء، وبلا ضمانات بتحقيق أي شيء في المقابل، وإنما تقديم أوراق اعتماد على أمل قبول بقاء السلطة في الضفة وعودتها إلى القطاع، فضلًا عن مطالبة حماس بالموافقة على الالتزامات التي تلتزم بها منظمة التحرير.
كما دعا بعد كل ذلك في مفارقة غريبة عجيبة إلى حوار وطني من أجل تحقيق المصالحة الوطنية. حوار حول ماذا، كما أن الدعوة لم تؤخذ بجدية من أي طرف! فبعد الخطاب الذي أبقى القديم على قدمه وواصل التدهور ولم يفتح نافذة الأمل، لم يتبق سوى الدعوة الصريحة لحماس برفع الراية البيضاء.
فإذا كانت حماس مسؤولة عن الإبادة قبل أو جنبًا إلى جنب الاحتلال، فيجب محاكمتها ومساءلتها وعقابها وليس الحوار من أجل الوحدة معها.
قد تتفق أو لا تتفق مع طوفان الأقصى، ولكن لا جدال أن الاحتلال يتحمل المسؤولية الكاملة عن وقوعه، وهو لا يحتاج إلى ذرائع مع أنه جاهز لاستغلال أي فرصة كما حصل فعلًا، من دون القفز عن ضرورة وأهمية تقييم طوفان الأقصى تقييمًا شاملًا مسؤولًا ومساءلة حماس (مثلما لا بد من مساءلة مختلف الأطراف عما فعلت وما اوصلت الشعب والقضية اليه)، وما يدل عليه من أخطاء في الحسابات والتقديرات أدت إلى نتائج وخيمة.
تعميم نموذج السلطة ونقله إلى غزة ليس إنجازًا وليس مضمونًا
لو سلمنا جدلًا بأن حماس نفذت شروط الرئيس، فهل يستطيع استلام سلاحها في ظل أن سلطته غير موجودة في القطاع وترفض دولة الاحتلال عودتها إليه، وتعتبر الرئيس محمود عباس على الرغم من كل تنازلاته بأنه يمارس الإرهاب الدبلوماسي، ولا يفرق نتنياهو، كما صرح مرارًا وتكرارًا، بين حماس وفتح وعباس .
إضافة إلى ما سبق، هل ما يجري في الضفة نموذج يستحق تعميمه على القطاع، فهل السلطة في الضفة لها سلطة، أم السيادة والسيطرة الأمنية الكاملة يقوم الاحتلال بتقويضها بشكل منهجي ومتدرج، وصولًا كما يستنبط من برنامج الحكومة الإسرائيلية وممارستها، إما إلى حلها وإقامة إدارات محلية بدلًا منها، أو تفريغها بالكامل من محتواها السياسي والوطني والتمثيلي.
وبعد تأكيد المجلس المركزي في اجتماعه الأخير قراراته التي اتخذت منذ دورة اجتماعاته في العام 2015، مع تعليق تطبيقها كما تشير الفقرة التي تتحدث عن قيام اللجنة التنفيذية بوضع الآليات الكفيلة بتطبيقها، سيواصل الاحتلال تقويض السلطة بهمة أكبر، لأن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تريد أي إطار سياسي موحد يجسد الهوية الوطنية، ويعكس وحدة الضفة والقطاع، ويبقي باب إقامة الدولة الفلسطينية مفتوحًا، حتى لو كان يتعاون معها، ويجسد الالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية المترتبة على اتفاق أوسلو من جانب واحد.
لو كانت القرارات جدية التي اتخذها المجلس المركزي، خصوصًا بشأن إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، لما تمت شيطنة حماس، بل تتم المسارعة إلى فتح الأقفال التي تعيق إقامة الوحدة الوطنية، على أساس برنامج واحد وقيادة واحدة وسلطة واحدة وسلاح واحد تحت مظلة منظمة التحرير الموحدة، وهذا يمكن أن يكون بالشروع في تطبيق قرارات إعلان بكين .
الجدير بالذكر أنه اتخذت في السابق عشرات القرارات من دون تطبيق، ولأن لو توفرت النية لتطبيقها، فهذا يتطلب استنفارًا وطنيًا شاملًا، لكل مكونات النظام السياسي، بما في ذلك الفصائل والنقابات والاتحادات والمؤسسات على اختلافها، إضافة إلى إعلان حالة الطوارئ استعدادًا لردة فعل دولة الاحتلال، وليس إعلانه وإبقاء كل شيء على حاله؛ ما يعني أنه لذر الرماد في العيون وإبقاء القديم على قدمه.
حتى لا تكون المتغيرات على حساب الفلسطينيين
على الطريق هناك متغيرات في الإقليم والعالم حصلت وفي طريقها للحدوث، لا بد من الاستعداد لها بمختلف احتمالاتها، مثل إمكانية التوصل إلى اتفاق إيراني أميركي، وإنهاء الحرب الأوكرانية، ومعرفة مصير الحرب التجارية، ومصير سوريا، واستمرار أو توقف الإبادة الجماعية، والصفقات الكبرى بين الدول الخليجية والإدارة الأميركية التي يمكن أن تترافق أو تتبعها اتفاقات إبراهيمية جديدة مع عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، وهناك مؤتمر دولي في حزيران القادم في نيويورك للدفع بإقامة دولة فلسطينية، فضلًا عن الصراع المتصاعد لرسم عالم جديد لن تكون فيه الولايات المتحدة الدولة العظمى المسيطرة وحدها على العالم.
كل هذه المتغيرات تستوجب أن يكون الفلسطينيين جاهزين للتفاعل معها لكي لا يكونوا الخاسرين منها، أو ليقللوا الخسارة ويعظموا الفرص المتاحة.
الأعداء يتفقون على مواجهة عدو مشترك
الاستعداد الفلسطيني يكون إما في وحدة على أسس وطنية وديمقراطية وشراكة حقيقية، وهذا متعذر في ضوء خريطة القوة الحالية، وتوجهات القيادة الرسمية، ونتائج المجلس المركزي التي تعمق الانقسام وتعزز الهيمنة والتفرد وعدم وضوح رؤية حماس واولوياتها، أو الاتفاق على خطة مشتركة في مواجهة الإبادة الجماعية والضم والتهجير ومخطط تصفية القضية من مختلف أبعادها، وتعطي الأهمية لإعادة الإعمار وتطبيق الخطة العربية، وتشكيل وفد فلسطيني موحد للتفاوض تحت راية منظمة التحرير، وهذا صعب ولكن ليس مستحيلًا، لأن التاريخ القديم والجديد يشير إلى توحد حتى الأعداء في مواجهة عدو مشترك وخطر داهم يهدد الجميع، فهل تتم المسارعة إلى الموافقة على خطة مشتركة لإحباط الخطر المشترك أم تبقى دوامة التدمير الذاتي هي المسيطرة؟