الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   02 أيار 2025

| | |
التآكل الذاتي والاستهداف الخارجي: سوريا وفلسطين نموذجا
غانية ملحيس

ما يحدث حاليا في سوريا وفلسطين ليس قدرا محتوما. وليس فقط نتاجا لمؤامرات خارجية - دون إنكار وجودها أو انتقاص الدور الرئيس للخارج فيما آل إليه حالنا العربي منذ بدء الغزو الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري لبلادنا الممتدة قبل أكثر من قرنين. 

ولا أجافي الحقيقة بالقول بمسؤولية ذاتيّة موازية عن واقعنا المظلم نتحملها جميعا. ليس فقط دولا وحكومات ومعارضة، وإنما، أيضا، شعوبا ونخبا وأفرادا- رغم تفاوت الوزن النسبي للمسؤوليات. 

فلم تكن المعارضة بمستوى المسؤولية التاريخية مع التمييز بين من ارتهن منها للمحاورالخارجية، وبين من حافظ على استقلاله، أو حاول التمايز عن الاستقطابات. 

وام تكن الشعوب ضحية فقط، بل كانت أحيانا شريكة بالصمت، أو الخوف، أو الانخداع بالشعارات الزائفة، أو المهادنة للتهرب من كلفة المواجهة. ولم تكن النخب السياسية والثقافية ضحية الإقصاء، بل شريكة في التواطؤ والاستقطاب والإقصاء والتحريض.

ولم يكن الأفراد ضحايا عندما آثروا السلامة الشخصية ليأمنوا فأغلقوا قلوبهم وعقولهم وعيونهم وأبوابهم، وأحجموا وعن إخماد الحريق في بيت جارهم ظنا بإمكانية النجاة.

فالدول والكيانات لا تنهارعندما تحتل عواصمها من أعدائها. بل حينما تحتل الأنظمة فكرة المواطنة. وعندما يستبدل العقد الوطني والمجتمعي بتحالفات فئوية تنتج دولا هشة فارغة الجوهر، ومجتمعات ممزقة ضعيفة المناعة. 

والحفاظ على الدولة الوطنية والتماسك المجتمعي لا يقتصر فقط على حماية الحدود الخارجية من الأعداء الحقيقيين والمتوهمين. بل يكمن أولا في الحفاظ على حق المواطنة باعتباره عماد المناعة المجتمعية، وأساس الوحدة والتماسك الوطني. عبر حماية وتحصين البنية المجتمعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية الخ…، للتمكين المجتمعي والصمود المقاوم والتأهل للانتصار.

ويشكّل الواقع السوري والفلسطيني نموذجين صارخين للتشابك المعقّد بين عوامل التآكل الذاتي والاستهداف الخارجي. ففي الحالتين، لم تكن الكارثة الوطنية نتاج عدوان خارجي فحسب، بل نتيجة مسار طويل من التدهور الداخلي، القيمي والسياسي والمؤسساتي، الذي فتح الباب واسعا أمام الاختراقات الأجنبية، وأفقد المشروع الوطني مناعته الذاتية.

ففي الحالة السورية، جاءت الثورة عام  2011كتعبيرعن حيوية شعبية كامنة تطلعت للخلاص من نظام استبدادي مركزي طوّع الدولة لحساب سلطة أمنية مغلقة. لكن افتقار هذا الحراك إلى قيادة وطنية موحدة، ورؤية تحررية واضحة، إضافة إلى عسكرة الصراع المبكرة وتحوله إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، أدّى إلى تفتت النسيج الوطني وانهيار مؤسسات الدولة، وفتح الأبواب أمام تدخلات كارثية من قوى إقليمية ودولية طامعة ومتربصة، جعلت من سوريا ميدانا لحروب الآخرين. وترافق ذلك مع صعود قوى “معارضة” رهنت نفسها للأجندات الخارجية، وغياب مشروع بديل يعيد تأسيس الدولة على قاعدة المواطنة والسيادة، بعيدا عن الاصطفافات القومية والطائفية أو التبعية السياسية.

أما في الحالة الفلسطينية، فإن الانقسام السياسي فتح وحماس والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة. لم يكن سوى أحد تجليات الانهيار الأعمق في البنية الوطنية. لقد تحولت السلطة إلى أداة ضبط إداري تخدم اتفاق أوسلو في الضفة الغربية، فيما تحوّلت المقاومة إلى وسيلة لتعزيز سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة. في ظل فشل الطرفين في بلورة استراتيجية تحرر وطني شاملة. 

وبينما يتعرض الشعب الفلسطيني لإبادة جماعية وتطهير عرقي وتجويع وتجريف يومي لأرضه وحقوقه في الضفة والقطاع. تواصل النخبة السياسية تمترسها خلف سلطات منزوعة السيادة والشرعية، عاجزة عن استعادة زمام المبادرة، أوعن اجتراح خطاب مقاوم جامع يستند إلى إرادة الناس لا إلى التوازنات الإقليمية والدولية والتمويل المشروط.

في كلا السياقين، تبرز ظاهرة “الانفصال عن الشعب كعلامة فارقة: أنظمة ونخب تحكم بلا تمثيل، وتتحدث باسم شعوب لم تعد تؤمن بشرعيتها، وتستند إلى شرعية دولية أو إقليمية هشّة، عوضا عن الشرعية الوطنية. هكذا تم تفريغ السياسة من مضمونها التحرري والاجتماعي، لصالح منظومات حكم تقاتلت عليها أو تماهت مع شروط الهيمنة الدولية.

هذه المعضلات ليست قدرا محتوما، بل نتيجة مسارات قابلة للتعديل إن وجد المشروع البديل: مشروع وطني تحرري، يعيد الاعتبار للناس بوصفهم الفاعل المركزي في المعادلة، لا موضوعا للتوظيف أو القمع أو الاستتباع. مشروع يعيد تعريف الوطنية على أساس السيادة الشعبية، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال عن المحاور المتصارعة. فلا تحرر من دون مساءلة داخلية، ولا مقاومة من دون إصلاح عميق لبنى السلطة والمعارضة على السواء.

فالشعوب لا تهزم حين تحتل أراضيها وتهدم مساكنها ومستشفياتها ومصانعها ومعابدها ومدارسها. كما يدلل التاريخ الإنساني المدون قديمه وحديثه. رغم فداحة تداعيات ذلك على حياتها. 

وإنما تضعف مقاومتها عندما تتوه البوصلة، ويسقط المشروع الوطني الجامع، وتغيب القيادة الوطنيه المؤهلة، وتفقد الثقة بالنخب السياسية والثقافية، وتتعاظم شكوك أفرادها ببعضهم، فتنهارعوالمهم، ويستسلمون للعجزعند تساوى تداعيات ظلم الحاكم المحلي مع عدوان المحتل الأجنبي. حيث وطأة المعاناة سواء، بغض النظرعن المتسبب بها، أكان عدو أجنبي أم من ذوي القربى. فتختلط وتتشوه الرؤى. ويخيل للبعض أن العدو الطامع في الوطن المتربص بفرصة مواتية ربما يكون عونا لكف يد الظالم، وفقا لقاعدة"عدو عدوي صديقي"، فالغريق يتعلق بقشة، ولا يهتم بمن يمدها إليه.  

تسقط الدول وتنهار الكيانات، فقط، عندما تتماثل المعاناة التي يتسبب بها العدو الوجودي مع تلك التي يتسبب بها ظلم وبطش ذوي القربى. 

والشعوب تنكفئ عن الثورة والمقاومة، ليس لأنها باهظة الكلفة- كما يروج السفهاء-. فالثوار يدركون تماما أنهم يحملون أرواحهم على أكفهم ويفتدون اوطانهم وشعوبهم بحياتهم لتغييرمستقبل الأجيال الفتية، وتجنيبها ما اختبروه من ظلم وقهر وذل وهوان.

ويخفت نضالها عندما تفقد الثقة بالطبقة السياسية /سلطة ومعارضة/، وتتشكك بصوابية وجدوى خيارات القيادة السياسية بالمساومة على الحقوق الوطنية والتاريخية المشروعة غير القابلة للتصرف في الحياة والحرية والكرامة وتقرير المصير. بذريعة الواقعية السياسية. 

وعندما ترى جاهزية القادة والنخب للتفريط بالسيادة واستبدالها بالسلطة، وتحويلها إلى أداة للسيطرة. وعندما تستعيض عن الوحدة الوطنية بتقاسم النفوذ وإدارة الانقسامات السياسية والطائفية والمذهبية والفصائلية. وعندما لا تتعظ بما آلت إليه دول شقيقة، وتستنسخ ذات التجارب المدمرة للذات. 

لقد أصبحت سوريا نموذجا حيا مريرا لما يحدث حينما تتغول السلطة وتستقوي بالخارج على شعبها. 

ومثلها تمضي فلسطين على ذات النهج فباتت نموذجا حيا للبؤس والعجز. منذ تحولت الثورة التحررية إلى سلطة حكم ذاتي محدود تحت احتلال استيطاني إجلائي- إحلالي. ومؤسسات الحكم إلى امتيازات فئوية وتنظيمية وفصائلية وشخصية. والشرعية إلى احتكار لأصحاب النفوذ الذين يستقوون على بعضهم وعلى شعبهم بالخارج.

ولعل الدلالة الأهم فيما آل إليه الحال في الساحتين السورية والفلسطينية. 

هو أن الدول والكيانات لا تسقط فجأة. بل تتآكل وتتصدع وتتفكك بالتدرج وببطء. حين تغيب الرؤية والمشروع الوطني الجامع. والقيادة الموحدة المؤهلة، ويتم الاستقواء على الشعب، ويختل التوازن بين السلطات، وتتغول السلطة التنفيذية على السلطات التشريعية والقضائية. وتسطو على الرواية عبرالسيطرة على الإعلام، وتغلق أبواب الإصلاح. وتتحالف السلطة والثروة والقوة. ويستعاض عن المؤسسات بالأجهزة الأمنية. ويستبدل العقد الوطني بالولاءات الأدنى ما دون الوطنية /العرقية والجهوية والدينية والطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية والحزبية والتنظيمية/. فتتقوض المناعة الذاتية الوطنية والمجتمعية وتنعدم اتجاه القوى الخارجية الطامعة المتربصة. وتتفاعل وتتضافر تداعيات القمع الداخلي مع التدخل الخارجي، ما يؤسس لانهيار تدريجي وشامل.

 غير أن تجنب هذا المصير المظلم ممكن ومتاح. لكنه لا يكون بمواصلة ذات النهج الذي اعتدناه على مدى أكثر من قرن. بالتنصل من مسؤوليتنا الذاتية عما يحل بنا من كوارث. والاكتفاء بإلقاء اللوم على الخارج، دون التقليل من دوره الجوهري.

فلم تخف الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وإسرائيل نواياهم. ولم ينكروا أهدافهم بالسيطرة على عموم المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة التي تقع في مركز العالم. وتشرف على خطوط التجارة والملاحة والمواصلات والاتصالات الدولية. وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة، وطاقة أحفورية تشكل عصب الاقتصاد الدولي، باحتياطيات مؤكدة هي الأضخم عالميا والأقل كلفة استخراجية. ما يجعل السيطرة عليها عنصرا حاسما في ترجيح موازين القوى الدولية. عبر استعمار فلسطين، التي تتموضع في مركز وصلها وفصلها الجغرافي والديموغرافي والحضاري، واستبدال سكانها العرب الأصليين بمكون أجنبي مغايرعرقيا ودينيا وثقافيا وحضاريا. يضطلع بدور وظيفي مهمته عزل دول وشعوب المنطقة وتفريقها عن بعضها. وتوظيف تنوعها واختلافات مكوناتها الأصيلة، لإثارة الفتن البينية والداخلية. لمنعهم من استعادة وحدتهم الجغرافية والديموغرافية والحضارية والسياسية والاقتصادية، وتعطيل نموهم وتنميتهم، وعرقلة نهوضهم من أجل إدامة السيطرة الاستعمارية الغربية على عموم المنطقة، ومواصلة التفرد بالقيادة الدولية.

ولم يخف التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري رؤيته لإسرائيل كامتداد للحضارة الغربية وتشاركه ذات القيم (القائمة على التوسع الاستعماري والإبادة الجماعية والتطهير العرقي للشعوب الأصيلة). 

ولم يواري قادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تهيمن على النظام الدولي تقييمهم لإسرائيل كأرخص وأنجح استثمار أمريكي خارجي. والتزامهم بحمايتها باعتبارها جزء لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي وعموم الأمن الغربي. وأثبتوا مصداقيتهم بالمشاركة بكافة الحروب التي خاضتها إسرائيل منذ استحداثها قبل 77 عاما.

 لقد نجحت إسرائيل، وما تزال، بأداء دورها الإمبريالي الوظيفي بكفاءة بالغة سرعة وكلفة. ليس فقط بسبب الدعم الأمريكي والغربي رغم أهميته الحاسمة في بقائها. وإنما أساسا بسبب المناعة الذاتية التي اكتسبتها بفعل إرادي. وتوفيرها لموجبات ومقومات النجاح: بامتلاك الرؤية والتمسك بالهدف والمشروع ووضع الخطط التنفيذية لبلوغه، بتوطين عناصرالقوة (العسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية والذكاء الاصطناعي، والبنية المؤسسية، والقيادة الفاعلة، والتحالفات الدولية واللوبيات الصهيونية النشطة، والنفوذ الإعلامي والحضور الثقافي عالميا). 

وضاعف قوتها، إسهامنا الطوعي في تقويض الذات العربية المستهدفة هويتها الحضارية والقومية، والمستباحة بلادها وأراضيها وثرواتها. بسبب تخلفنا عن مواكبة التطورالمعرفي. وتجاهلنا لمقومات ومكامن قوتنا ومنعتنا، وإغفال تراثنا الحضاري الثري وإسهامنا الفعال في تقدم الحضارة الإنسانية، التي يدلل عليها تاريخنا. وتقاعسنا وامتناعنا عن توظيف وتفعيل عناصر القوة الثابتة التي نمتلكها ونتفوق بها بما لا يقاس (الموقع الجغرافي في مركز العالم. وعدد السكان / نحو 500 مليون وفقا لتقديرات العام 2025، يمثلون 6% من إجمالي سكان العالم. 22% منهم في الجناح الآسيوي و78% في الإفريقي. والمساحات الشاسعة / 13.487.814 كم مربع تمثل 7.8% من إجمالي مساحة العالم- 28% في الجناح الآسيوي و 27% في الإفريقي. وسواحل طويلة  تصل إلى 22.828 كم، تطل على المحيطين الأطلنطي والهندي وثلاثة بحار: البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، وتشرف على طرق الملاحة والتجارة الدولية عبر مضيق باب المندب وقناة السويس اللذان تمر عبرهما أكثر من 10% من التجارة البحرية العالمية (80% من بضائع العالم تنقل بحرا). ومضيق هرمز الذي تمر عبره 30% من التجارة النفطية العالمية. فضلا عن الثروات الطبيعية والمعدنية المتنوعة الوفيرة، والطاقة الرخيصة/ 60% من الإنتاج النفطي العالمي، وأكثر من ثلثي الاحتياطي النفطي العالمي/. فجميع عناصرالقوة العربية ثابتة/ ممنوحة غير مكتسبة/، وتشكل- عند تفعيلها- قوة هائلة مؤثرة إقليميا ودوليا.

إلا أننا ما نزال نسهم في تبديد قوتنا الذاتية. بجهلنا وتخلفنا وتواطؤ القادة والنخب وصمت الشعوب، وتهاوننا جميعا في منع تعمق وتجذرالاختلالات البنيوية - الفكرية والقيمية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، ما قوض مناعة شعوبنا ودولنا فرادى والأمة مجتمعة. 

فأصبحت إسرائيل (التي لا يتجاوز عدد مستوطنيها اليهود 7.2 مليون، يشكلون 0.09% من إجمالي سكان العالم، ويقيمون دولتهم وفقا للحدود المعترف بها دوليا على 20.770 كلم2 تمثل 78% من مساحة فلسطين الانتدابية، 0.014% من اجمالي مساحة العالم) قوة إقليمية فاعلة يحسب حسابها دوليا. وباتت تسيطرعلى كامل مساحة فلسطين الانتدابية، وجنوب لبنان وسوريا وعلى كامل المجال الجوي اللبناني والسوري، وتهدد جميع دول الإقليم العربية والإسلامية. لضمان تفوقها العسكري على دول الإقليم مجتمعة وتفردها بامتلاك السلاح النووي. 

وعليه ، لم تكن التدخلات الخارجية ممكنة في بلادنا العربية الإسلامية الممتدة عموما، وفي سوريا وفلسطين - موضوع المقال - خصوصا، لولا التصدعات البنيوية الداخلية، والصراعات الأهلية التي سمحت لإسرائيل بالوجود والتوسع في عمق أوطاننا. فليس هناك عدو - مهما بلغ جبروته - قادر اختراق واحتلال حصن منيع البنية، والاستقرار فيه.

يحفزني على تركيز مقالي على الواقع الذاتي الفلسطيني والسوري وعموم العربي المفرط في ظلمته، ثلاثة أسباب أهمها: -

  • السبب الأول: تفاقم حالة الإنكار وتزايد تجاهل الطبقة السياسية وبعض المثقفين الفلسطينيين والعرب للتحولات التكوينية الجوهرية الجارية على الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية واليمنية والسودانية وعموم الدول العربية. ومسارعة النظم والقوى الانهزامية للترويج لثقافة الهزيمة والدعوة للاستسلام بذريعة حقن الدماء ووقف الإبادة والعدوان. ولا يلفتهم ما يحدث في لبنان منذ إبرام اتفاق وقف إطلاق النار قبل ستة أشهروتوقف المقاومة كليا، والذي لم يوقف توغل إسرائيل في جنوبه واستباحة كامل أرضه وشعبه.  ولا التوغل الإسرائيلي عميقا في سوريا والاعتداء على أراضيها وعاصمتها، بعد تدمير كل قدراتها العسكرية. وبالرغم من استدارة النظام الجديد الذي ساهمت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها بتأهيله لخلافة النظام المخلوع، وعلى الرغم من امتثاله وإعلانه الجاهزية لمهادنة إسرائيل وتطبيع علاقاته معها. جاء رد قادتها حاسما مقرونا بالفعل، بأنهم لا يرتضون أقل من تفتيتها وتحويلها إلى كيانات عرقية وطائفية ومذهبية.
  • السبب الثاني : تركيز بعض المثقفين الفلسطينيين  والعرب  في سعيهم المحمود والمقدر  للتصدي لحملات بث اليأس والترويج للهزيمة والدعوة للاستسلام،  بالتركيز في مقالاتهم على المأزق الوجودي الإسرائيلي وتفاقم الصراع الداخلي في المجمع الاستيطاني الصهيوني بين اليمين الديني والقومي المتطرف المهيمن على السلطتين التنفيذية والتشريعية وبينّ الصهيوينة العلمانية(رغم توافقهم الكامل اتجاه حرب الإبادة والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني والتوسع في الجوارالعربي وإلزام تركيا وإيران بالانكفاء  داخل حدودهما القطرية وتقييد قدراتهما العسكرية). وسعيه الحثيث للاستيلاء على السلطة القضائية، لإحكام سيطرته على الدولة، وتسريع تنفيذ مشروع التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال إعادة هندسة الشرق أوسط الجديد لتفرد إسرائيل بالقيادة الإقليمية. والذي بلغ مراحله النهائية قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023، وتسبب طوفان الأقصى بعرقلته، دون أن يقصد ذلك مخططيه، الذين أرادوا، فقط، تذكير العالم بالمظلومية الفلسطينية، وتعذر تجاوز حقوق الشعب الفلسطيني في أية ترتيبات إقليمية ودولية. فشن التحالف حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني لاستئصاله جغرافيا وديموغرافيا وحضاريا ومحوه من الوجود. وأغفل -بهمجيته وتوحشه غير المسبوق في التاريخ الانساني- أنه، بذلك، فجر صحوة عالمية على المظلوميات الهائلة التي تكابدها شعوب العالم قاطبة، بما فيها شعوب العالم الغربي ذاته. وأظهر عمق الاختلالات الهيكلية الداخلية والخارجية، وعمق التصدعات التكوينية على امتداد العالم بأسره.  والتي سرّع انكشافها، وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. واستنفاره كل قواها لإخضاع دول وشعوب العالم من الحلفاء والأصدقاء والأعداء على السواء لجبروت القوة التدميرية. التي باتت تهدد الأمن والسلم العالمي بأسره.

 وأردت بالتركيز في هذا المقال على مكامن ومخاطر الخلل الذاتي، الحد من الإفراط بالتفاؤل الذي يراهن عليه البعض، المتعلق بالحتمية التاريخية بزوال إسرائيل وفقا لمعتقدات دينية. ولفشل تجارب الاستعمار الاستيطاني الأجنبي العنصري في بلاد مأهولة بسكانها الأصليين، ولفشل نموذج الاستعمار الاستيطاني الإفرنجي / الصليبي/ المماثل في فلسطين ذاتها، واستدام 88 عاما قبل عشرة قرون. وأخضع المشرق العربي قرابة قرنين قبل أن ينهض ويتعافى. والمراهنة على التفكك الذاتي للكيان الصهيوني.

حيث تحقق الحتمية التاريخية، كما هو ثابت ليس ذاتي الحركة، وانما يحتاج إلى تفعيل لتسريعها، عبر النهوض بإصلاح الاختلالات البنيوية أولا فلسطينيا وسوريا وعربيا. كما أن المراهنة على التفكك الذاتي يستغرق وقتا طويلا وليس حتميا في ظل تسارع التفكك الفلسطيني والعربي والإقليمي.

  • والسبب الثالث: التأكيد على إمكانية تجنب المصير الفلسطيني والسوري والعربي المظلم، أولا بالتغير ذاتيا، باعتبار ذلك حجر الأساس في التغيير للشروع بالنهوض وتصويب اعوجاج مسار التاريخ الفلسطيني والسوري والعربي والإقليمي، عبر توفير موجباته ومستلزماته للخروج من هذا المسار الانحداري برؤية نهضوية شاملة، تبدأ بإعادة بناء المشروع الوطني على أسس جديدة أهمها:-
  • 1.استعادة الشرعية الشعبية والقانونية عبر عقد اجتماعي جديد يؤسس للشراكة، من خلال بناء نظم تمثيلية جامعة، تكون فيه المواطنة المتساوية قاعدة الانتماء، لاالطائفة أو الحزب أو التنظيم أو الفصيل.
  • 2.إصلاح سياسي عميق وشامل يضمن الفصل بين السلطات، ويعيد الاعتبار للمؤسسات المستقلة، ويحررالمجال العام من هيمنة الأجهزة الأمنية والتحكم الفئوي، ويجعل من سيادة القانون أساسا للعدل والاستقرار.
  • 3.تجديد النخب وبناء قيادة وطنية جامعة لا تكتفي بتقاسم النفوذ، بل تؤمن بالمساءلة، وتنبثق من وجدان الناس وهمومهم، وتعيد الثقة بالحياة العامة وبالمصير المشترك.

4.    تحصين البنية الداخلية: الاقتصادية بالتخلي عن الاقتصاد الريعي والمساعدات الاجنبية ذات الأجندات السياسية، وبناء اقتصاد وطني يعزز يعزز الاعتماد على الذات، ويطور القدرات الانتاجية والتشغيلية، وانتهاج سياسات اجتماعية تحقق العدالة التوزيعية، وتضمن تكافؤ الفرص، والحد من الفساد، واستعادة الموارد الوطنية من قبضة الفئات المتنفذة، وتعزز المناعة الوطنية والصمود المقاوم.

5. تحرير القرار الوطني من التبعية الخارجية. فلا مقاومة فاعلة دون استقلالية القرار الوطني والقومي، ولا مشروع تحرر وطني أو قومي يمكن أن يقوم على التمويل المشروط، أو التحالفات الظرفية مع قوى تعادي جوهر قضايانا.

6. اعادة بناء منظومة القيم وبناء خطاب ثقافي جديد يعيد الاعتبار للقيم الحضارية، ويواجه الانقسامات الهوياتية والفئوية الضيقة بخطاب جامع يتأسس على التاريخ الحي والمصالح المستقبلية، ويفعل أدوات القوة العربية في وجه التفوق الصهيوني.

7.إعادة الاعتبار لفلسطين كقضية مركزية لا باعتبارها ورقة سياسية وتفاوضية. بل بوصفها اختبارا للوعي العربي، ولتماسك الإقليم، ولجوهر المشروع القومي التحرري. فالتحرر لا يهدى ولا يستجدى، بل ينتزع بالتضحيات.

 وفي الختام، لم نهزم في معاركنا لأن العدو أقوى، بل لأننا اخترنا أن نقف بلا رؤية ولا مشروع. وحين نستعيدهما نستعيد كل شيء. فالنهوض ممكن ومتاح عندما نستعيد زمام المبادرة. إن ما نحتاجه ليس فقط تفكيك البنى المهترئة التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة، بل بناء بدائل حقيقية تنبثق من إرادة الناس، وتستند إلى رؤية وطنية وقومية تحررية جامعة، تتجاوز منطق الإدارة والتسيير إلى منطق التأسيس والتخطيط والبرمجة. فكما كان الانهيار تدريجيا وتراكميا، فإن عملية إعادة البناء أيضا تدريجية وتراكمية. 

إن شعوبنا وامتنا الحية التي قاومت الاستعمار عبر تاريخها الطويل، قادرة على مقاومة الاستبداد والفساد والانقسام والهيمنة، متى امتلكت الفكرة والقيادة والأدوات. وسوريا وفلسطين، رغم الجراح، ليستا استثناء. بل قد تكونان بداية جديدة واعدة، إن امتلكنا شجاعة النقد وجرأة البناء.

 

مشاركة: