الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   16 أيار 2025

| | |
الحقائق التي فجرها ترامب: من انكشاف التبعية إلى إرهاصات الانفجار الشعبي القادم
غانية ملحيس

لم تكن زيارة دونالد ترامب إلى المنطقة مجرد جولة بروتوكولية أو استعراضا جديدا لعلاقاته الوطيدة ببعض الأنظمة العربية. بل كانت لحظة انكشاف صادمة، فجرت أمام الشعوب العربية حجم الثروات المسلوبة، والقواعد العسكرية المترامية، والقصور التي أدهشت حتى الملياردير الأمريكي نفسه، فعبر علنا عن حسده لعجزه عن امتلاكها رغم ولعه الشديد بها. في مشهد يستدعي رواية حاتم الطائي الذي ذبح فرسه لإكرام رسول كسرى، تتبدى أمامنا رمزية جديدة للاستسلام العربي، ولكن بوجه معولم أكثر تبعية وفجاجة.

ما كشف لم يكن جديدا في جوهره، بل في حجمه وعلانيته. لقد انتقل الفجور السياسي من الغرف المغلقة إلى عدسات الكاميرا. وتحول تقديم "الهدايا السيادية" على مذبح الحماية الأمريكية وشراء الاستقرار عبر عقود تجارية فلكية، وتحويل الأرض والثروة إلى رهائن في يد الإمبراطورية الأمريكية، الآيلة للتصدع والسقوط لأسباب داخلية وخارجية ذات علاقة بالأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي في آخر مراحله النيوليبرالية، لا مجال لتناولها في هذه العجالة-.

كل ذلك لم يعد يدار خلف أبواب مغلقة، بل صار جزءا من مشهد علني مروّج، توثقه العدسات ووسائل الإعلام وتطبع على هامشه الصفقات التريليونية. وأصبح الاستقرار السياسي الداخلي والخارجي الأمريكي سلعة تشترى بعقود تسليح فلكية، وتحولت الأرض والثروات إلى رهائن بيد الإمبراطورية التي تسعى جاهدة لاستعادة هيمنتها الدولية. ولم تعد التبعية تدارعبر قنوات سرية، بل باتت جزءا مكرسا من الخطاب الرسمي، مندمجة في لغة السوق والأمن والشرعية المزعومة.

ما نعيشه اليوم يشبه إلى حد بعيد لحظة ما بعد نكبة 1948، حين أدى انكشاف السلاح الفاسد والخذلان العربي إلى سلسلة انقلابات وثورات هزت المنطقة في الخمسينيات والستينيات. وكما فجّرت النكبة الأولى وعيا سياسيا جديدا، فإن نكبة غزة المستمرة – في ظل حرب إبادة جماعية وتجويع وتعطيش وتدمير ممنهج وتواطؤ عربي ودولي – تعيد توجيه البوصلة نحو الجذر العميق للمأساة: العلاقة العضوية بين الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي.

الأنظمة ذاتها التي منحت قواعدها وثرواتها للغزاة، شاركت، مباشرة، أو بصمت مريب، في خنق الفلسطينيين وتدمير ما تبقى من أوطان عربية: سوريا تمزق، واليمن يقصف، والسودان يقسم، وليبيا تفتت، ولبنان يحاصر. كل ذلك يحدث بالتزامن مع تصعيد حرب الاباده والتطهير العرقي في قطاع غزة وعلى امتداد فلسطين الانتدابية منذ أكثر من تسعة عشر شهرا. في مشهد يرقى إلى أكبر جريمة موثقة بالبث المباشر في التاريخ الحديث. 

لكن الشعوب- وإن بدت صامتة- لا تموت. فالثورات لا تولد فجأة، بل تراكمها المظالم المتواصلة والمتنامية، حين تنتهك حقوق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة وتقرير المصير.

والانفجار قادم، كما كان بعد النكبة الأولى وتكشف أسبابها العالمية والمحلية. لكنه لن يشبه ما تلاها. ولن يكون تكرارا للربيع العربي الذي تم اختطافه واحتواؤه. ولن يكون سلميا كما يحلم البعض. فما يتشكل في الأفق هو شيء أشبه بثورة 1917 الروسية، وإن كانت تنقصه حتى الآن قيادة تاريخية من طراز لينين.

لقد أخفق قادة الثورات السابقة في توفير موجبات ومستلزمات النصر. لكن اللحظة الراهنة تزداد نضوجا، لأن الشعوب باتت ترفض العيش كأموات. وهناك كتلة حرجة متعاظمة من الغاضبين والمقاومين تتنامى وتتجذر بثبات كلما تعمق الظلم والقهر وتنامى التواطؤ.

ولم تكن عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 مجرد رد فعل عسكري على تكرار الحروب واستمرار الحصار فقط.  بل لحظة مفصلية انكشفت فيها هشاشة وعوار النظام الدولي وحجم التواطؤ مع المشروع الاستعماري الاستيطاني الغربي الصهيونى العنصري. وفجّرت حجم الكراهية الكامنة تجاه الاحتلال والظلم التاريخي في الضمير العالمي، كما فجرت حجم الغضب والغبن في جنوب الكرة الأرضية، دون ان تقتصر عليه. وأعادت تشكيل خارطة التحالفات العالمية، ليس فقط حول فلسطين، بل حول جوهر العلاقات الدولية المتمركزة حول القمع والهيمنة.

 فاللحظة المفصلية التي نعيشها، باتت مرشحة لأن تكون مقدمة لتحول تاريخي عميق. وكما يعيد الاستعمار إنتاج أدواته. تستطيع الشعوب أن تعيد ابتكار أدواتها للمقاومة والتحرر.

ما ينقصنا ليس الغضب، بل المشروع. ليس الألم، بل التنظيم. ليس الشعارات، بل الرؤية الجامعة والقيادة المؤهلة. فما يحسم المستقبل لا يتوقف على موازين القوى المختل فحسب. بل على إرادة الشعوب، ووعي الفاعلين، وصلابة المقاومين، أولئك الذين ما يزالون يناضلون لتصويب اعوجاج حركة التاريخ في منطقتنا، وعلى امتداد العالم.

وهؤلاء ليسوا قلة. إنهم كثر، ويتنامون بوتائر متسارعة، ويبشرون بفجر جديد، أقل ظلما، وأكثر عدالة، في ظل انبثاق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، بات استيلاده وشيكا.

لم يعد كافيا أن نكتفي بكشف التواطؤ أو فضح النهب أو تعداد المجازر. لقد آن أوان الانتقال من موقع الضحية إلى موقع الفاعل. ومن منطق الرفض الغاضب إلى منطق الفعل المنظم. فكما أن الانفجارات الكبرى في التاريخ لم تنبع من فراغ، فإن النهوض لا ينبثق من الشعارات وحدها، بل من رؤية تحررية متكاملة، تعي صعوبة وتعقيد الواقع، وتواجهه بإرادة وصلبة وعزيمة لا تلين.

إن لحظة الانكشاف الشامل التي نعيشها اليوم، تستدعي منا جميعا إعادة بناء المشروع التحرري الفلسطيني والعربي، على قاعدة متماسكةترتكز على:

1- استعادة الوعي بتفكيك الرواية المهيمنة التي شرعنت التبعية والتطبيع والاستسلام، وبناء سردية جديدة تستند إلى الحقيقة التاريخية، والكرامة الإنسانية، ووحدة المصير الفلسطيني والعربي، ووعد الحرية.

2- بناء مشروع سياسي تحرري جامع لا يكرر أخطاء الثورات السابقة، بل يوازن بين التحرر من الاستعمار وبين البناء الذاتي والتحرر من الاستبداد، ويعيد تعريف العدو والصديق، ويحفظ الاتساق بين الأهداف الاستراتيجية والأهداف المرحلية، ويعيد بناء التحالفات الاستراتيجية الصحيحة.

3- تجديد النخب والقيادات، فلا نهوض بدون نخب وقيادات جديدة ملتحمة بالشعب، مؤمنة، شجاعة، مؤهلة، قادرة على التنظيم والتأطير والتوجيه، تخرج من رحم المعاناة الشعبية، وليس من كواليس المكاتب والصفقات.

4- تحويل الغضب إلى تنظيم فعال، والمعاناة الجماعية إلى طاقة مقاومة فالمطلوب ليس الانفجار العشوائي، بل التنظيم الشعبي القاعدي، في لجان أحياء وشبكات دعم ومؤسسات مقاومة متعددة الأدوات، حتى تصبح الأمة كلها جبهة مفتوحة للمقاومة الشاملة.

لسنا بانتظار معجزة، بل أمامنا فرصة تاريخية تتطلب الوعي والجرأة والمسؤولية والارتقاء إلى مستوى تضحيات الشعوب.  فما لم تستطع الأنظمة الرسمية فعله على مدار قرن، تستطيع الشعوب – متى توفرت لها القيادة والرؤية والتنظيم – أن تصنعه. الطريق ليس سهلا، لكنه واضح:

 من وعي الواقع إلى فعل التغيير، ومن نكبة غزة إلى نهضة الأمة.

 

 

 

مشاركة: