في سياق التحديات المصيرية التي يواجهها الشعب الفلسطيني والأمة العربية، يشكل الحوار النقدي بين المثقفين والفاعلين الفكريين أحد أهم أدوات تفكيك اللحظة الراهنة، وإعادة بناء الأفق الممكن.
من هنا، تأتي أهمية تسليط الضوء على القراءة النقدية للأستاذ خالد عطية لمقالي المعنون:
"الحقائق التي فجرها ترامب: من انكشاف التبعية إلى إرهاصات الانفجار الشعبي القادم " بوصفها إضافة نوعية تثري الفكر وتطرح الأسئلة المحورية لاستشراف سبل تجاوز الاستعصاءات البنيوية في الواقع الفلسطيني والعربي.
بداية أورد قراءة خالد عطية كما وردتني لعمقها وثرائها الفكري
" إن ما بدا لي بارزا في مقالتكم – رغم ما فيها من عمق في تفكيك منطق التبعية والاستعمار المعولم – هو الميل نحو تقديم لحظة التحول الشعبي القادمة كأفق قريب، وربما محتوم، وكأن تراكم الظلم بحد ذاته كفيل بانفجار التغيير. وهذه مقاربة تستند إلى ما يمكن تسميته "حتمية الغضب"، لكنها لا تُضيء بما يكفي المسافة الحرجة بين الوعي بالغضب والقدرة على تنظيمه ضمن مشروع فعّال. فنحن لا نشهد فقط انسدادا سياسيا، بل تفككا بنيويا في فضاء الاجتماع العربي:
• من جهة، هشاشة البنى التنظيمية التي يفترض أن تستوعب الغضب وتحوله إلى طاقة سياسية واعية.
• ومن جهة أخرى، عودة الدولة – أو بالأحرى السلطة الحاكمة – لا ككيان استبدادي فحسب، بل كفاعل متجدد يستخدم أدوات السيطرة الناعمة (الإعلام، الدين، الاقتصاد، الاستهلاك، سرديات الأمن والحداثة) لإعادة إنتاج الشرعية رغم الفشل الملموس.
في هذا السياق، لا يكفي الغضب، مهما بلغ من الاتساع، لينتج انفجارا تاريخيا، ما لم يرفق بجهد طويل النفس في بناء أدوات الفعل الجماعي: التأطير الشعبي، التنظيم القاعدي، واستعادة الفضاء العام بوصفه مجالا للنقاش، والصراع، والتفاوض، لا مجرد ساحة للانفجار العفوي أو التظاهر المؤقت. ذلك أن الانفجار غير المنظم، بلا قيادة ورؤية، لا يغير النظام، بل غالبا ما يُعيد إنتاجه في أشكال أكثر قمعا أو فوضوية، كما أظهرت تجارب ما بعد “الربيع العربي”. وهنا تتبدى الحاجة الملحة لا إلى "الوعي بالغضب" فقط، بل إلى العقل الجماعي القادر على توجيه الغضب وتنظيمه ضمن مشروع تحرر جذري لكنه ممكن. طويل لكنه ممنهج. أخلاقي لكنه لا يكتفي بالإدانة. ولعل التحدي الأكبر في هذه اللحظة التاريخية، ليس في وعي الشعوب بظلمها، بل في قدرتها على استعادة أدوات الفعل الجماعي بعد أن تفككت، وبعد تسميم الفضاء العام بمعارك الهوية، والطائفية، والاستهلاك المفرط، والعزلة الاجتماعية.
وكما تعلمنا من التحليل التاريخي الكلاسيكي، فإن العلاقة بين الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي شكلت لوقت طويل البنية الأساسية لفهم التخلف والتبعية في منطقتنا. وقد كانت هذه الثنائية – بحق – مفيدة ومضيئة في مراحل التحرر الوطني، حيث كان العدو واضحا، خارجيا في تمثله، واستبداديا في وكالته. غير أن العالم الذي نعيش فيه اليوم بات أكثر تشابكا وتعقيدا. فالنظام الدولي، كما تفضلتم بالإشارة، في حالة تحول عميق، لكنه ليس بالضرورة تحولا نحو التحرر أو القطبية المتعددة بمعناها التحرري. بل هو تحول نحو تشظي مراكز الهيمنة نفسها، وظهور قوى إقليمية ودولية جديدة تمارس أشكالا مختلفة من السيطرة، لا تختزل في الثنائيات التقليدية. فعلى سبيل المثال:
• هناك فاعلون إقليميون غير غربيين (قوى إقليمية صاعدة، صناديق سيادية، تحالفات أمنية بديلة) أصبحوا يمارسون سياسات استعمارية الطابع، من دون أن يكونوا امتدادا للاستعمار الكولونيالي القديم.
• كما أن النظام النيوليبرالي العالمي خلق فواعل اقتصادية عابرة للدول، من مؤسسات مالية إلى شركات رقمية، باتت تمتلك سلطة تفوق سلطة الدولة أحيانا، وتعيد تشكيل التبعية لا عبر الاحتلال، بل عبر الديون، التحكم بالبيانات، وإدارة الموارد عن بعد.
في هذا السياق، يبدو أن الثنائية “استعمار/استبداد” لم تعد كافيةلتوصيف واقع الهيمنة المركب، إذ نحتاج اليوم إلى أدوات تحليلية تلتقط تداخل:
• السياسي بالاقتصادي،
• المحلي بالعالمي،
• السلطوي بالرقمي،
• العسكري بالناعم،
• والهيمنة الصلبة بالاختراق الثقافي الناعم.
إننا لا نعيش فقط في عالم ينقسم إلى مركز وهامش، بل في عالم تتداخل فيه المراكز، ويتحول فيه الهامش نفسه إلى أداة لإعادة إنتاج المركز – سواء عبر استثماراته، أو احتواء مقاوماته، أو حتى تديين سلطاته وإضفاء الشرعية عليها باسم "الخصوصية الثقافية" أو "مواجهة الفوضى".
من هنا، فإن تجاوز هذه الثنائية لا يعني نفيها، بل الانطلاق منها نحو رؤية أكثر تركيبا، تدرك أن مشروع التحرر اليوم لم يعد فقط مواجهة العدو الخارجي أو الطاغية الداخلي، بل تفكيك منظومة الهيمنة في تمظهراتها المتجددة، والتصدي لأدواتها الاقتصادية والرقمية والثقافية".
في قراءته النقدية العميقة لمقالي، يسلط خالد عطية الضوء باقتدار لافت على ما يسميه "حتمية الغضب"، وهي الفرضية التي أشار إليها مقالي وتفترض أن تراكم المظالم كاف لحدوث التحول الشعبي. وبالرغم من أن هذه الحتمية تستند إلى منطق تاريخي معتبر، إلا أن الواقع العربي - كما أوضح خالد بجلاء وأمثله حية، أكثر مما تناوله مقالي بإشارات لم تكن كافية كما يتوجب - يثبت أن الغضب الشعبي وحده لا يصنع التغيير ما لم يرافقه تنظيم واع ورؤية واضحة. هذه الملاحظة تستدعي إعادة التفكير في علاقة الشعور بالغضب، بالبنية التنظيمية القادرة على احتوائه وتوجيهه
ولعل أبرز إسهامات القراءة النقدية للمقال. تسليط خالد عطية الضوء على هشاشة البنى القادرة على تحويل الغضب إلى مشروع سياسي. فالتحلل التنظيمي، وانهيار النقابات، والافتقار إلى مرجعيات وطنية، واختلال المنظومة الأخلاقية وغياب القيادة المؤهلة والمعارضة المسؤولة، كلها عوامل تضعف من قدرة المجتمعات على تنظيم قوتها. هذه النقطة تفتح بابا للتفكير في شروط استعادة الفعل الجماعي من القاعدة، وليس فقط من النخب.
وفي نقده لثنائية الاستعمار/الاستبداد، يلفت خالد عطية النظرإلى ضرورة مراجعة واحدة من أكثر الثنائيات رسوخا في الوعي التحرري العربي: الاستعمارالخارجي مقابل الاستبداد الداخلي. ورغم أنه لا ينفي أهميتها، إلا أنه يدعو محقا إلى تجاوزها باتجاه تحليل للهيمنة كمنظومة مركبة ومعقدة، تشمل الاقتصاد الرقمي، والشركات العابرة، والأدوات الناعمة. وهذا توسع ضروري يعيد وصل المحلي بالعالمي في بنية واحدة.
وفي تناوله للمشروع التحرري يؤكد خالد عطية على ضرورة بلورة مشروع تحرري جديد، يتجاوز ردود الفعل الغاضبة. ويؤسس لمسار طويل النفس، وممنهج، تتجدد فيه الأخلاق السياسية لا على قاعدة الإدانة فقط، بل على قاعدة الفعل المنظم الهادف. وما يستوجبه ذلك من ضرورة تجديد وتطوير فكر المقاومة. واستعادة الفضاء العام بوصفه ساحة للفعل الجماعي، لا مجرد ميدان للتنفيس اللحظي أو الهبات غير المؤطّرة.
بتفاعله الفكري العميق مع المقال. يثبت خالد عطية أن النقد الفكري فعل واع لا يجامل بالتركيزعلى الإيجابيات، ولا يقتنص الفرص لاصطياد الثغرات، بل يحفز التفكير ويطور الوعي ويفتح أفق الفعل.
وتمثل القراءة النقدية الثرية لخالد عطية دعوة مفتوحة لتوسيع النقاش بين المفكرين والمشتبكين مع أسئلة الواقع، بهدف بلورة خلاصات جماعية قادرة على الانتقال من مستوى الوعي بالغضب إلى تنظيمه، ضمن مشروع تحرر جذري، ممنهج، وطويل النفس.
إن هذه اللحظة المفصلية تقتضي عقلا جماعيا، ومثقفا نقديا عضويا، وشعوبا تستعيد قدرتها على الفعل... لا مجرد الغضب.