الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   20 أيار 2025

| | |
فلسطين في مفترق تاريخي: تفكيك العطب والتأسيس للنهوض
غانية ملحيس

في قلب مشهد عربي تتراكم فيه الهزائم وتتآكل فيه المعاني، تقف فلسطين اليوم في مفترق تاريخي. مفترق لا يتعلّق بالمصير الوطني فحسب، بل بجدوى السياسة نفسها، وبمعنى التحرر في زمن التحلل.

يتجاوز هذا المقال التفاصيل الظرفية، ويحاول قراءة الانسداد الفلسطيني والعربي قراءة شمولية، لتبين الأسباب التي أفضت للانهيار، وصولا إلى طرح أولي لإمكانات التأسيس للنهوض وبناء أفق جديد.

فلم يعد الانسداد السياسي الفلسطيني مجرد تعثر في المفاوضات، أو إخفاق في إدارة الانقسام، بل أصبح حالة بنيوية ناتجة عن انهيار المشروع الوطني ذاته، وفقدانه القدرة على تمثيل الناس والتعبير عن تطلعاتهم.

فقد تفككت روافع هذا المشروع على مستويات ثلاث: -

•   القيادة: حيث سطت السلطة/ الفرع / على المنظمة/ الأصل/ وتكلست النخب، وانهارت منظومة الشرعية، وتحوّلت السلطتين في رام الله وقطاع غزة إلى أجهزة إدارية وظيفية محاصرة ومحكومة بسياسات الاحتلال في المنح والحجب

•   البنية السياسية: فشلت في إنتاج مشروع وطني تحرري جامع يتجاوز النظام الفصائلي العاجز والثنائية العقيمة بين سلطتي رام الله وغزة. إذ فقدت السلطة في رام الله وظيفتها الوطنية. ولم تعد قادرة لا على مقاومة الاحتلال ولا على تأمين أبسط مستلزمات الصمود. واندمجت في منظومة أمنية واقتصادية تدار من الخارج. ويعاد عبرها إنتاج التبعية من داخلها، مع تآكل مريع في الشرعية السياسية والاجتماعية.

 وفشلت تجربة حماس في الجمع بين الحكم والمقاومة في قطاع غزة، لتعذر المواءمة بين مستلزمات الإدارة تحت استعمار استيطاني إجلائي -إحلالي، وبين احتياجات وشروط مقاومته. فأفضىت الازدواجية إلى إخفاق كلاهما. وفاقمت معاناة الشعب الفلسطيني وقوضت مناعته الذاتية. ولم تتعظ حركة حماس من إخفاق تجربة فتح بالجمع بين السلطة والمقاومة. وكررت ذات الخطيئة باستدراجها للمشاركة في الحكم الذي كان يرمي إلى تدجينها واستيعابها. 

ما عمّق أزمة الثقة ووسّع الفجوة بين الشعب والسلطتين في الضفة والقطاع.

•   الأخلاق السياسية: انهارت المنظومة القيمية، وطغت المصالح الفئوية والشخصية على المبادئ التحررية، وتغول أصحابها، وتراجعت الثقافة النضالية أمام شبكات الزبائنية والانتهازية.

هذا الانسداد ليس فلسطينيا فحسب، بل يعكس اختناقا أوسع في المشهد العربي: أنظمة حكم فاسدة مستبدة تنخرط في التطبيع مع العدو، خطاب رسمي يفرغ قضية فلسطين من بعدها التحرري ويختزلها في ملف “أمني/إغاثي” ولا ينجح في تأمين فلسطين وجوارها العربي، أو في إغاثة شعبها ومنع تجويعه. وشارع عربي منهك يعاني من التفكك الهوياتي الوطني والطائفي والسياسي والاجتماعي والثقافي، ومن فقدان أدوات الفعل والتنظيم.

وعلى الرغم من تعدد وتنوع زوايا التحليل، فإن القراءات الجادة للباحثين تتقاطع في فهم الانسداد كنتاج تراكمي لأزمات بنيوية متداخلة:

   •   هناك من يرجع الأزمة إلى انهيار أخلاقي في بنية القيادة، حيث تغيب الكفاءة وتقصى الإرادة الشعبية لصالح الولاءات الشخصية والمصالح الفئوية.

   •   وهناك من يرى المأزق سياسيا بامتياز، ناتجا عن انتهاء صلاحية مسار أوسلو، وعجزه البنيوي عن تحقيق أي مكسب وطني، ما يجعل الحديث عن “إصلاحات داخلية” ترفا خارج السياق.

   •   وثمة من يركز على الانفصال العميق بين السياسة والمجتمع، حيث تراجعت المشاركة الشعبية إلى حد أدنى غير مسبوق، وفرغ الفعل الجماعي من محتواه، لتصبح النخب المتحكمة منفصلة كليا عن الشعب وقضاياه الحقيقية.

هذا التعدد في التأويلات لا يدل على التناقض، بل يكشف عن طبيعة الأزمة البنيوية المركبة: أزمة مشروع ، وأزمة خطاب، وأزمة أدوات، وأزمة بنية سياسية واجتماعية تنتج السياسة وتعيد إنتاجها داخل منطق الخضوع والانغلاق.

فلم يعد السؤال، فقط، كيف وصلنا إلى هنا -رغم اهميته القصوى لمنع تكرار الأخطاء-؟  بل كيف نخرج من هذا الانسداد وممكناته؟ وكيف نحول لحظة الانهيار إلى نقطة انطلاق جديدة ومستلزمات ذلك؟

ولا تأتي هذه الأسئلة في فراغ، بل في ظل ملحمة غزة الجارية، التي تمثّل ذروة الانكشاف الفلسطيني والعربي والدولي معا. فحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتدمير الممنهج في قطاع غزة والضفة الغربية ليست حدثا استثنائيا، بل هي تجسيد حيّ لانهيار المشروع الوطني الفلسطيني، وانكشاف وهم الدولة، وسقوط منظومة “السلام” والتنسيق والتطبيع.

إنها لحظة مفصلية لا تتيح التردد ولا تحتمل التأجيل: مجازر بلا رادع، وقيادات بلا أفق، وأنظمة تواطأت أو صمتت، لكنها أيضا تضع فلسطين من جديد في صدارة الوعي العربي والعالمي، وتفتح، من قلب الفاجعة، نافذة لتجديد المعنى، وتنظيم الفعل، واستعادة المبادرة من القاع.

فغزة، بما تمثّله من مأساة وبطولة، ليست مجرد ساحة اشتباك، بل بوصلة للوعي التحرري في زمن الانهيار، تشير إلى عمق الاختلال البنيوي، لكنها تضيء، في الوقت ذاته، على الإمكانية: إمكان الثورة على البنى المهترئة، وكسر منطق التكيف، وإعادة تشييد المشروع الوطني على أسس تحررية شعبية جديدة. أسس لا علاقة لها بما هو جاري. فالتغيير لا يبدأ من تدوير الأشخاص أو تجميل المشهد بمصطلحات إصلاحية. ولا من توسيع إطار القيادة.  بل من نقد عميق للبنية السلطوية ذاتها، وللوظيفة التي تقوم بها. ومن القطع مع وهم الدولة تحت الاحتلال. ومع اقتصاد التبعية ومنظومة التنسيق الأمني. فالتحرر لا يتم إلا برؤية تقطع مع منطق التكيّف مع الاحتلال وتعيد تعريف أدوات الفعل والهوية الوطنية. ما يستوجب: -

  • إعادة تعريف الصراع، لا كصراع حدود أو “حقوق مدنية”، بل كصراع وجودي مع استعمار استيطاني صهيوني إجلائي- إحلالي عنصري. لا مجال لمهادنته أو تقاسم الوطن معه على أساس أقدمية احتلاله. بل بتبني رؤية نقيضة ومشروع تحرري لهزيمته. ينطلق من الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف. ويميّز بوضوح بين الصهيونية كحركة استعمارية غربية عنصرية. وبين اليهودية كديانة عاش أتباعها كمواطنين متساوين في البلاد العربية والإسلامية على مدى قرون.
  • إعادة تعريف المشروع الوطني التحرري. فالتحرر لا يعني استبدال الوطن بدولة. ولا يختزل في شعارات جوفاء مكررة كحل الدولتين.

ولا في التفاوض على "فتات السيادة". فالمطلوب إعادة تعريف المشروع الوطني التحرري من أساسه: مشروع يدمج الكفاح ضد الاستعمار والاستبداد والنضال من أجل العدالة الاجتماعية والتحرر الاقتصادي والثقافي. والانتقال من مشروع نخبوي مغلق إلى مشروع شعبي واسع، تعاد فيه الكلمة إلى الناس، لا كأتباع، بل كمؤسسين لحركتهم السياسية، عبر أدوات تستمد فيها القيادة شرعيتها من القاعدة. وإعادة بناء السياسة من الحيّ، والنقابة، والمخيم، والمدرسة، والقرية الخ … عبر شبكات تنظيم شعبية، وإطارات شبابية وميدانية، ومؤسسات قاعدية تعيد وصل مكونات المجتمع ببعضها، فالمقاومة لا تختزل بالسلاح وحده، بل ببناء الحاضنة الاجتماعية التي تحمي المعنى وتعيد توجيه البوصلة، وتحرّرها من الارتهان الاقتصادي والمعيشي للعدو الوجودي وللتمويل الخارجي المشروط. والحل لن يأتي من المانحين ولا من النظام الدولي المتواطئ. بل من استعادة الفعل الشعبي المنظم، ومن تفكيك البنية الزبائنية التي عطلت إمكانيات النهوض والحراك، وجعلت من السياسة والاقتصاد وسيلة للخضوع لا للتحرر.

  • ربط فلسطين بمشروع تحرري عربي شامل ففلسطين ليست جزيرة معزولة، بل مركز الصراع على مستقبل الأمة وعلى السيادة على المنطقة العربية الجيو استراتيجية الأهم، التي تمسك بمفاتيح العالم، من الممرات إلى الثروات، ومن الرموز إلى المصائر. فلا تحرر لفلسطين دون تحررعربي شامل، يربط بين مقاومة التطبيع، ومواجهة التبعية، وبناء مشروع سيادي جديد يتجاوز النظم القائمة، ويعيد للإرادة الشعبية مركزيتها. والمعركة ضد الاستعمار الصهيوني لا تحسم في حدود فلسطين فقط، بل تربح عندما يعاد بناء الجبهة التاريخية للأمة من المخيط إلى الخليج. من دون وهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بل ببناء مشروع تحرري يتجاوز خرائب الدولة الأمنية وعجز الدولة القطرية.

صحيح أن الانهيار واقع. لكن الأصح أنه ليس قدرا. فنحن نعيش لحظة فراغ تاريخي، لكنها لحظة حبلى بإمكانات تأسيس جديدة. فلا تحرير بدون رؤية نهضوية ومشروع تحرري. ولا مشروع بدون شعب، ولا مقاومة بلا أفق فكري يفكك الهيمنة ويبني البديل ويرفض التطييف والتفتيت، ويناهض مشاريع العزل والإقصاء. ويستعيد الفضاء العام كحاضنة للفعل السياسي والمجتمعي المنظم، لا كساحة للتنفيس اللحظي.

وفلسطين، في هذه المرحلة المفصلية، لا تحتاج إلى خطب شجب أو رثاء، بل إلى إرادة تحول جذري يبدأ بتفكيك العطب، ويفضي إلى أفق مقاومة، يعيد للمعنى مكانته، وللفعل اتجاهه، وللناس دورهم في صناعة مصيرهم، لا انتظار خلاص مؤجل قد لا يأتي إن لم نتغير.

 

مشاركة: