نريه أبو نضال، واسمه الحقيقي غطاس جميل صويص، نموذجا لوحدة عربية راسخة في وجدان ووعي أبناء الأمة العربية الذين تشاركوا الجغرافيا والتاريخ والثقافة والحضارة لقرون طويلة. وما تزال غالبيتهم الساحقة تؤمن بوحدة المصير. إذ عجز الغزاة المستعمرون الغربيون العنصريون عن المساس بوحدة الوجدان- رغم ما اقترفوه على امتداد أكثر من قرن من تفتيت الجغرافيا العربية، باستحداث الحدود المصطنعة. وتقسيم للديموغرافيا بتجزئة الأمة إلى شعوب وأعراق، وطوائف ومذاهب. وتأجيج الخلافات وإثارة الفتن البينية والأهلية بين مكوناتها الأصيلة، لتقويض مناعتها، وتخليق كيان استعماري غربي صهيوني عنصري، مغاير عرقيا ودينيا في مركز وصلهاالجغرافي والديموغرافي والحضاري. لإدامة الهيمنة الاستعمارية الغربية على عموم المنطقة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج.
وظل نزيه أبو نضال: أردني الهويه، عربي القومية، مسيحي الديانة، إسلامي الحضارة، إنساني الانتماء. نموذجا عربيا عصيا على الكسر.
ولد غطاس جميل صويص، لعائلة أردنية مسيحية من الفحيص. غادرها جده صالح إلى مدينة السلط، التي كانت حتى أوائل عشرينيات القرن الماضي عاصمة إمارة شرق الأردن. فيما قصد والده جميل مدينة عمان التي تم اختيارها عام 1922 عاصمة للإمارة. فاستقر فيها، وامتهن التجارة، وتزوج من ابنتها حنة يعقوب الزعمط. وأنجبا سبعة أبناء راتب، وأنطون، وأنطوانيت، وكليمنص، ونور /إخلاص/، وماري. وتوسطهم غطاس الذي ولد بجبل النظيف في 20/1/1943، ونشأ وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس الحكومة والأونروا.
أسهمت مكتبة العائلة التي ورثها شقيقه راتب عن خاله. ودعم والدته التي كانت تخبىء زملاءه النشطاء السياسيين الملاحقين في بيتها، ونشأته في مجتمع متنوع دينيا وهوياتيا، في صقل وعيه مبكرا. فكان انتماؤه المسيحي جزءا من نسيج عربي إسلامي حضاري. وشكل الزلزال الذي ضرب مركز بلاد الشام عام 1948. واقتلع فلسطين وشعبها من الجغرافيا والديموغرافيا وأحدث تصدعات تكوينية في عموم المنطقة العربية. فقد شهد الطفل غطاس تدفق مئات ألاف اللاجئين الفلسطينين إلى موطنه الذي كان يعاني، آنذاك، من سنوات المجاعة السوداء وهجمات الجراد. فاقمتها الأحلاف والمشاريع: حلف بغداد، ومشروع أيزنهاور، وزيارة تمبلر عام 1955. والناس في حالة غضب قصوى. ما جعل الفتى المسالموالمتفوق في دروسه يندفع - وهو في الثالثة عشرة من عمره مع بعض زملائه- نحو السفارة المصرية بجبل عمان، ليتطو ع للقتال على جبهة القنال عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر في 29/ 10/ 1956. وفي الصف الثالث الإعدادي، كان غطاس قد أصبح عضوا منظما في حركة القوميين العرب، يحضر اجتماعات الخلية السرية ويستلم البيان أو النشرة الحزبية ويخفيها بحرصداخل ملابسه، ليقرأها خلسة فيما بعد.
التحق بعد إنهائه التعليم الثانوي بكلية الآداب في جامعة القاهرة عام 1963. وسكن حي شبرا الشعبي. وفي صبيحة يوم الخامس من حزيران/ يونيو/ 1967، كان غطاس مع صديقه البحريني يستعدان لتقديم امتحانات السنة الجامعية النهائية المجدولة في اليوم التالي. فنبهتهم أصوات صفارات الإنذار وهتافات الناس وتهليلهم مع توالي بلاغات النصر عبر الإذاعات. فكان السقوط في خيبة الهزيمة مروعا. انهار عالم غطاس كما باقي العرب. ووصف مشاعره بقوله " أحسست بأنني فقدت رجولتي، وما كان يمكن أن أستعيدها إلا إذا حملت السلاح في وجه من يواصل إلحاق عار الهزائم بنا،
من نكبة أيار إلى هزيمة حزيران. وبينهما بقية شهور المذلة". فترك الجامعة للالتحاق بالثوار في حركة فتح أواخرالعام 1967. ومنذ ذاك، تحول الشاب غطاس صويص إلى الفدائي نزيه ابو نضال، فقد كان سائدا، آنذاك، استبدال الثوار أسماءهم الحقيقية بأسماء حركية لدواعي السرية. والتصقت بهم حدا أنساهم أسماءهم الأصلية. وكان ذلك عاملا مهما في تبديد الفروقات الإقليمية والجهوية والطبقية والعشائرية والدينية والمذهبية بين الثوار، فانصهروا جميعا في بوتقة الثورة الوليدة.
منعته ظروفه الصحية من التفرغ بالعمل العسكري، لكنه عاش في قواعد الفدائيين، وتنقل في مواقع عديدة: مدربا، ومفوضا سياسيا في قوات العاصفة. وفي مواقع إعلامية وثقافية ضمن مؤسسات حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. فساهم مع الشهيدين ماجد ابو شرار وحنا مقبل في إصدار "جريدة فتح اليومية"، كما أشرف مع الشهيدين كمال ناصر وحنا مقبل على مجلة فلسطين الثورة.. وعمل في إذاعات الثورة: زمزم عمّان، وإذاعة درعا، وبيروت، ومسؤولا عن إذاعة صوت لبنان العربي(المرابطون). وانتخب رئيسا لاتحاد الكتاب الفلسطينيين فرع لبنان.
غادر نزيه أبو نضال بيروت إلى دمشق بعد اقتلاع الثورة الفلسطينية من آخر معاقلها بجوار فلسطين إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وكما يقول نزيه،" تقاسمتني العواصم: خمس سنوات في القاهرة، وعشر في بيروت، ومثلها في دمشق، وقرابة عام في بغداد، وزيارات تطول وتقصر إلى الدار البيضاء، والجزائر، وتونس، وطرابلس، والكويت، وعدن، وصنعاء الهاربة من الزمن. وزيارات، أيضا، إلى الصين وفيتنام وكوبا الخ...
عاد نزيه ابو نضال إلى عمان في مطلع التسعينيات، وانخرط في مشهدها الثقافي فعمل في عدد من المواقع: مديرا للأمانة العامة لاتحاد الكتاب العرب حينما كان مقره بعمان، ومديرا لتحرير مجلة "تايكي" الخاصة بالإبداع النسوي وتصدر عن أمانة عمان الكبرى، فضلا عن نشاطه في الكتابة لصحيفتي الدستور والرأي تباعا، وعدد من المجلات أهمها مجلتا "أفكار" و"عمان". وكان موقفه السياسي يحول دون موافقته المشاركة مع بعض القنوات الفضائية.
في سيرة نزيه أبو نضال، لا تنفصل الذات عن الفكرة، ولا التجربة الشخصية عن المسار الجمعي للثورات العربية. لكن انتماءه الحقيقي كان دائما إلى فلسطين كقضية، وإلى العروبة كأفق تحرري.
ينتمي فكر نزيه أبو نضال إلى تيار جذري تحرري يرى في الثقافة عنصرا تأسيسيا في مشروع التحرر، لا مجرد ترف مرافق. مثقف منخرط غرس كلماته في تربة فلسطين والعالم العربي. فالمثقف بالنسبة له ليس من ينتج المعرفة فقط، بل من يحملها إلى الشارع والخندق، ويعيد صوغها في ضوء الحاجة النضالية، لا في انعزال الأكاديميا.
ولم تكن الكلمة بالنسبة إليه مجرّد أداة تعبير، بل كانت طلقة في معركة الوعي. وحين كتب نشيد “بلادي بلادي فتح ثورة عالأعادي” الذي غنته الأجيال الفلسطينية وتردّد في معسكرات الفدائيين، لم يكن أبو نضال يكتب نشيدا تنظيميا، بل كان يخط وثيقة وجدانية لمشروع تحرري يرى في فلسطين أكثر من جغرافيا، وفي “فتح” أكثر من تنظيم. وفي النشيد، تتجلى فلسطين كحلم ومصير، كأرض الجدود ومسرى النبي ومهد المسيح، ويتحول الصوت إلى زناد، والموقف إلى يقين: "إليك لا بد أن نعود".
يلخص النشيد فلسفة نزيه أبو نضال: المقاومة ليست شعارا، بل وجدانا حيا، والانتماء ليس ادعاء، بل ممارسة يومية ضد النسيان. فصاغ النشيد بلغة تهز الذاكرة، وترسم في وعي الأجيال معادلة التحرير: لا تنازل، لا صمت، ولا موت للشعب الذي يغني ويقاتل.
لم يكن نزيه أبو نضال رجل تنظيم أو منصب، بل ضميرا حيا داخل الثورة. ومنذ البداية، وقف ضد الطائفية والاصطفاف الهوياتي، رآها في التجربة اللبنانية. وحذر من خطورتها على تحول قضية الحرية إلى مشروع فئوي. وكان يرى أن المقاومة الحقيقية تبدأ من هزيمة الانقسامات الداخلية.
تميز نزيه أبو نضال عن كثير من الكوادر الثقافية في الثورة الفلسطينية فلم يكتب كمراقب. بل كفاعل وشاهد من الداخل. يرى أن المثقف ليس محايدا، وأن الأدب إما أن يكون مقاومة، أو فنا فارغا. تبنى مفهوم "المثقف العضوي" بمعناه الغرامشي، لكنه أعاد إنتاجه في السياق الفلسطيني: رفض أن يكون المثقف تابعا، أو مروجا للخطاب الرسمي. فلا قداسة باسم الثورة. وكان يردد: "ليس من الثورية أن تهاجم العدو فقط، بل أن تواجه التواطؤ الداخلي، وأن تقول لا".
وهذا الربط الجدلي بين المقاومة والثقافة هو أهم ما ميّز نزيه أبو نضال. فالأدب عنده ممارسة سياسية، والتعليم والفكر أدوات تعبئة لا تنفصل عن البندقية. فدعا إلى أدب ثوري حر ينقل المعاناة ويطرح الأسئلة العميقة. وكان يعي أن أي مشروع تحرر لا بد له من قاعدة وعي، وأن المعركة مع الاحتلال لا تحسم عسكريا فقط، بل فكريا وثقافيا ووجوديا.
كان نزيه أبو نضال حاسما في تشخيص الانحراف، شجاعا في نقده، لا يساوم ولا يختبئ وراء الغموض. وفي كتاباته انتقد حركة فتح، وحذر من تحول الثورة إلى مؤسسة بيروقراطية، ومن تراجع قيم النضال لحساب المصالح الفردية. واستشعر في ذلك مقدمات الهزيمة فحذر يقول: " الثورة لا تهزم عسكريا فقط، بل تهزم ثقافيا وأخلاقيا حين تتسلل البيروقراطية إلى مفاصلها، وحين تتراجع قيم التضحية أمام مصالح الأفراد". وفي ذلك، يتجلى إدراكه المبكر لأحد أخطر أوجه الهزيمة: هزيمة المعنى، وليس السلاح فقط.
وفي كتابه "من أوراق ثورة مغدورة" بين"هكذا انكسرت الثورة، ليس فقط على يد أعدائها، بل في داخلها، حين صار الفرد أهم من الفكرة".
وفي مقالاته الغاضبة، لم يكن نزيه أبو نضال قلما يذرف الحبر في معركة الكلمات. بل كان حضورا متوهجا لا يخطئه العقل ولا القلب. لا تملك أمامه إلا أن تصغي وتتمعن ليس فيما يقوله فقط، بل في كيفية قوله. ذاك التماهي النادر بين عمق الفكر ووضوح العقل وحدة البصيرة ونبل الروح.
كان من الأصوات القليلة التي تذكرك بأن المقاومة ليست مجرد خيار سياسي، بل نمط حياة، وأسلوب كتابة، وميزان أخلاقي لا يحيد. فلم يكن مجرّد مناضل حمل السلاح ثم أمسك بالقلم. بل كان واحدا من القلة الذين سعوا إلى بناء جسر صلب بين الوعي النقدي والفعل الثوري في زمن ازدحمت فيه الساحات بالشعارات. فأصر على مواصلة السؤال.
وفي زمن أخضع فيه المثقف للسلطة أو استقال من المعركة، أصر نزيه أبو نضال على الوقوف في المنطقة الخطرة. على خط التماس بين الإيمان بالثورة والرفض للرداءة المتسللة إلى داخلها. ورفض أن يكون شاهدا على الانهيار، فحمل الكلمة كسلاح، والرؤية كمشروع، والذاكرة كهوية مقاومة. ووقف مع رفاقه في الخنادق والمخيمات. وكتب عن"فساد المنفى"، وعن تحول الثورة إلى جهاز بيروقراطي وأداة للهيمنة.
لعلنا اليوم، ونحن نعيد قراءة فكره وتجربته، نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى هذا النموذج: المثقف المشتبك، الذي يرى في فلسطين البوصلة، وفي المقاومة مشروعا وجوديا لا تكتيكا سياسيا، وفي الكلمة أداة تحرير، لا سلعة للنجاة الفردية.
في تأملاته حول التجربة الفلسطينية، خاصة بعد أوسلو، يظهر نزيه أبو نضال كمفكر رأى منذ البداية خطورة التحول من " ثورة تحرر وطني" إلى "سلطة محلية بلا سيادة". رفض التسوية باعتبارها إعادة إنتاج للهزيمة، وكتب بصراحة موجعة عن مأزق القيادة الفلسطينية التي "أسلمت نفسها للمنطق الإسرائيلي والأمريكي"، وارتضت بإدارة تحت سقف الاحتلال.
وفي سياق ما بعد أوسلو، وانهيار المشروع العربي في التسعينيات، تحول نزيه أبو نضال من ناقد للواقع إلى فاعل في محاولة إعادة التأسيس: -
• تأسيس بدائل فكرية فكان من أوائل من طرحوا فكرة "الثقافة البديلة"، وأهمية إنشاء منصات مستقلة عن السلطة والمال السياسي. ولم يكتف برفض الموجود، بل كان دائما يبحث عن البديل الممكن، وهذا ما ميزه عن كثير من المثقفين الذين بقوا في خانة الرثاء أو اللوم.
وكان مفكرا يقظا أمام خطر"التطبيع الثقافي" ورأى أن المعركة الحقيقية اليوم باتت على الوعي، على الخطاب، على الهوية، وأن المشروع الصهيوني لا يسعى فقط إلى احتلال الأرض، بل إلى اختراق المعنى. فدعا إلى أدب مقاوم، ينقل الأسئلة لا الأجوبة الجاهزة. ويعري العدو كما يعري العطب الداخلي. ولم يتردد في نقد رفاقه، ولا في فضح التواطؤ داخل مؤسسات الثورة، ولا في الإشارة إلى أن " العدو ليس فقط من يرفع السلاح ضدنا، بل من يصمت على انحدار القيم في صفوفنا". هذا الموقف النبيل، الصعب، كلّفه الإقصاء والتهميش والعوز. لكنه منحه مصداقية المثقف الذي يكتب من داخل الجرح لا من فوقه.
ولم يكن نزيه أبو نضال في ذلك رومانسيا أو طوباويا. بل كان واقعيا جذريا، يدرك حدود اللحظة وممكناتها، ويرفض الاستسلام لها. كان يرى أن الثورة لا تنبع من السلطة، بل من الشعب، وأن المثقف إن لم يكن محفزا لهذا الوعي، فهو جزء من الأزمة.
لعل أهم ما يتركه نزيه أبو نضال لنا هو هذا النموذج النادر للمثقف الذي اختار أن يكون صوتا في قلب المعركة. ناقدا صلبا من داخل الخندق، لا داعية من فوق المنبر. وبذلك، أعاد تعريف دور المثقف في زمن الهزائم، لا كصوت للسلطة أو صدى للهزيمة، بل كأداة لفهمها وتفكيكها والانقلاب عليها.
لم يكن شاهدا على زمنه، بل صانعا لوعيه، وفاعلا فيه، وناقدا لجراحه وخياناته وانكساراته، وكأنه يدرك – كما كتب يوما – أن “الساعة تمضي مسرعة بين تفتيحة عين عند صرخة الميلاد، وإغماضتها عند زعيق المقصلة”. فخاض معارك فكرية ضد ثقافة الترويض والتدجين، مناصرا للثقافة المشتبكة، التي لا تتقوقع في الأبراج العاجية ولا تساير أنظمة التسلط والاستبداد. وشكلت مقالاته ودراساته في هذا الحقل رافعة لخطاب نقدي تحرري، يبحث في البنى، لا في الظواهر، ويقترح أسئلة أكثر مما يقدم إجابات جاهزة.
وفي مسيرته الأدبية لم يكن نزيه أبو نضال مجرد ناقد يقرأ الأدب من منظور جمالي محض، بل كان ينطلق من وعي تاريخي وسياسي واجتماعي جعله يعيد تشكيل وظيفة النقد ذاتها. في هذا السياق، لم يتعامل مع الرواية أو الشعر كنتاج معزول، بل كمؤشر على نبض المجتمع وتحولاته. فجعل قراءته للأدب أداة لفهم الواقع واستشراف التغيير. وسعى لتفكيك العلاقة بين السلطة والثقافة. وأبرز كيف تستغل الأنظمة الاستبدادية الأدب لخدمة الرواية الرسمية. وسعى لكسر هذا التواطؤ عبر نقد جريء يفضح خطاب “المصالحة الزائفة” و"التطبيع الثقافي".
انشغل نزيه ابو نضال، أيضا، بالمسألة النسوية من موقع تحرري، لا غربي استشراقي ولا محلي تقليدي. كان يرى في تحرر المرأة جزءا لا يتجزأ من تحرر المجتمع كله. وفي كتابه تمرد الأنثى، لم يسلع التمرد النسائي أو يبتذله. بل قدمه كفعل سياسي واع يتقاطع مع القهر الطبقي والوطني. وساهم في بناء خطاب نسوي عربي لا ينقل حرفيا عن الغرب، ولا يكرر شعارات نخبوية، بل يعبر عن واقع المقموعات في مجتمعاتنا.
لم يكن نزيه ابو نضال نبيا أو وليا أو قديسا، بل إنسانا اجتهد فأصاب وأخطأ، خصوصا عندما شارك في كتابة "التعميم" الذي أصدرته " فتح الانتفاضة " عام 1983. مكررا خطايا الانشقاق في بيئة عربية رسميه محكمة الإغلاق على الثورة الفلسطينية. متأهبة للانقضاض على المقاومة كفكرة تحررية، ساعية لاستيعابها وتطويعها لتوظيفها في تعزيز النفوذ والاستبداد للبقاء في الحكم. لكنه سرعان ما أيقن الخطأ فانفض عنهم. وبدأ يكتب في مجلة "نضال الشعب" التي تصدرها جبهة النضال الشعبي الفلسطيني.
عاد نزيه أبو نضال إلى الأردن في مطلع التسعينيات. لكنه لم يكف عن المحاولة في بناء وعي مقاوم للهزيمة.
وعلى الرغم من أنه لم يقدم باعتباره "مربيا" بالمعنى التقليدي، إلا أن حضوره في الندوات والمجلات الثقافية، ومشاركته في الحوارات الشبابية، تكشف عن مشروع تربوي غير مباشر يسعى إلى تأسيس عقل نقدي عربي جديد، فكان عبر كتاباته يحث القارئ على الشك، لا التسليم. على الفهم العميق لا الحفظ. على الموقف لا الحياد. فكسر أبوية الثقافة ومنح الشباب حق مساءلة النماذج الكبرى، والانحياز للمهمش لا للمكرس. وخلق حوارا بين الأجيال من خلال الجمع بين النضال التاريخي والأسئلة الجديدة، من دون حنين مرضي للماضي أو قطيعة مع التراث. وأسس بدلك لما يمكن تسميته بـ " ثقافة الالتزام المركب"، التزام لا يقع في فخ التبسيط الشعاراتي، ولا يساوم على المبادئ، بل يربط الفكر بالتحليل السياسي العميق، وبالهم الاجتماعي، وبسؤال الحرية بأبعاده المتعددة: الوطنية، والطبقية، والإنسانية.
ولأن الثقافة عنده لم تكن فعلا فرديا، بل شراكة في مشروع تحرري، فقد أسهم في تحرير ومراجعة وإغناء العديد من الدوريات والمجلات الثقافية، كما شارك في الندوات والحوارات الفكرية التي سعت إلى إعادة تعريف دور المثقف العربي في زمن ما بعد الهزائم الكبرى. وقد كانت مداخلاته دائما مشغولة بسؤال: كيف نكتب فلسطين؟ لا كجغرافيا فقط، بل كقيمة، وكمعيار للحقيقة.
وبهذا، فإن إرث نزيه أبو نضال لا يختصر في عدد مؤلفاته، بل في نسق اشتباكه المعرفي، وفي استمراره كمصدر إلهام لكل مثقف يبحث عن المعنى في زمن التيه، ولكل من يرى في الكلمة سلاحا، وفي الثقافة دربا نحو التحرر العميق.
ما نحتاجه اليوم، هو أن نعيد وصل ما انقطع بين جيل نزيه أبو نضال وجيل اليوم. لا باستنساخ التجربة الحافلة بالعثرات. بل بالتساؤل لماذا لم تتمكن الثقافة أن تكون جبهة نضال فعلية؟ ولماذا بقيت محاصرة بين التوظيف السلطوي والإهمال الشعبي؟
وكيف يمكن تحويل الفكر إلى فعل، والثقافة إلى مقاومة، والكلمة إلى خندق؟
جيل نزيه أبو نضال وجيلنا لم يكن مثاليا، لكنه كان يحمل مشروعا، بينما يراد للأجيال الجديدة أن تتيه في اللامعنى. ونزيه أبو نضال، في هذا السياق، ليس سيرة تروى فقط، بل سؤال يطرح على كل من يسأل اليوم: من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف نبدأ من جديد؟
حين رحل، لم نشعر فقط بأن صوتا انكسر، بل كأن مرآة كسرت، تلك التي كنا نرى فيها ملامح ما تبقى من كرامتنا، ومن قدرتنا على الغضب النقي، والإيمان الصادق.
ورغم غيابه جسدا، يبقى نزيه أبو نضال حيا في فكر كثيرين يرون أن المعركة لم تنته. وأن زمن المراجعة والنقد الصريح ما يزال ملحا ووأولوية أولى. فقد مثل نموذجا يحتذى للمثقف الذي لم يرض بدور "الشاهد"، بل اختار أن يكون جزءا من النار، حتى وهو يكتب. ولم يتراجع عن القضايا الكبرى، ولم ينخدع بسحر المناصب أو المصالح.
نم قرير العين أيها المناضل العنيد، فقد كنت ما يجب أن يكون عليه المثقف: ناقدا لا تابعا، مناضلا لا متفرجا، حرا لا متواطئا. وستبقى كلماتك تطرق الذاكرة، ونصوصك ترسم أفقا لا تنطفئ أنواره، وصوتك الذي قال “فلسطين يا أرض الجدود، إليك لا بد أن نعود” سيبقى وعدا لا يعرف الخيانة والتخاذل.
سلام لروحك في زمن الغدر، يا من كتبت من قلب النكسة طريق العودة، ومن عمق السقوط حلم النهضة.
أنجز نزيه أبو نضال ما يقارب ثلاثين مؤلفا توزعت بين الدراسات السياسية والثقافية والرواية والنقد الأدبي، وأدب الأطفال، وفيما يلي قائمة بها:
1. مذكرات أبو إبراهيم الكبير.
2. أدب السجون
3. شهادات روائية على زمن التحولات والانكسارات
4. في مواجهة عقلية التسوية
5. من أوراق ثورة مغدورة
6. جدل الشعر والثورة
7. المثقفون في التجربة
8. الثقافة العربية الفلسطينية في المواجهة
9. تمرد الأنثى
10حدائق الأنثى
11.التحولات في الرواية العربية
12الكاشف الفلسطيني معجم أدباء وكتاب فلسطين (6 أجزاء)، أعده بالاشتراك مع عبد الفتاح القلقيلي، يوثق سير الأدباء الفلسطينيين.
13غالب هلسا وببليوغرافيا مصادره الكتابية
14. غالب هلسا: اكتمال الدائرة
15. الساخرون
16قراءة في المشهد الثقافي الفلسطيني.
17الشعر الفلسطيني المقاتل
18 علامات على طريق الرواية في الأردن
19 تاريخية الأزمة في فتح
20 مواجهات سياسية البرنامج الفلسطيني بين نهجي التحرير والتسوية
22توثيق ببلوغرافيا من مكتبة المبدعات العربيات
23 كتيب احسان عباس
24الثقافة والديموقراطية في الرواية العربية.
25الرواية في الأردن
26الرواية الأردنية في خريطة الرواية العربية
مع آخرين:
27أبو سلمى زيتونة فلسطين
28كمال ناصر
29ماجد أبو شرار المفكر والقائد والإنسان
30معين بسيسو