في خضم مشهد دموي لا يهدأ، حيث تتحول غزة إلى مسرح مفتوح للإبادة والتهجير والتجويع، تنفجر في قلب الغرب، فجأة، موجات من الغضب الشعبي والاحتجاجات السياسية والأكاديمية، تحمل شعارات الدعم لفلسطين والتنديد بجرائم الاحتلال. من شوارع أمستردام وباريس ومدريد ونيويورك، إلى اعتصامات الجامعات في هارفارد وكولومبيا، ومن بيانات النقابات العمالية، إلى استقالات موظفي الأمم المتحدة والصحفيين، من الصحف إلى البرلمانات، يتجلى حراك سياسي وأخلاقي غير مسبوق في الغرب تجاه الإبادة الجماعية المتواصلة منذ عشرين شهرا في قطاع غزة. بدأت تتشكل ملامح ما يسميه البعض “انتفاضة أوروبية ضد إسرائيل” أو “انفجار ضمير غربي” طال انتظاره.
فهل نحن فعلا أمام لحظة تاريخية فاصلة في موقف الغرب من القضية الفلسطينية؟ أم أن ما نشهده ليس أكثر من ارتجاج ضميري مؤقت ستبتلعه البنية الاستعمارية العميقة؟
هل تكشف هذه الموجة عن تحول جذري في المواقف؟ أم أنها تعبير مأزوم عن بنية متصدعة لم تعد قادرة على احتواء تناقضاتها؟
وهل يفتح هذا المشهد أفقا جديدا لبناء تحالف تحرري عالمي؟
أم أن النظام العالمي سينجح مرة أخرى في احتواء اللحظة وترويضها؟
هذه الأسئلة تمثل مدخلا مهما لاثارة نقاش عام يساعد في فهم الحراك الغربي تجاه حرب محو غزة. وتجنب الوقوع في ثنائية التهويل أو التهوين، ووضعه في سياقه المركّب عبر تفكيك البنى المنتجة لارتجاج الضمير الغربي.
والإجابة عليها لا يمكن أن تكون بنعم أو لا، بل بتفكيك البنى التي أنتجت الحراك ويحاول هذا المقال تجاوز التوصيف الأخلاقي اللحظي للحراك الأوروبي، نحو تفكيك طبيعته ودلالاته البنيوية في سياق الأزمة الغربية الأعمق. واستثمار “اللحظة الكاشفة” التي فرضتها غزة، لا لتأويل مواقف الآخرين فحسب، بل لإعادة التفكير في موقعنا نحن، وفي المشروع التحرري الذي نريد.
يتعذر فهم الإبادة الجارية في غزة فقط كفصل جديد من العنف الصهيوني. بل كلحظة انكشاف شامل: لأن المجزرة ترتكب علنا، في بث مباشر، وبشراكة علنية مع القوى الغربية. هذا المشهد لم يعد يسمح للغرب بالإختباء خلف خطاب “السلام”، أو تقديم نفسه كوسيط نزيه، أو حتى التذرع بالـ "معقدية" السياسية. فقد وضعت غزة الجميع أمام مرآة دامغة: وبصمودها ومقاومتها الأسطورية، أعادت تعريف الضحية والجلاد، وخلقت اختلالا في المنظومة الأخلاقية الغربية الرسمية، التي كانت تتكئ على معادلة “الدفاع عن النفس” و”حق إسرائيل في الأمن”. فالعدوان هذه المرة كان فجا، مجردا من أي مبررات قابلة للتسويق، بل كان يضع الجريمة على الهواء مباشرة، بدون فلاتر أو وسائط. وهنا تتجلى إحدى دلالات المقاومة: أنها ليست فقط سلاحا، بل كشف أخلاقي حاسم، وسؤال حضاري مطروح على العالم. فالمقاومة، بصمودها المادي والرمزي، وضعت الغرب أمام اختبار صارم: إما القيم التي يدعيها أو التواطؤ مع الإبادة.
وقد فشل الغرب الرسمي في هذا الاختبار، لكن النخب والمجتمعات دخلت في لحظة مراجعة وانكشاف. فالمجزرة، إذا، ليست مجرد مجزرة دموية، بل حدث فلسفي/أخلاقي، فرض على العالم كله أن يراجع تموضعاته:
· من هو الضحية؟
· من يقاوم؟
· من يحكم السرد؟
· وماذا يعني أن تصمت الحكومات بينما الأطفال يذبحون؟
بعبارة أخرى، مقاومة غزة لم تكسر هيبة الجيش الإسرائيلي فقط. بل كسرت هيبة السردية الغربية الرسمية، وفضحت هشاشتها أمام العالم وأمام شعوبها. وهذا ما يفسّر – جزئيا – وحشية التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري في التعامل مع محو غزة الإنسان والمكان والذاكرة.بعد عجز الإعلام الغربي عن السيطرة على المشهد، وصعود وسائل التواصل كمصدر رئيس للوعي العالمي.
وفي قلب ما نشهده من ارتجاجات أخلاقية في الغرب تجاه جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، تلوح أزمة حضارية أعمق من التحليل السياسي أو الأخلاقي المباشر. إذ أن الاستجابة الغربية الملتبسة، المترددة، والمشبعة بالنفاق الانتقائي، لا يمكن فهمها إلا بردها إلى مرتكزين بنيويين في تشكل العقل الغربي الحديث:
1. عنصرية التفوق الأبيض كبنية ما تزال تحكم الوعي الغربي
فلم تبن الأنظمة الغربية الحديثة على حقوق الإنسان والمواطنة فقط، بل – وبشكل جوهري – على عقيدة التفوق الأبيض، التي رسخت نفسها عبر قرون من الاستعمار، والعبودية، وإبادة الشعوب. وحتى حين تقمصت الحداثة ثوب “العالمية”. احتفظت بمركزية الإنسان الأوروبي بوصفه النموذج والمقياس، وأبقت الآخر (غير الأبيض) في موقع التابع، أو القابل للتجاهل، أو الإبادة.
وعليه، فالعنصرية في الغرب ليست انحرافا أخلاقيا طارئا، بل مكوّن بنيوي في تشكل الذات الغربية الحديثة، منذ الكشوف الجغرافية إلى الحقبة الاستعمارية والنيوليبرالية الراهنة. وهي ليست مجرد “كراهية الآخر”، بل إنتاج نظام هرمي للعالم يفاضل فيه بين “الإنسان الكامل” الأوروبي الأبيض. و"الآخرين" بوصفهم ناقصي إنسانية، أو غير مستحقين لها من الأساس.
والفظائع التي ترتكب في غزة — وتبرر أو يغض عنها من قبل الغرب المهيمن — لا تفهم إلا في هذا السياق. إذ لا يمكن تخيل أن يقتل آلاف الأطفال البيض ويتواصل النقاش حول أنه "دفاع عن النفس". فما يحدث هو امتداد لمخيال كولونيالي لا يرى في غير البيض عموما، والفلسطيني والعربي خصوصا، إلا شعوبا فائضة عن الحاجة، يمكن محوها من دون كلفة سياسية حقيقية.
لذلك، لم يكن ممكنا للضمير الغربي أن يستشعر الفظاعة المطلقة لما يجري في قطاع غزة، إلا بعد أشهر من القتل اليومي الممنهج للأطفال والمدنيين. وحتى حين اهتزت بعض الأصوات، كان الاهتزاز مؤقتا، هشا، وكأن الإنسانية هناك مشروطة بلون الجلد أو نوع الضحية.
هذه العنصرية البنيوية لا تواجه بالاحتجاج وحده، بل بتفكيك البنية التي تشرعن القتل واللامبالاة والسكوت حين لا تكون الضحية “واحدة من الغرب الأبيض ”.
والحراك الغربي الحالي -رغم أهميته- يصطدم بجدار هذه العنصرية العميقة المتجذرة في الوعي والتاريخ والسياسة، ويحتاج إلى أكثر من احتجاجات موسمية لتفكيكها.
2. جوهر الحداثة المادية كتفكيك للإنسان وإطلاق الغرائز
حررت الحداثة الغربية الإنسان من الإقطاع والدين الكنسي، لكنها أطلقت يد السوق والفردانية والمادية بلا كوابح. فكانت النتيجة إنسانا منزوع الجذور، يلهث وراء إشباع لا نهائي للغرائز التي لا حدود لجموحها، ومجتمعات تزن القيم بميزان الربح والخسارة. وهذا ما يجعل مشاهد الإبادة في غزة، بالنسبة لكثير من النخب الغربية، أزمة إعلامية أو ضغطا سياسيا، لا كارثة أخلاقية وجودية. لأن البنية العميقة لا تعترف بالمقدس، ولا ترى في الآخر ما يستحق البكاء، أو حتى التأمل.
ففي هذه الحداثة، تم تفريغ السياسة من الأخلاق، وفصل الضمير عن الفعل، واختزلت الحرية في الاستهلاك. بينما يحاصر كل مشروع تحرري يهدد “النظام الدولي” الذي يقدس الملكية، والسيطرة، واللامبالاة.
وأي أفق تحرري لا يواجه هذه الجذور الحضارية – العنصرية والمادية – سيبقى يدور في فلك النظام نفسه، ولو بلبوس “تقدمي”.
واليوم، تجبر فلسطين عموما وغزة تحديدا، العالم على النظر في مرآته الحضارية، وتدفع قوى التحرر لأن تعيد طرح السؤال الجذري: أي عالم نريد؟ وأي إنسان نطمح لأن نكون؟
فما يميز اللحظة الراهنة أن الانقسام لم يعد فقط بين الغرب والعالم، بل داخل المجتمعات الغربية نفسها: بين الشعوب والأنظمة، بين النخب الأكاديمية والبيروقراطيات الجامعية، بين الإعلام التقليدي ومنصات المقاومة الرقمية. لكن هذا الانشقاق ما يزال في بداياته الأولى. والحراك الغربي الراهن مؤشرا على ارتجاج داخلي في البنية الليبرالية الغربية، وارتجاج في الضمير الأخلاقي لقطاعات واسعة من المجتمعات الغربية. لكنه ما يزال محصورا ضمن هامش النخب الثقافية والمدنية، دون أن يتمكن من كسر البنية العميقة للقرار السياسي أو الاقتصادي، الذي ما يزال مرتبطا بمنظومة الهيمنة الاستعمارية ومصالح المجمعات العسكرية والاقتصادية المرتبطة بإسرائيل.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن موجة الاحتجاجات الراهنة ليست تغييرا في الموقف، بل كشفت عن التناقضات الداخلية، التي كانت موجودة منذ زمن، لكنها كانت تدار بخطاب مزدوج أكثر تماسكا. وبات اليوم متعذرا بفعل وحشية الإبادة في قطاع غزة خصوصا، والضفة الغربية وفلسطين الانتدابية وجوارها العربي عموما، وبفعل التطور الرقمي، وسهولة الوصول إلى المعلومات. وانهيار“احتكار الرواية” الذي طالما تمتعت به إسرائيل في الإعلام الغربي. وهو انعكاس لمأزق بنيوي مزدوج:
• مأزق الغرب الرسمي الذي لم يعد قادرا على تسويق دعمه المطلق لإسرائيل تحت لافتة “الدفاع عن الديمقراطية” أو “حق الدولة في الأمن”، في ظل الإبادة العلنية وجرائم الحرب المصورة والموثقة والمنقولة بالبث الحي إلى كافة أنحاء العالم.
• ومأزق النخب الغربية التقدمية، التي تجد نفسها في موقع متقدم أخلاقيا وإنسانيا، لكنها ما تزال محدودة الأثر في معادلة القرار الرسمي، وتفتقر إلى أدوات الفعل السياسي الجماعي القادر على تغيير السياسات.
إذ لم يعد ممكنا الحفاظ على واجهة “الديمقراطية” في ظل القتل العلني للأطفال، وتدمير المدن، ودعم ومباركة الإبادة. لكنها ما تزال عاجزة عن بلورة بدائل سياسية، أو خطاب تحرري جذري واضح.
وهنا تكمن الخطورة: أن يعاد دمج هذه الطاقة في منظومة الإصلاح الليبرالي، أو يتم احتواؤها عبر “تعديلات أخلاقية” شكلية (مثل انتقادات إعلامية، أو تصريحات متأخرة من بعض السياسيين)، دون المساس بجوهر العلاقة البنيوية مع الكيان الاستعماري الصهيوني العنصري.
وعليه، فنحن لسنا، بعد، كما يروج البعض أمام لحظة تحول تاريخية فاصلة. بل أمام لحظة كاشفة تحمل بذور التحول، وهذا الكشف لا يعني بالضرورة أن البنية تتجه نحو التحول. فالبنى لا تتغير بفعل الأزمة فقط، بل بفعل القدرة على بناء بديل داخلها، أو الضغط عليها من خارجها. وهو ما لا تتبدى مؤشراته بعد. فما نراه اليوم هو أن النخب الغربية المعارضة، والاحتجاجات الشعبية، ما تزال خارج بنية القرار، تفتقر إلى القوة المنظمة القادرة على التأثير الفعلي.
والأرجح أننا أمام مفارقة تاريخية: البنية الغربية تتصدع من داخلها، وتفقد قدرتها على ضبط سرديتها، لكن هذه التصدعات لم تنتج بعد “مشروعا بديلا” قادرا على دفع المواقف نحو تغيير جذري. واللحظة لا يجب أن تقرأ فقط من زاوية ما تكشفه عن الغرب، بل من زاوية الفرصة التي توفرها لإعادة بناء خطاب تحرري فلسطيني عربي عالمي يخاطب هذه الفجوة الغربية، لا ليراهن على “تحول الغرب” ذاتيا. بل ليستثمر هشاشته وارتباكه وازدواجية معاييره في معركة طويلة النفس لتفكيك شرعيته الأخلاقية، وخلق ميزان قوى جديد.
بكلمات أخرى، فإن اللحظة تحمل إمكانات مزدوجة: إما أن تبتلع الموجة داخل آليات امتصاص الغضب المؤسسية (كما حصل سابقا في العراق وغوانتنامو وفلسطين نفسها)، أو أن تستثمر هذه التصدعات لتأسيس خطاب تحرري فلسطيني عربي عالمي يخترق الغرب لا ليستعطفه، بل ليخلخل منطقه الأخلاقي والسياسي من الداخل.
وهنا يبرز السوال المركزي: ما الذي يمكن أن يعوق ترجمة الحراك الغربي إلى تغيير في السياسات؟
فعلى الرغم من الزخم الشعبي الهائل الذي تخلقه موجة الغضب تجاه محو غزة في الغرب، فإن لهذا الحراك الغربي حدودا بنيوية واضحة تقف حائلا أمام تحوله إلى تغيير فعلي في السياسات. يمكن تلخيصها بما يلي:-
1 : أن بنية القرار السياسي في الغرب ما تزال محصّنة بمصالح مركبة متشابكة، تتجاوز البعد الأخلاقي وتشمل:
• ارتباطا عضويا بالمجمع الصناعي العسكري المرتبط بإسرائيل.
• تحالفات استراتيجية تمتد لعقود في مجالات الأمن والتكنولوجيا والاستخبارات.
• بنى إعلامية ومؤسسية تحكم السيطرة على الرأي العام، رغم اهتزازها مؤخرا.
2: تعاني الحركات الاحتجاجية الغربية من ضعف التنظيم السياسي. فمعظمها حراك طلابي، أكاديمي، أو نقابي، يفتقر إلى أدوات النفاذ إلى مراكز صنع القرار، ولا يمتلك أذرعا مؤسسية قادرة على فرض أجندة سياسية بديلة.
3: ما تزال النخبة السياسية الغربية – خاصة في الولايات المتحدة والمراكز الأوروبية والغربية – أسيرة لنفوذ جماعات الضغط الصهيوني/ المسيحية الإنجيليّة واليهودية/ وأي تحول يتطلب صراعا طويل الأمد مع هذه البنية التي تمتلك القوة، والمال، والنفوذ، والإعلام.
4: تسارع الدولة العميقة في الولايات المتحدة وأوروبا واسرائيل إلى احتواء الحراك من خلال القمع، والفصل بين “الإنساني” وبين "السياسي”. حيث يتم الترويج لمقولة: “نحن ضد القتل، لكننا لا نتبنى خطاب المقاومة”، في محاولة لفصل أخلاقي عن الجذر السياسي للصراع.
5 : تبرز عقبة التطبيع العربي الذي يستخدم غطاء لإجهاض التحول الغربي. فحين ترى القوى الغربية أن “الضحية المباشرة” نفسها (الأنظمة العربية) تتحالف مع الجلاد، فإن هذا يستخدم ذريعة لتبرير الاستمرار في دعم إسرائيل، أو على الأقل لتبرير الموقف الحيادي الظاهري.
لهذا، فإن التحول الأخلاقي أو الوجداني لا يكفي وحده، ما لم يرفق برؤية سياسية واضحة، وتحالفات أوسع، وأدوات ضغط ممنهجة، ستبقى هذه الموجة عرضة للارتداد أو التبريد التدريجي.
وفي مواجهة الانكشاف العميق للمنظومة النيوليبرالية الغربية، لا يكفي الرهان على "تغيير المزاج الأخلاقي" للغرب، أو انتظار “تحول تدريجي” في المواقف الرسمية.
فإن المطلوب هو إعادة تعريف موقعنا كقوى تحرر في الجنوب العالمي، وفي القلب العربي، وبناء تحالفات استراتيجية مع قوى التفكك والغضب داخل المراكز الغربية ذاتها.
وتكمن الخطورة اليوم في أن نعامل هذه اللحظة كـ"حدث خارجي" يجب رصده أو التعويل عليه، بدلا من اعتبارها فرصة استراتيجية لتجديد مشروعنا التحرري من داخلنا أولا. فالتحولات في الغرب، مهما بلغت حدتها، لن تتحول إلى قوة دفع فعالة إلا إذا تزامنت مع استنهاض داخلي فلسطيني وعربي وعالمي يمتلك القدرة على التنظيم، والربط، والبناء البديل. وألا ننتظر التغيير من الغرب الاستعماري، بل أن نستخدم لحظة صدعه الأخلاقي لإعادة بناء فاعليتنا السياسية والفكرية من داخلنا، وتحويل هذا “الخلل في النظام العالمي” إلى فرصة لإعادة طرح مشروع تحرري فلسطيني عربي جذري، يعيد تعريف الكفاح الفلسطيني ويصله بجذوره الحضارية والإنسانية. ويمكن التفكير في ثلاثة مستويات من الفعل:
اولا: بلورة رؤية نهضوية وبرنامج تحرري ينطلق من الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة للشعوب في الحياة والحرية وتقرير المصير. وينهي التماهي بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كأيديولوجيا استعمارية استيطانية احلالية عنصرية.
1. على المستوى الفلسطيني:
لا يكفي أن نكون في موقع رد الفعل على مجازر العدو أو صدمات الغرب، بل نحتاج إلى رؤية سياسية مبادرة واستباقية، تنبع من السياق الفلسطيني والعربي وتخاطب العالم بلغة قادرة على إحداث اختراقات.
واهم ملامح هذه الرؤية:
1. فلسطين ليست قضية “إنسانية” بل قضية تحرر وطني من استعمار استيطاني، وهذه نقطة يجب تثبيتها في كل خطاب وتحالف.
2. الربط بين الصهيونية والإمبريالية، والاستعمار القديم/الجديد: ما يحدث في فلسطين ليس استثناء، بل هو تعبير مكثّف عن بنية النظام العالمي الظالم.
3. القضية الفلسطينية بوصفها مدخلا لتحرير النظام العربي نفسه من الطغيان والتبعية، لا مجرد “قضية قومية” جامدة.
4. المقاومة المسلحة والشعبية ليست خيارا، بل ضرورة وجودية، ما دامت إسرائيل مشروعا استعماريا استيطانيا توسعيا عنصريا.
1. إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني خارج بنية أوسلو وسلطتها، على قاعدة وحدة الارض والشعب بما يشمل الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات.
2. على المستوى العربي:
• كسر الطوق التطبيعي سياسيا وثقافيا وإعلاميا، واستعادة موقع القضية الفلسطينية كقضية مركزية في وعي الشعوب. وتوظيف التحولات العالمية لإعادة خلق رأي عام عربي داعم للمقاومة لا محايد.
• بناء جبهات شعبية عربية عابرة للحدود لدعم فلسطين، تضم حركات شعبية ونقابات ومثقفين وأحزابا مستقلة في الدول العربية، تتبنى فلسطين كقضية مركزية. وتربط بين النضالات المحلية ضد الاستبداد والفساد، والتبعية، والنضال التحرري الفلسطيني، بحيث تترجم فلسطين إلى مشروع تحرر عربي مشترك، ضمن تصور بنيوي للهيمنة الغربية
3. على مستوى العلاقة بالغرب:
• إنتاج خطاب تحرري جديد يخاطب الغرب بلغته لكن من موقع الفاعل لا الضحية. خطاب يحرج البنية الليبرالية الغربية، ويخاطب تناقضاتها من داخلها. لا خطاب استجداء أو شكوى. والانتقال من خطاب المطالبة إلى خطاب التحريض السياسي: أن نوجّه الحركات الغربية نحو مواجهة حكوماتها، لا فقط “التضامن” معنا، وربط القضية الفلسطينية بجميع قضايا الاضطهاد والتمييز في الغرب.
• تفعيل شبكات الشتات الفلسطيني كقوة ضغط حقيقية، وخاصة في الجامعات، والنقابات، ومجالس المدن، مع ضرورة توجيه هذا الحراك نحو مطالب واضحة، لا الاكتفاء بالرمزية.
• دعم تشكيل تحالفات دائمة مع الحركات المناهضة للإمبريالية والعنصرية، وتغذية هذه الحركات بمعطيات سياسية وثقافية وفكرية عن فلسطين، تعيد تموضعها كقضية عالمية ضد الظلم. وبناء تحالفات عضوية مع قوى التحرر الشعبي في الغرب. فالمطلوب اليوم ليس فقط التضامن، بل التحالف. أي الانتقال من خطاب “التعاطف” مع فلسطين إلى خطاب الربط بين قضايانا وقضاياهم:
- بين الاستعمار الصهيوني وشرعياتهم المتهالكة،
- بين إبادة غزة وتقييد ولجم شعوبهم،
- بين الصهيونية ومعاداة السامية.
- بين الاستعمار والاستبداد عندنا والقمع الأكاديمي عندهم.
فلسطين هنا ليست “ضحية” تطلب الدعم، بل بوصلة مقاومة تحرك الضمير السياسي وتمنح المعنى لحركات التمرد في المركز ذاته.
• خلق أدوات ضغط شعبية (كحملات المقاطعة، ووقف التمويل، ومحاصرة البنوك وشركات السلاح ، وتفعيل القانون ومؤسساته) وربطها بحملات منظمة ومستمرة، لا ردود أفعال مؤقتة.
• دعم إعلامي وأكاديمي منسق لفضح الجريمة الصهيونية باللغات العالمية، وعدم ترك الساحة للرواية الإسرائيلية أو للتبسيط الإنساني الفارغ.
1. على المستوى العالمي:
• بناء تحالفات استراتيجية مع الحركات المناهضة للاستعمار والعنصرية والرأسمالية المتوحشة: حركات السكان الأصليين، السود، يهود ضد الصهيونية ، يهود من اجل السلام، الطلاب، المناخ، حقوق الإنسان الخ…
• بناء علاقات مع البرلمانيين والتقدميين في الغرب الذين يقفون ضد سياسات حكوماتهم.
• استنهاض الشتات الفلسطيني والعربي ليكون فاعلا سياسيا لا مجرد شاهد، وخلق شبكات تنسيق بين حركات التضامن والمجتمعات المسلمة والمهاجرة في الغرب.
• بناء وتفعيل أدوات الضغط الممنهجة – من التظاهر إلى الفعل المنظم
1. مأسسة حملات المقاطعة (BDS) وتحويلها من فعل احتجاجي إلى أداة خنق اقتصادي حقيقي، يشمل الجامعات، المصارف، البلديات، الشركات، وسائل الإعلام.
2. تحريك آليات القانون الدولي: دعم رفع قضايا جرائم حرب، الضغط على المحاكم المحلية في الغرب لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين وفضح التواطؤ الرسمي العربي والدولي .
3. حملات إعلامية مهنية ومترجمة ومنظمة، تكسر آلة الرواية الصهيونية، وتستخدم أدوات العصر: منصات الفيديو، البودكاست، وسائل التواصل، الذكاء الاصطناعي.
4. برامج تثقيف شعبي في العالم العربي والغربي حول تاريخ الصراع، طبيعة الاستعمار الاستيطاني، ومفاهيم التفكيك والتحرر.
5. استراتيجيات عصيان مدني في الغرب (مثل اعتصامات الجامعات)، مع دعم قانوني وتنظيمي مستمر، لا موسمي.
ختاما، هذه الموجة الاحتجاجية الغربية لن تصبح رافعة استراتيجية إلا إذا حوّلنا الغضب العالمي إلى طاقة منتجة، وربطنا بين:
• مشروع تحرري فلسطيني وعربي داخلي،
• وتحالف شعبي عالمي،
• وفعل ضاغط وممنهج.
لا يدعي هذا المقال الإحاطة الشاملة بالمشهد المتحول في العلاقة بين الغرب والقضية الفلسطينية، ولا يزعم امتلاك الإجابات النهائية. بل هو مساهمة أولية تستهدف إعادة طرح الأسئلة الاستراتيجية بلغة واقعية، تتجنب التهويل أو التهوين، وتضع الحراك الشعبي الغربي في سياقه المركّب دون إخضاعه لأحكام مسبقة.
وإذ يقف المقال عند حدود التشخيص، فإنه يدعو إلى الانتقال من التأمل إلى التخطيط، ومن رصد الظواهر إلى بناء المداخل العملية لتغيير موازين القوى. وهذا يتطلب إطلاق حوار فكري واسع يعمّق هذا المسار ويحوله من إطار تأملي إلى أدوات تفكير استراتيجي تعي تعقيدات اللحظة وتستثمر إمكاناتها.