الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   27 أيار 2025

| | |
يحيى بركات وسردية المقاومة المعرفية: من ريتشل وتوم إلى الضمير العالمي
غانية ملحيس

في زمن تختزل فيه فلسطين إلى مشاهد دم وركام، يعيد المبدع يحيى بركات بناء السردية من موقعنا، لا من موقع رد الفعل. ويروي الحكاية الفلسطينية من بوابة المبادرة لا الدفاع. ومن منطق المعنى لا مجرد الألم. مشروعه السردي لا ينتج خطابا عن الضحية، بل يصوغ مقاربة فلسفية تتعامل مع الوعي كموقع مقاومة، وتحول السرد من فعل شرح إلى ميدان صراع على الشرعية الأخلاقية، وعلى الحق في إعادة تعريف الإنسان، والتاريخ، والعالم.

في معالجته لقصتي ريتشيل كوري وتوم هيرندال، لا يقدمهما كرمزين نبلاء سقطا في أرض غريبة، بل كعدستين لكشف التناقض البنيوي بين ما ترسخ في وعيهما من روايات الهولوكوست ووعد بلفور، وما رأياه في “إسرائيل الديمقراطية” على أرض الواقع. هذا الربط الذكي، النادر تناوله سرديا، يضيء على لحظة التحول التي يتحول فيها الفهم إلى التزام، والمعرفة إلى خطر، والحقيقة إلى جريمة. إنها اللحظة التي يتحوّل فيها الضمير العالمي إلى فاعل مقاوم، وتصبح فلسطين منصة لإنتاج سردية تحررية كونية.

ما يفعله بركات يتجاوز التوثيق، إنه لا يكتب عن ريتشل وتوم، بل يكتب بهما. يجعلهما ينهضان من ذاكرة التراب لا كأبطال “غربيين طيبين”، بل كنقطة التقاء بين الضمير الكوني والواقع الفلسطيني. هكذا يتحول النص إلى إعلان مقاومة معرفية، لا يكتفي برثاء الجريمة، بل يفكك البنية الفلسفية التي تقف خلف الجرافة والطلقة التي سحقت الجسد والحقيقة معا.

بهذا المعنى، يبرز بركات أن فلسطين ليست نهاية الحكاية، بل بدايتها. فمن رفح إلى العراق، ومن غزة إلى أمريكا اللاتينية، ومن الهنود الحمر إلى شعوب الربيع العربي، تستعاد خيوط السردية المضادة التي تربط ضحايا الهيمنة ببعضهم، لا في خطاب الضحية، بل في مشروع تحرري شامل. فكما لم تكن الإبادة في فلسطين استثناء، فإن السرد الذي يصنعه بركات ليس فنا ملتزما بالمعنى التقليدي، بل فعل مقاومة كونية ضد اختطاف المعنى والذاكرة والحق.

بركات لا يسعى لاستدرار الشفقة، بل لإعادة وصل السرد بالمعنى، والمعنى بالفعل، والفعل بالمقاومة. إنه يفتح الباب أمام مشروع سردي أوسع: وثائقي، تفاعلي، وربما مسرح سردي حي، يعيد تظهير أبطال الوعي ممن جاءوا من خارج فلسطين، لا بالرصاص، بل بالكلمة والموقف والجسد. وهذا بحد ذاته، مساهمة في توليد ضمير عالمي جديد، يبدأ من فلسطين، ولا يتوقف عندها.

 

مشاركة: