الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   29 أيار 2025

| | |
مشروع الإكراه الإقليمي: التحالف الترامبي–الإبراهيمي وهندسة الشرق الأوسط الجديد
غانية ملحيس

 

استكمالا للحوار الفكري والتفاعل مع التحولات التكوينية التي أطلقها طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ 2023، وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية وعموم فلسطين الانتدابية وجوارها العربي والمتواصلة منذ 600 يوم، وما تزال، والتي شكلت لحظة انكشاف تاريخي غير مسبوق منذ نحو أربعة قرون لنظام الهيمنة الاستعمارية الغربية. بكشف معرفي لجوهره البنيوي العنصري والمادي، وقطعه الصلة مع الحضارات الإنسانية كافة.  وإعادة هندسة العالم بالقوة العسكرية، والتحكم بالسردية العالمية واستعمار الوعي بأدوات القوة الناعمة: الفكرية والعلمية واللغوية والتكنولوجية والإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية. وكأن التاريخ الإنساني قد بدأ بالكشوف الجغرافية الأوروبية والحداثة المادية الغربية، التي جعلت الجنس الأبيض مؤسس الكون ومركزه. فيما الحضارات التي سبقته تراثا متخلفا، وإرثا همجيا للشعوب غير الغربية. واعتبارها فائضا بشريا أقل مرتبة وعبئا ثقيلا ينبغي تقليصه بالإبادة والمحو والحروب الكونية والجزئية المتسلسلة، وإخضاع من يتبقى منها طوعا أو جبرا.

يركز هذا المقال على الصراع في الإقليم الذي أعيد تسميته مع بداية الغزو الاستعماري الغربي " بالشرق الأوسط " منذ نحو قرنين ونصف. بعد أن أحكم الجنس الأبيض سيطرته على شمال الكرة الأرضية ومعظم جنوبها في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وبات استكمال السيطرة عليه، لأهميته الجيو استراتيجية في مركز العالم، المرحلة الأخيرة في استكمال السيطرة الاستعمارية الغربية الكونية.

ولا نغالي القول بأن ما نشهده اليوم من تحولات تكوينية هي الأكثر جذرية في تاريخ الإقليم منذ فجر التاريخ. وتتجاوز صيغها منطق الاحتلال الكولونيالي التقليدي الذي عرفه العالم، والذي طالما تستر بقيم "التمدين" و" التحديث " و"نشر الديمقراطية ". وتدخل عصرا جديدا يقوم على العودة لنمط الإكراه الصريح الذي عرفته أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا قبل قرون. والدمج بين نهج الإبادة وإعادة هندسة الوقائع الجغرافية والديموغرافية والحضارية بالوسائل العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية، لفرضها بالقوة. 

لم تكن زيارة ترامب الأخيرة للمنطقة، وما رافقها من تصعيد في حرب المحو والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتدمير في قطاع غزة والضفة الغربية وعموم فلسطين الانتدابية مجرد صدفة. بل لاستمرار استعصاء الشعب الفلسطيني واليمني بعد انكفاء محور المقاومة باحتواء حزب الله وانهيار سوريا وانكفاء إيران على الذات.  وانتهاج ترامب سياسة تحييدها المؤقت عبر التفاوض والاحتواء. كما جرى مع محمد علي والي مصر عام 1840، عندما قايض بقاء نظامه بمشروعه الإقليمي. وأسفر في نهاية المطاف عن سقوط دولة الخلافة الإسلامية، والسيطرة الاستعمارية الغربية على إرثها.  

كما لم تكن زيارة الرئيس الأمريكي الطامح للاستيلاء على الإرث الاستعماري الغربي والتفرد بالقيادة العالمية حدثا منفصلا. بل فصلا جديدا من مشروع أوسع، يسعى لإعادة تشكيل النظام الإقليمي بمقاييس وكيله الأمني الإسرائيلي أولا، واستتباع باقي الكيانات لما يسمى "السلام غير المهذب". عبر المشروع الإبراهيمي الجديد، لإعادة هندسة النظام الإقليمي بالقوة.

فمنذ أن هندس هنري كيسنجر نظام الأمن الإقليمي بعد اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، بقيت الولايات المتحدة الأمريكية الضامن الأكبر "للاستقرار"  عبر مزيج من الردع، والمساعدات، واتفاقيات السلام. غير أن هذا النظام بدأ يتآكل بعد انهيار ثورات الربيع العربي والانسحاب الأمريكي من ملفات عديدة (أفغانستان، العراق). وتصاعد المحور الصيني–الروسي عالميا. وبروز مقاومة فلسطينية تتحدى الردع الإسرائيلي.

يقوم النظام الاقليمي المحدث البديل على معادلة: "السلام مقابل الإكراه" بدلا من "السلام مقابل الأرض". عبر التحالف الترامبي–الإسرائيلي–الإبراهيمي. وهو مشروع يتجاوزالحزبية الأمريكية ويتغذى على الصهيونية المسيحية.  وعلى استثمار مالي ضخم خليجي-إسرائيلي. وتطبيع قسري لا يستند إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، بل إلى تصفية نهائية لها. من خلال حرب مستدامة في قطاع غزة والضفة الغريبة وعموم فلسطين وجوارها العربي. بهدف فرض واقع جغرافي وديموغرافي وحضاري وسياسي جديد، عبر أدوات الإكراه بوصفه منهجا شاملا. حيث الحرب ليست غاية في ذاتها، بل أداة مركزية لإخضاع الوعي الفلسطيني والعربي، وكسر إرادة المقاومة. وعبر الاقتصاد والصفقات. فكل الخطابات “الذهبية” التي واكبت زيارة ترامب تمجد الأرقام والمشاريع والعمارة… ليست لأنها تنمية فعلية، بل لأنها تبرير للعنف باسم الحداثة. وتقوم عبر الإعلام بصناعة الرواية المهيمنة لتسويق "الصفقة" على أنها حل. وتصوير المقاومة كإرهاب. وشيطنة الأصوات النقدية. وتحالف الأقليات والأنظمة. باستثمار القلق الطائفي والديني، وتحويله إلى حليف استراتيجي في حرب الإكراه.

غير أن المشروع رغم قوته العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية، يواجه مأزقا بنيويا، ويعاني من أزمة شرعية. لأنه لا يحوز أي اعتراف شعبي، لا في فلسطين، ولا في المحيط العربي والإسلامي. وتتفاقم خسائره الأخلاقية بسبب جرائم الإباده الجسدية والمادية في قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية. وصور المجازر الوحشية وقتل الأطفال وتجويعهم وتعطيشهم والمنقولة بالبث الحي على مدار الساعة ويشاهدها العالم أجمع.  ما يهدد بتقويض الرواية المهيمنة والقبول الدولي.  ويخلق فجوة متنامية بين الشعوب والأنظمة، ليس في المنطفة العربية والإقليم فحسب، وإنما داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها والغرب وعموم العالم.  كما أن الرهان على زعيم أمريكي مهووس بعقدة التفوق العنصري، شديد الارتهان لمعادلات أمريكية داخلية (الانتخابات، القضاء، التحالف المسيحي الصهيوني المتطرف). واصطدامه بالداخل الأمريكي الذي يتنامى إدراكه لخطر الاستبداد والإقصاء والفاشية. بالتزامن والتوازي مع اصطدامه بحلفائه الغربيين بسبب رغبته المعلنة بضم كندا والاستيلاء على جزيرة جرينلاند وعلى خليج المكسيك وقناة بنما ومعادن أوكرانيا وقناة السويس. وسعيه لاستملاك قطاع غزة بعد استكمال تدميره وإبادة واقتلاع أهله لإنشاء منتجع سياحي على أنقاضه يضم أبراجه. وشن حرب تجارية عالمية لا تستثني حلفاءه ووكلاءه. واصطدامه بالمقاومة والاستعصاء الدولي الواسع، ما يزال يربك حساباته ويهدد المشروع. 

وهو ما يجعل "الزمن" عنصرا ضاغطا. وبذلك، يوفر فرصة تاريخية ممكنة لتقويض مشروعه الاستعماري الكوني. انطلاقا من فلسطين والمنطقة العربية وعموم الاقليم. ويتيح الإمكانية لمواجهته بمشروع تحرري نقيض تتبناه المكونات الإقليمية الأصيلة/ العربية والتركية والفارسية والكردية/. وينطلق من فلسطين باعتبارها خط الدفاع الأول عن عموم الإقليم، كما دلل تاريخه القديم والحديث.  ويواجه مشروع “الإكراه الإقليمي” لا بخطاب أخلاقي فقط، بل بأدوات فعالة وواقعية، تركز على التحرر من أوهام السلام المزيف. وتعيد بناء بناء الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي ليس فقط حول فلسطين.  بل حول معنى الحرية، والاستقلال والمقاومة. وتتجاوز الدول القطرية، وتعيد الاعتبار إلى الارتباط النضالي بين الشعوب العربية والإسلامية والجنوب العالمي وأحرار العالم. ولا تبقى المواجهة حكرا على فصائل أو جماعات، بل تتحول إلى مشروع تحرري شامل وجامع لبناء إقليم عربي وازن وفاعل، يتحالف مع المكونات الإقليمية الأصيلة، ومع  شعوب الجنوب العالمي، وقوى التحرر والسلام العالمية.

يبقى السوال المركزي الذي تحتاج الإجابة عليه لجهد فكري جماعي، وتفاعل نشط بين المفكرين والمثقفين والمنظمات الشعبية والنقابات والفاعلين فلسطينين وعربا وعالميين من المؤمنين بالحرية والعدالة والمساواة الإنسانية. 

ماذا نفعل وكيف نبدأ في فك رموز "مشروع الإكراه الإقليمي"؟  

بدءا بتفكيك المفاهيم الإبراهيمية الهجينة. وتوضيح منطلقاتها الفكرية ودلالاتها ومرتكزاتها الدينية والعقائدية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، وتشابكاتها المصلحية.  لتأسيس وعي معرفي مضاد، يسهم في بلورة مشروع نهضوي فلسطيني عربي اقليمي إنساني نقيض.

كيف نصوغ استراتيجية لاستعادة السيطرة على سرديتنا ووجداننا، أمام مشروع يراد له أن يفرغنا من فلسطين، من التاريخ، من إنسانيتنا ومن المعنى؟

ختاما، المقال لا يختتم النقاش، بل يفتحه لمساهمات تحليلية نقدية تتوسع في محاوره وتعمّق دلالاته، في مسار تراكمي جماعي يطمح إلى بلورة موقف فكري وسياسي جامع، يؤسس لاستراتيجيات وخطط وبرامج عمل، بمواجهة تحديات وجودية في لحظة فارقة في تاريخ أمتنا ومنطقتنا والعالم. فإن توحد العقل والناس للدفاع عن وجودهم وأوطانهم ومصالحهم وإنسانيتهم، سقطت كل المشاريع المصنوعة في غرف الصفقات.

 

مشاركة: