الجزء الأول: تفكيك ثقافة الهزيمة
لا تقاس الهزيمة بما نخسره فقط. بل بطبيعة ما نكف عن تصديقه: أن الحرية حق. أن النصر ممكن. أن العدو قابل للهزيمة. وأن المشروع الجماعي أقوى من الهزيمة الفردية.
فالهزيمة ليست لحظة، بل بنية. ولا تصنع في لحظة عسكرية أو سياسية بعينها، بل يجرى تحويلها إلى ثقافة، وتثبيتها عبر أطر معرفية وسلوكية ونفسية، تجعلها تبدو وكأنها “الواقع الوحيد الممكن”.
وفي السياق العربي، لا تعني الهزيمة مجرد خسارة حرب. بل انكسار في بنية الوعي: انكسار الإيمان بالذات، وبالقدرة على الفعل، وبإمكانية التغيير، وبجدوى المقاومة. ولذلك، فإن الهزيمة ليست ما يفرضه العدو فقط، بل ما تتبناه القوى المهيمنة، أنظمة ونخبنا وتجعله سياسة عامة وخطابا سائدا.
منذ هزيمة الأمة قبل أكثر من قرن. جرى إنتاج ثقافة الهزيمة التي أدت إلى تتابعها على امتداده. فبالتوازي والتزامن مع إعادة الهندسة الجغرافية والديموغرافية العربية والإقليمية. جرت إعادة هندسة شاملة للوعي العربي والإسلامي.
فلم تعد السيطرة الاستعمارية تمارس بالإخضاع العسكري فقط، بل بالعمل بالتوازي عبر أدوات ناعمة تتوارى وراء شعارات “التهدئة”، “الوساطة”، و” وقف التصعيد”. وهذه الأدوات، غالبا ما توظفها قوى دولية وإقليمية تدعي الحياد، ونخب سياسية واقتصادية واجتماعية عربية وفلسطينية تدعي الواقعية. وتتوارى خلف شعارات حماية الشعوب التي تقمعها وتستغلها.
ولم تكن النخب مجرد ضحايا للواقع المهزوم. بل شركاء فاعلين في إعادة إنتاجه. فتحول كثير منها إلى أدوات للترويج لثقافة الهزيمة، بتسويغ الاحتلال كمصير أبدي. والاستسلام كرديف للسلام. وإعادة تعريف ما هو مشروع ومعقول. وأصبح أي مسعى للتحرر مقامرة وضربا من الجنون. وباتت تصفية المقاومة شرطا للبقاء. والانكشاف الاقتصادي للعدو ضرورة حياتية. والشراكة معه تنمية واعدة بالازدهار. والسلام الإبراهيمي قدرا مقضيا لا راد له.
وتم تأطيرثقافة الهزيمة ومأساتها عبر:
· المؤسسات الدينية: بتأطير الدين وتحييده عبر اختزاله بالشعائر والطقوس. وأصبحت المواعظ والدعوات لطاعة أولي الأمر فريضة دينية، فبات منزوعا من رسالته التحررية، ومنفصلا عن العدالة، بدعوى التسامح.
·
· المؤسسات التعليمية والإعلامية: باستعمار العقل عبر السطو على اللغة والمفاهيم لتسويغ الواقع القائم وتشريعه. فأصبح التدين تخلفا، والتغرب تحضرا. وبات تكريس الاحتلال والتطبيع مع العدو سلاما. وخنق الثورات وتمكين الأنظمة الوظيفية استقرارا. وتذويب القيم الأصيلة لصالح المستوردة تحديثا. ومهادنة الطغاة تسامحا. والمقاومة ضد الهيمنة والاستعمار إرهابا. وأصبحت للكلمات التي تستخدم بانتظام في السياسة والإعلام: "سلام" "استقرار" "تسامح" "إرهاب" "حداثة" مدلولات مصممة لخدمة الرواية المهيمنة، ومحملة بمعان تخفي موازين قوى ظالمة.
·
· النخب السياسية والأكاديمية: بالسعي لاستلاب العقول والسيطرة على المعنى واللغة والخطاب. فانقلبت القيم وتبدلت المفاهيم: أن "الحكمة" تكمن في تجنب المغامرة. وأن “الحياة” أهم من الكرامة. وأن "الواقعية" لا تعني فهم الواقع لتجاوزه، بل أصبحت سجنا مفهوميا يوظف للتسليم به والقبول بالهيمنة الاستعمارية، وتكييف الحياة الوطنية داخل شروطه. وقمع أي محاولة لإعادة تعريف الممكن.
واقعية منزوعة الأفق، لا ترى المستقبل إلا استمرارا للحاضر الذي شكلته القوى الاستعمارية الغربية المهيمنة ووكلائها المحليين. ولا ترى في السعي لتغييره سوى تهديد. وتهدف بذلك إلى ضبط حدود الاشتباك مع القوى الاستعمارية المهيمنة بما لا يربك النظام الدولي. أو يهز الأنظمة الحاكمة التي يجري إعادة تأهيلها على الدوام باعتبارها شريكا ضروريا في "الاستقرار".
هكذا، تصبح اتفاقات التسوية مع العدو الوجودي آلية لتثبيت توازنات الهزيمة. ومحاولة لترميم النظام الذي فشل في بلوغ أهدافه بالقوة.
فالهزيمة ليست مجرد نتيجة لحرب خاسرة أو احتلال خارجي. بل هي نمط ذهني–اجتماعي–سياسي طويل الأمد، يتمأسس داخل المجتمعات بعد سلسلة من تراكم الانكسارات، لتصبح بنية تفكير، وأسلوب حياة، ومبررا ضمنيا للاستسلام والتبعية. وأبرز سماتها في السياقات الفلسطينية والعربية الراهنة:
أولا: نفسية الإذعان والقبول بالواقع والتسليم بميزان القوى كقضاء وقدر لا راد له. عوضا عن رؤيته كحالة تاريخية قابلة للانقلاب. واستبدال الصراع الوجودي مع المستعمر الاستيطاني العنصري الإلغائي الإحلالي بنزاع حدودي، قابل للحل التفاوضي بتقاسم الوطن معه وفقا لموازين القوى. وتفريغ القضية من بعدها التحرري. وتمجيد “الواقعية” لتبرير التواطؤ والتخاذل والجمود. والانكفاء على الممكن الأدنى باستبدال المشروع الوطني التحرري بمطالب حياتية وتحسينات معيشية وإدارية.
ثانيا: شيطنة الفعل المقاوم وتدجين الوعي بتصوير المقاومة كعبء أو كسبب “لتأزيم الوضع”، لا كأداة تحرر. وإعادة تأويل الهزيمة والخنوع كـ "نجاة" وانتصار (البقاء تحت الاحتلال مثلا)، وتفاد للأسوأ (باعتبار الإبادة والتطهير العرقي بديلا). والتحقير من قدرة الذات الجمعية على الفعل المؤثر، ورفع العدو إلى مصاف الأسطورة والقوة التي لا تقهر.
ثالثًا: الانكفاء الثقافي والمعرفي بالقطيعة مع التاريخ الحي. وفصل الأجيال الفتية عن التراث المقاوم والرموز النضالية. واستبدال الثقافة النقدية بثقافة التبرير. وتجريد التعليم من وظيفته الأساسية في بناء الوعي الوطني.
عبر مناهج مقيدة بشروط العدو ورعاته الممولين، تسهم في تفريغ العقول وتعزيز الولاء السياسي والطاعة المطلقة.
وعبر تحويل المؤسسات التعليمية، من المدرسة إلى الجامعة، إلى أدوات ضبط اجتماعي تكرس فيها ثقافة الخنوع وتقمع التفكير النقدي.
وتحويل المؤسسات الإعلامية إلى أدوات تطبيع مع الهزيمة.
وشيوع النماذج الزائفة للنجاح الانتهازية والفاسدة. فالفشل الجماعي تحول إلى مسألة كفاءة شخصية. والفرد الناجح رغم الاحتلال، لا بسببه.
رابعا: التماهي مع العدو وإعادة إنتاج لغته وتبني مفاهيمه: كالأمن والإرهاب والسلام والتنمية، بمعناها الذي يخدم المنظومة المهيمنة. وتكرار مصطلحاته: فالمستوطن مدنيا. والأسير رهينة. والعنصري المأفون بعقدة التفوق وبالاساطير الدينية التي ترى في الأطفال الفلسطينيين والعرب عماليق يتوجب إبادتهم، شريكا ممكنا أفرزته صناديق الاقتراع.
وإعادة قولبة الضحية كمسؤولة عن مأساتها، بترويج خطاب “اللوم الذاتي” المفصول عن أي بعد استعماري. فالمتمسك بحقه متمرد. والمتدين متعصب لا يمكن قبوله شريكا، حتى لو أفرزته صناديق الانتخابات. والمقاوم إرهابي، والمدافع عن أهله وبيته ومقدساته خارج عن القانون. والشهيد والجريح والأسير عبئ اجتماعي وليس مسؤولية وطنية ومجتمعية.
خامسا: الخضوع للأطر الدولية بوصفها محايدة وليست نتاجا لموازين القوى، والتسليم بأن “الخروج عن النظام الدولي” تطرّف أو انتحار سياسي. واعتبار قوانين وقرارات الشرعية الدولية سقفا أحادي الإلزام، وليس مجالا للصراع والتأثير. والخوف من كسر الإجماع الغربي. وتحويل المانحين والمؤسسات الدولية إلى أوصياء على الشعب ومصادر شرعية بديلة.
سادسا: شخصنة الفشل وإعادة إنتاج نفس النخب. فالهزيمة لا تفكك البنية الحاكمة، بل تعيد تلميعها. ويتحول القادة السابقون إلى خبراء واقعية سياسية،
أو رسل تهدئة، وتغييب المساءلة والمحاسبة، وشيطنة أي دعوة لتجديد المشروع أو إعادة بناء المؤسسات الوطنية.
غير أن ثقافة الهزيمة ليست قدرا، بل لحظة تاريخية قابلة للكسر. ولذلك فإن مواجهتها لا تكون فقط بخطاب تحفيزي، بل بالوعي المعرفي بها فكرا ومنهجا وأدوات لتفكيكه، وإعادة بناء الوعي بتفكيك خطاب السيطرة، واستعادة الإرادة الجمعية ضمن مشروع نهضوي تحرري شامل.
ونقد ثقافة الهزيمة يشكل خطوة ضرورية للانطلاق للتحرر. فليس الغرض من كشفها التلذذ بالنقد، بل لتحويل الفهم إلى فعل. إذ لا يمكن لأي مشروع نهضوي تحرري أن ينطلق من داخل الأطر التي أنتجت الهزيمة وصاغت وروجت ثقافتها. ويتوجب أولا تفكيك هذه الثقافة، وفضح آليات إنتاجها. وتحرير الوعي من منطقها. ثم بناء سردية جديدة تنقلنا من التبرير إلى المواجهة. ومن التكيف إلى الفعل.
وقبل أن نبدأ بذلك، من الضروري الإشارة إلى توفر فرصة تاريخية غير مسبوقة.
بالنظر إلى تآكل أدوات السيطرة الثقافية الغربية. فلم تكن السيطرة الغربية على العالم العربي كما سبقت الاشارة مجرد استعمار عسكري أو تدخل اقتصادي. بل جرى تثبيتها عبر منظومة ناعمة من الهيمنة الثقافية، تمثلت في الإعلام والخطاب الحقوقي ومفاهيم التقدم والحداثة والديمقراطية، ومؤسسات المعرفة. وهذه السيطرة عملت لعقود على إعادة تشكيل الوعي الجمعي العربي والإسلامي وعموم الجنوب العالمي. ليس عبر القسر، بل عبر الإقناع.
أي عبر تحويل النموذج الغربي إلى “المعيار الكوني” لكل شيء: من حقوق الإنسان إلى الدولة الحديثة. ومن الإعلام الحر إلى الحقيقة ذاتها.
غير أنه منذ السابع من تشرين الأول / اكتوبر/ 2023، شهدت منظومة الهيمنة الغربية تصدعا متسارعا في شرعية هذه الأدوات. فلم يعد الإعلام الغربي، الذي لعب دورا حاسما في صناعة الرأي العام وتشكيل الإدراك العالمي للصراعات، وخاصة الصراع الفلسطيني–الصهيوني. قادرا على إخفاء الحقيقة، فقد أسقطت غزة القناع، عندما تحول الإعلام من صناعة الحقيقة إلى تبرير القتل، وتجاهل المجازر بذريعة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ". ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين، وتصويرهم ككتل عدائية لا ضحايا. وتكميم أفواه الصحفيين والنشطاء الرافضين للإبادة والداعمين لحرية الشعب الفلسطيني ولحقه في تقرير مصيره، داخل مؤسسات يفترض أنها حرة وليبرالية. ولم يعد قادرا على إخفاء تناقضاته. ولم تعد قيمه قادرة على تبرير تواطئه وصمته أمام الإبادة الجماعية المتواصلة طوال 603 يوم، وجرح وقتل ربع مليون فلسطيني غالبتهم الساحقة من الأطفال والنساء، بعضهم ما يزال تحت الأنقاض. وتدمير المستشفيات والمساكن والمدارس والجامعات والكنائس والمساجد والمراكز الأثرية والتراثية. والمنقولة بالبث الحي صوتا وصورة ويشاهدها العالم أجمع لحظة وقوعها. ومنع الغذاء والدواء والمياه والوقود عن أكثر من 2 مليون فلسطيني، ما يزال يتعقبهم في المناطق التي يطلب منهم التوجه اليها كمناطق فتستقبلهم طائراته وبوارجه ودباباته ومدافعه وجنوده بالقصف والحرق والقنص. فبدأت سرديته تتعرى أمام الوعي الشعبي، من فلسطين إلى العالم.
هذا الانكشاف العلني لاصطفاف الإعلام الغربي مع القوة الاستعمارية قوض أسطورته بوصفه مرآة الحقيقة، وأعاد الاعتبار للمقاومة كناطق أخلاقي باسم المظلومين.
وسقطت سردية حقوق الإنسان. والتي استخدمتها الدول والمؤسسات الغربية على مدى عقود لتبرير الحروب والتدخلات وفرض النموذج الليبرالي الغربي باعتباره حارسا للكرامة والحرية وحقوق الإنسان. لكن غزة كشفت أن هذه الحقوق تعلق حين يكون القاتل غربيا واسرائيليا والضحية فلسطينيا وعربيا. فلا تحرك للمحاكم الجنائية. ولا نفاذا لقراراتها بحق الإسرائيليين والغربيين. ولا عقوبات على دولة تمارس الحصار والتجويع والتعطيش والقصف العشوائي. ولا مساءلة سياسية حقيقية داخل الديمقراطيات الغربية.
هذا الانفصام جعل خطاب الحقوق ينظر إليه كأداة سياسية، لا كمنظومة أخلاقية كونية. وساهم ذلك في تآكل ثقة الشعوب المستعمرة سابقا بالمعايير الغربية.
وما انهار ليس فقط خطاب الغرب، بل تفوقه الأخلاقي المزعوم. فحين تصمت النخب الغربية أمام الجرائم، أو تبررها، فهي تفقد شرطها الأخلاقي للبقاء مرجعية. وهذا الانهيار ليس وجدانيا أو عاطفيا، بل شرط سياسي لفقدان شرعية النظام الدولي القائم على قوة هذه المرجعية.
الجزءالثاني: إعادة بناء الوعي التحرري والتأسيس للنهوض
إن تفكيك ثقافة الهزيمة شرط ضروري، لكنه غير كاف. فالمطلوب اليوم تحويل هذا الوعي إلى ممارسة: في السياسة، في الثقافة، في التعليم، في الإعلام، في الشارع، وفي كل موقع من مواقع الاشتباك. فالمقاومة، رغم ضرورتها القصوى في صد العدو لا تكفي بمقاومته بالسلاح فقط، بل بمقاومته في الوعي، وفي اللغة، وفي المفاهيم، وفي أنماط التفكير التي تمأسست عبر عقود من الإخضاع والتطبيع والتهميش.
والشروع بالنهوض الذي يبدأ بإعادة بناء الذات الفردية والجماعية، معرفيا وأخلاقيا ومؤسساتيا. وبناء وعي تحرري جديد، يقطع مع العقل المهزوم، ويقوم على التحرر، والكرامة، والفاعلية.
إن الوعي المطلوب ليس استرجاعا للخطاب الثوري القديم، ولا اجترارا لشعارات الماضي، بل هو وعي نقدي تاريخي، يقرأ الواقع بما فيه من اختلالات، ويستخلص منه دروس الفشل، ويستثمر عناصر القوة. وعي يتجاوز الانفعال اللحظي، ويتجاوز التقسيمات الآيديولوجية العقيمة، نحو مشروع تحرري جامع يعيد تعريف الممكن، ووصل الذات بتاريخها الحي وبقدرتها على الفعل. ويعمل على:-
أولًا: تحرير الوعي من أسر الهيمنة الثقافية. فلا يمكن بناء وعي تحرري داخل اللغة التي صاغها الطغاة. واستعادة المعنى هي الخطوة الأولى لاستعادة الوعي. إن بناء الوعي يبدأ بتحرير اللغة والمفاهيم والمصطلحات وفق منظور تحرري مقاوم، يمكّننا من تحرير اللغة من استعمار المعنى. ومن تحويل أدوات السيطرة إلى أدوات مواجهة. فحين تعود "المقاومة" إلى معناها الحقيقي: دفاعا عن الحق، وحماية للكرامة. يصبح الحديث عنها فعلا جماعيا أصيلا لا تهمة تجرم، أو فعلا يعتذر عنه. علينا تفكيك المفاهيم التي رسختها الثقافة المهيمنة: "السلام" الذي يعني الاستسلام،"الواقعية" التي تعني القبول بالمذلة، "الاعتدال" الذي يعني الخضوع، و "النجاح الفردي" الذي يعني الانفصال عن الجماعة.
ثانيا: بناء سردية بديلة. فالتحرر يبدأ من السردية، من القصة التي نرويها عن أنفسنا وعن العدو. فقد بات واضحا أن سردية الغرب عن "الحداثة" و"الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" لم تكن سوى أقنعة للهيمنة والعنصرية والكيل بمكاييل مزدوجة. وعليه، فإن الوعي التحرري يبدأ من تفكيك هذه السردية. ومن بناء سردية بديلة تنحاز بوضوح إلى الضحية، لا بوصفها عاجزة، بل بوصفها مقاومة وفاعلة. تنحاز إلى العدالة، لا إلى القانون الدولي المهيمن، وإلى الحرية لا إلى الاستقرار الكاذب. سردية تعيد رسم التاريخ من وجهة نظر الشعوب، لا من وجهة نظر المستعمرين.
ثالثا: إن أبرز ما يقتضيه بناء هذا المشروع التحرري أن نستعيد الدين في جوهره الرسالي، لا في صوره المشوهة أو توظيفاته السلطوية. فصحيح الدين، في منطلقه النقي، لم يكن أداة تبرير للهيمنة. بل نداء لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان. وارساء لميزان لا يقوم إلا بالعدل. لقد جاء الدين في لحظته التأسيسية الأولى كمواجهة للظلم، ومقاومة للطغيان، وتحرير للفرد والجماعة من منظومات القهر الاجتماعي والسياسي. والعودة إلى الدين ليست دعوة إلى التراجع الحضاري، بل إلى استئناف رسالته الأخلاقية الكبرى، التي تربط بين التوحيد والتحرير. بين العبادة والعدالة. بين العقيدة وكرامة الإنسان. إننا لا نبحث عن خلاص ديني أو طائفي، بل إلى بناء وعي إيماني مقاوم، يواجه الاستعمار لا بوهم التفوق الهوياتي. بل بمنظومة قيم قادرة على تحريك الشعوب واستنهاض المجتمعات. وإعادة وصل الأرض بالسماء دون وساطة مستبد أو تاجر دين.
رابعا: استعادة وظيفة التعليم والإعلام في بناء الوعي الجمعي. فلا نهوض دون تعليم تحرري يعيد بناء الإنسان العربي كفاعل تاريخي. نريد تعليما يصل الأجيال بتاريخها الحضاري، بتجارب المقاومة والنهوض، لا بعقد الهزيمة والانكسار.
ونريد إعلاما لا يعيد إنتاج صور الضحية السلبية، بل يظهر فعل الإنسان المقاوم، ويبني سردية نقيضة لسردية الاستعمار: سردية الصمود، والقدرة على التحرر والانتصار.
خامسا: إعادة تعريف المشروع الوطني من سلطة التكيف إلى حركة تحرر.
فلا يمكن بناء وعي تحرري داخل مشروع سياسي فاقد للشرعية الشعبية والتاريخية. وإعادة بناء الوعي الفلسطيني والعربي يجب أن تقوم على
إعادة الاعتبار لأهداف التحرير، والكرامة، والاستناد إلى الشرعية الشعبية، لا إلى الاعتراف الدولي. وإعادة صياغة مؤسسات التمثيل السياسي والاجتماعي والثقافي من القاعدة الشعبية، وفق آليات ديمقراطية نابعة من الناس ومن روح المقاومة، لا من منطق الرعاية الدولية أو الوصاية الإقليمية.
سادسا: تجديد النخبة وبناء قيادة تحررية عضوية. فالنخبة القديمة، التي احترفت إدارة الهزيمة وتماهت مع شروطها. لا يمكن أن تقود النهوض.
وفي مواجهة الهيمنة، تبرز الحاجة إلى ما سماه غرامشي "النخبة العضوية". أي تلك الفئة من المثقفين والمناضلين التي تنبثق من قلب القاعدة الشعبية. وتعبر عن همومها، ورؤيتها، ومشروعها التحرري. لا تلك النخبة التي تعيد إنتاج الخطاب الانهزامي أو تعيش في فلك المانحين. نخب جديدة، عضوية، منبثقة من رحم المجتمعات المقاومة، تؤمن بالتحرر لا بالإدارة، وبالكرامة لا بالتسوية، وبالوطن لا بالموقع. غسان كنفاني كان مثالا ساطعا على النخبة العضوية: دمج بين الكلمة والميدان، بين الرواية والتحريض، ومثله كثر: حنا ميخائيل، محجوب عمر باسل الأعرج، وعشرات آخرين تركوا مواقعهم والتحموا بالشعب، وكانت أصواتهم امتدادا لنبض العامل والفلاح والمخيم.
وفي تجربة أميركا اللاتينية، جسد إيفو موراليس هذا النموذج حين انتقل من قائد نقابي للفلاحين إلى رأس مشروع تحرري يمزج بين السيادة والعدالة والهوية.
وفي لبنان، بنت المقاومة مشروعها على تفاعل وثيق مع نخب عضوية ميدانية – مثقفين دينيين، مربي أجيال، قيادات اجتماعية – عاشت مع الناس، وصاغت الخطاب المقاوم من لغتهم لا من قواميس الاستشراق.
سابعا: تحويل الفهم إلى فعل. إن تفكيك الهزيمة شرط ضروري، لكنه غير كاف. فالمطلوب اليوم تحويل هذا الوعي إلى ممارسة: في السياسة، في الثقافة، في التعليم، في الإعلام، في الشارع، في كل موقع من مواقع الاشتباك.
فالتحرر لا يتحقق بانتظار موازين قوى خارجية. بل ببناء ميزان قوى داخلي: إرادة شعبية، مقاومة متعددة الأشكال، خطاب واع، ومؤسسات بديلة. مشروع تحرري طويل الأمد، يبدأ من الوعي، لكنه لا يقف عنده، بل يتجسد في مشروع مقاوم جامع.
ما نطرحه ليس ترفا فكريا، بل ضرورة وجودية في لحظة انكشاف شامل. ففي المشرق، حيث تلاقت النار بالنار، والسقوط بالمقاومة، تتكون الآن ملامح مشروع جديد، مشروع لا يولد من رحم التبعية، ولا يستعير أدوات المهزومين، بل يستأنف مسارا تحرريا طويلا أجهض مرارا، لكنه لم يمت.
ثامنا: من قلب المشرق يولد البديل. ففي كل مشروع تحرري مشرقي، فلسطين ليست بندا، بل بوصلة. وفلسطين قلبه، والمقاومة روحه، والعدالة الاجتماعية قاعدته، والتحرر من المركز الغربي شرطه. لا يستنسخ الماضي، ولا يكتفي بالاحتجاج على الراهن، بل يصوغ مشروعا للوجود العربي الحر، يتجاوز الخطوط المرسومة، والمقولات المعلبة، والهويات المتصارعة.
من فلسطين يبدأ نفي الهزيمة، وبناء البديل: مشروع مقاوم، متعدد، عادل، حر، لا يستعير لغتهم ولا يسير في دربهم، بل ينحت طريقا من دم وشمس ووعي جديد.
فلسطين ليست قضية ضمن قضايا، بل المحك الذي يختبر فيه صدق المشروع وأصالة منطلقاته. ولهذا، فإن الانتصار لفلسطين هو انتصار للذات، للكرامة، للمعنى.
وفي لحظة يتداعى فيها النظام العالمي تحت وطأة تناقضاته. تتقدم فلسطين، لا كقضية محلية محصورة بجغرافيا محتلة. بل كمرآة كاشفة لانهيار منظومة “الشرعية” الغربية التي تأسست على الاستعمار، وتمأسست في شكل إمبراطوريات ناعمة، وتدار اليوم عبر تحالف القوة العارية مع رأس المال المجرد من أي مضمون أخلاقي.
نحن بحاجة إلى نقلة معرفية وتاريخية، تعيد تعريف العلاقة بين الشعوب والسلطة. بين الهوية والحرية. بين المقاومة والنهضة. ومن وسط الحصار والجراح، تبنى الجبهات الحقيقية. الجبهة ليست فقط في غزة أو مخيمات الضفة الغربية، أو النقب أو جنوب لبنان. بل في كل وعي يستعاد، وفي كل نخبة تتحرر من التمويل والتدجين، وفي كل مشروع يتجاوز السائد نحو الممكن.
إن الابادة المتجددة في غزة ومخيمات الضفة الغربية وعلى امتداد فلسطين الانتدابية وجوارها العربي، ليست حدثا معزولا. بل لحظة مفصلية في تاريخ الإنسان المعاصر، يتكشف فيها زيف خطاب الحداثة الغربية، وتتعرى فيها مؤسسات الضمير العالمي، وتظهر فلسطين كجبهة متقدمة للمواجهة بين مشروع الهيمنة الاستعمارية ومشروع التحرر العالمي.
وإذا كانت فلسطين قد كسرت جغرافيا، فقد استعادت اليوم مركزيتها الأخلاقية، كمحور يعيد تعريف الصراع لا على الأرض فحسب، بل على معنى الإنسان، ومعنى العدالة، ومعنى الحرية. بهذا المعنى، تصبح فلسطين ليست نهاية المسار بل بدايته. ليست “القضية الأخيرة” بل القضية المؤسسة لبناء وعي جديد.
إن المشروع التحرري الذي ينطلق من هذه الأرض لا يتجه إلى استعادة موقع إقليمي ضائع. بل إلى المساهمة في إعادة بناء العالم من الهامش، من الجنوب، من المواقع التي لم تطبع مع القتل ولم تسكت عن الظلم. وهذا يقتضي تصورا كونيا جديدا للحرية، لا يختزل في الليبرالية الغربية، ولا يبتلع داخل سرديات المركز. بل ينبثق من تجارب الشعوب. من مقاومات المهمشين. من مخيمات اللجوء. ومن أنقاض المدن والمخيمات المدمرة. من أمل لا يقهر. وإنسان يستطيع أن يقاوم ويصنع تاريخه ويستعيد صوته.
وهنا يصبح تحرير الأرض خطوة أولى فقط، يتبعها تحرير الاقتصاد من التبعية، والثقافة من التشويه، والتربية من الاستلاب.
ففي الجزائر، ورغم المآزق البنيوية، كانت الثورة بداية مشروع نهضوي طموح لإعادة الاعتبار للهوية والمجتمع.
وفي المكسيك، أسست حركة زاباتيستا قرى بديلة، ومنظومات تعليمية جديدة تقطع مع الدولة المركزية، وتستعيد سيادة الشعب على مصيره
إن ما نواجهه اليوم ليس مجرد حرب على أرض، بل صراع على المعنى، على تعريف الإنسان، وعلى مستقبل الوجود العربي برمته. والمشروع التحرري الذي نطرحه لا يبدأ من الصفر. بل يستأنف ذاكرة النضال، ويستشرف أفقا جديدا.
وهذا المشروع لا ينتظر “اللحظة المناسبة” بل يخلقها. ولا ينتظر القيادة، بل يراكمها من القاعدة. وهذا المشروع تحرري، شعبي، لا فصائلي ولا سلطوي. والتنظيم أفقي لا مركزي، مفتوح، تراكمي. والعمل مزدوج: تحرر وطني من الاحتلال وتحرر اجتماعي من التبعية. والثقافة والوعي ليستا هامشا، بل جبهة مقاومة أولى.
ختاما: لقد سعى هذا المقال إلى تفكيك بنية الهزيمة وتشخيص أسبابها البنيوية. كما طرح ملامح أولية لمشروع مواجهة تحرري يستعيد المبادرة ويعيد الاعتبار للذات الجماعية. غير أن التحدي الأكبر يكمن في ترجمة ذلك إلى خطوات عملية ملموسة، تمس البنية الفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية والمجتمعية. وهو ما يتطلب جهدا جماعيا وتفكيرا تشاركيا ينهض به المفكرون والباحثون وكل من يحمل هما تحرريا صادقا في كل مكان.