ليس سهلا أن نرثي صديقا، وزميل دراسة، ورفيق نضال… لكن الأصعب أن نرثي جزءا من وعينا، وقطعة من ذاكرتنا، وصوتا ظل يقول “لا” حين تعمّم “نعم”.
برحيل عبد الفتاح الجيوسي، لا نفقد فردا فحسب، بل نفقد جيلا من الفلسطينيين الذين اختاروا الوعي المشتبك والانتماء النضالي، لا كمهمة عابرة أو مرحلة من مراحل العمر، بل كأساس وجود، ومعنى حياة، وخيار لا تراجع عنه.
كان عبد الفتاح من أولئك الذين دمجوا بين الدراسة والعمل الطلابي والانخراط في النضال الوطني، لا باعتبارها مسارات متوازية، بل كجبهة واحدة في المعركة الكبرى: معركة استعادة الإنسان الفلسطيني – وعيا وإرادة وكرامة – على طريق استعادة الوطن.
في جامعة بيروت العربية كان اللقاء الأول. لم يكن عبد الفتاح طالبا عابرا يطلب شهادة، بل كان يحمل في كلماته، وفي حضوره، مشروعا كاملا لاستعادة ما سلب منا، لا فقط أرض فلسطين، بل معنى الانتماء العربي الواحد، ومركزية فلسطين في هذا الانتماء.
في أروقة الجامعة، وفي أنشطة الاتحاد العام لطلبة فلسطين، كان عبد الفتاح روحا حاضرة، وعقلا يقظا، ولسانا لا يساوم. لم يكن يخشى مواجهة أي سلطة أو رواية رسمية، لأنه كان يحمل رواية شعبه، وتاريخ نكبته، وحلم عودته. لم يكن ناشطا كما تسميهم اللغة المعقمة اليوم، بل كان من الذين يبنون الواقع بالوعي، ويشقون الطريق بالأمل والعرق.
كان عبد الفتاح من الكوادر البارزين في الاتحاد، وفي الحركة الطلابية الفلسطينية والعربية. لم يكن العمل النقابي بالنسبة له نشاطا طلابيا عابرا، بل ساحة اشتباك مع بنى القهر الموروثة والراهنة، ومع تفكك الوعي، ومحاولات تدجين الأجيال.
وعندما اجتمع طلبة فلسطين من مخيمات لبنان وسوريا والأردن والأرض المحتلة، في اتحاداتهم ومنظماتهم، كان عبد الفتاح جزءا أصيلا من هذا النسيج، حريصا على ألا يتحول العمل الطلابي إلى تقاسم نفوذ فصائلي، بل إلى بنية نضال تعيد بناء الهوية الفلسطينية الجماعية وتتقدم بها إلى الأمام.
وحين انطلق تحالف القوى الانعزالية والثورة المضادة عام 1975، وانخرط فيه نظام الأسد عام 1976 لمحو مخيمات اللاجئين في لبنان، كان عبد الفتاح في مقدمة الصفوف، مقاتلا في “السرية الطلابية” دفاعا عن الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية.
وفي اجتياح عام 1982، حمل السلاح في مواجهة الغزو الصهيوني، دفاعا عن الشعبين الفلسطيني واللبناني، قبل أن يعود إلى عمان، ليكون أقرب إلى فلسطين بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982
في عمان، مثل فلسطين في اللجنة الفنية الأردنية الفلسطينية المشتركة لدعم صمود الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، التي أنشئت بقرار القمة العربية الحادية عشرة عام 1980، وأنيطت بها مهمة إدارة مخصصات العون المالي العربي الرسمي لدعم صمود الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة.
وحين اندلعت انتفاضة الحجارة، لم يكن عبد الفتاح في الميدان الجغرافي، لكنه كان حاضرا في الميدان السياسي والاقتصادي والثقافي. كتب، وحلل، وقرأ ما وراء الحجر الذي يواجه به أطفال فلسطين دبابات الاحتلال، والجنود الذين نفذوا أوامر إسحق رابين بتكسير عظامهم.
في كتابه المرجعي “الانتفاضة: أربع سنوات من المواجهة”، قدم سردية مضادة لسرديات الإنكار والتهميش. قرأ الانتفاضة كحركة تحرر شعبي، لا كفورة غضب عابرة، وأعاد مركزية الفعل الشعبي باعتباره جوهر المقاومة.
وحتى في مرضه الأخير، ظل عبد الفتاح يقاوم: بالكلمة، بالتحليل، وبالأمل.
في مكالمته الأخيرة قبل شهر، كان صوته مثقلا بالألم، لكنه مغمور بالإيمان: بأن التحولات التي فجرها صمود غزة في وجه الإبادة لن تكون لحظة عابرة.
كان يدرك أن ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر/ ليس كما قبله. وأن مشهد الإبادة والركام هو بداية لانهيار الرواية الصهيونية. كان يرى في دماء الشهداء والجرحى بوصلة لا تخطئ الاتجاه.
وكان يؤمن بأن فلسطين اليوم، رغم جسامة الخسائر، تقترب أكثر من حقيقتها: لا كقضية إنسانية، بل كمشروع تحرر جذري يعيد تعريف العلاقات بين الشعوب والأنظمة، بين المركز والهامش، بين القوة والحق.
لقد ترك عبد الفتاح الجيوسي أثرا لا يمحى:
• في العمل الطلابي، حيث ساهم في بناء الأطر النقابية بروح وحدوية.
• في الخطاب السياسي، حيث قاوم تسطيح النضال وتحويله إلى شعارات.
• في الوعي الفلسطيني والعربي، حيث ظل يذكر بأن المشروع الصهيوني ليس عدو الفلسطينيين وحدهم، بل عدو الإنسانية جمعاء.
ومع شيرين، رفيقة عمره ودربه، وأبنائه: سعد، ويزن، ومحمد، وأحفاده، يبقى اسمه حاضرا في جيل تربى على قيم الالتزام، والاجتهاد، والكرامة.
اليوم، نودع عبد الفتاح الجيوسي كما نودع آلاف المناضلين الذين حملوا فلسطين في قلوبهم حتى الرمق الأخير. لكننا لا نودعه كغائب، بل كأحد ملامحنا المتجذرة.
وعدا علينا يا عبد الفتاح:
ألا نخون الذاكرة،
ألا نخذل الدماء،
ألا نغلق الدفاتر قبل أن نكتب الصفحة الأخيرة من حكايتنا:
فلسطين حرة، من البحر إلى النهر.