الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   05 حزيران 2025

| | |
القاتل حكما ووسيطا بين وكيله التنفيذي وضحيتهما الفلسطينية
غانية ملحيس

بينما تتكدس جثامين الأطفال تحت الأنقاض، ويرتفع عدد شهداء وجرحى حرب الإبادة المتواصلة منذ 607 يوما في قطاع غزة إلى أكثر من ربع مليون، غالبتهم العظمى من النساء والأطفال. ويقضي مئات الأطفال والشيوخ جوعا وعطشا. ويهيم قرابة مليوني فلسطيني هم جل سكان القطاع بلا مأوى في الشوارع والخرائب. وتقصف وتحرق الخيام مع ساكنيها. وقف مجلس الأمن الدولي عاجزا، للمرة الخامسة خلال حرب الإبادة الجماعية للسكان والمكان والذاكرة، بسبب " فيتو" أميركي يعترض على قرار لا يطالب إلا بوقف غير مشروط لإطلاق النار، والإفراج عن الرهائن، وفتح مسارات الإغاثة الإنسانية.

لكن المفارقة لا تقف عند هذا الحد، فالولايات المتحدة لا تكتفي بمنع القرار، بل تقدم نفسها كوسيط، في مفارقة مروعة: القاتل أصبح حكما ووسيطا. ويزود المجرم بأدوات القتل، ويزعم رعاية التسوية.

هكذا، تنكشف بوضوح الأزمة البنيوية في النظام الدولي، حين تكون القوة لا الحق، هي معيار العدالة. وحين تتحول المؤسسات الدولية إلى أدوات في يد الأقوياء، لا ملاذا للضحايا. ويصبح الفيتو أداة لإدارة الإبادة لا وقفها.

فمشروع القرار الذي استخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضده لم يكن يحمل طابعا راديكاليا، بل دعا ببساطة إلى وقف إطلاق نار فوري وغير مشروط، مع احترام القانون الدولي، وضمان وصول المساعدات الإغاثية، ورفض تجويع المدنيين.

ومع ذلك، استخدمته واشنطن لحماية العدوان، وكأنها تعلن أن الإبادة المستمرة لغزة مشروعة طالما تخدم مصالحها ومصالح وكيلها الإسرائيلي.

وعليه فإن الفيتو الأميركي الخامس منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر/ لا يخصّ الفلسطينيين وحدهم، وإنما يرسل رسالة للعالم أجمع: أن مجلس الأمن ليس أداة لحفظ السلم، بل غطاء قانوني لمن يمتلك العضوية الدائمة، ليدير الحروب لا لينهيها.

المعضلة لا تنحصر في الولايات المتحدة الأمريكية، فسلوكها متسق مع نشأتها التي تأسست على السلب والإبادة الجماعية وإلغاء السكان الأصلانين والاستقرار فوق أنقاضهم.

وإنما تكمن في قبول العالم بقيادتها. وفي إذعان ضحاياها للقبول بدورها كوسيط بين القاتل والمقتول. في ذات الوقت الذي تمكن القاتل سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا واعلاميا وتزوده بأحدث أدوات القتل، وتوفر له الحماية من المساءلة والمحاسبة. بل وتهدد وتعاقب منظمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية والقائمين عليهما وموظفيهما، لتجرؤهم على البحث في أدلة حرب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها وكيلها الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية وعلى امتداد فلسطين الانتدابية وجوارها اللبناني والسوري وصولا الى اليمن.

والأدهى، أنها لا تخجل من استخفافها بالأمة العربية من محيطها إلى خليجها. فتستخدم الفيتو بعد أقل من شهر من زيارة رئيسها لثلاثة دول خليجية، وحصده في أربعة أيام قرابة 5 تريليونات دولار، عبر صفقات تشغل صناعاتها العسكرية، واستثمارات ضخمة تخلق فرص عمل وتستوعب مئات آلاف العاطلين الأمريكيين عن العمل، في الوقت الذي تعاني فيها الشعوب العربية من نسب بطالة غير مسبوقة تصل معدلاتها إلى نصف قوة العمل. وتئن شعوبها من الجوع والمرض وغياب الخدمات الأساسية. يرد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على هذا "الكرم" العربي برفض وقف قتل الفلسطينيين العرب قصفا وجوعا وعطشا. وبمواصلة قتل اللبنانيين على الرغم من أن دولته الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار. وبمواصلة قتل السوريين، رغم تنصيب الرئيس الذي قيل إنه كان مطلوبا لها بتهمة الإرهاب، وحمته على مدى أكثر من عقد. وأهلته وبات رئيسا طيعا في العلن لا سرا، ورفعت عنه بعض العقوبات بالتوازي والتزامن مع مواصلة قتل شعبه. في مفارقة بالغة الدلالة تلخص ملامح الزمن العربي القادم. فلم يعد الاختيار بين العصا والجزرة متاحا. بل أصبح الخيار الوحيد امام دول وشعوب المنطقة: العصا فقط، وعليهم تقديم الجزرة لمالكها. 

وهنا ينكشف المشهد المروع: من يَقتل؟ ومن يَتحكم بمشهد الدم؟ ومن يُموّل؟ ومن يُقتل؟

وفي قلب هذا المشهد، تبدو إسرائيل أنها ليست سوى الذراع الميدانية لمشروع الهيمنة الأمريكية في المنطقة.  وأن حرب الإبادة المتواصلة منذ نحو عامين في قطاع غزة والضفة الغربية والحروب المتسلسلة في عموم المنطقة العربية ليست معارك منفصلة. بل جزء من مشروع متكامل يسعى لتفريغ فلسطين من أهلها بدءا بقطاع غزة. بإبادة وتهجير من ينجو من أهله لتحويله إلى منطقة مخصخصة، آمنة، بلا مقاومة، أشبه بـ " ريفييرا" شرق أوسطية تطل على المتوسط دون صداع سياسي.

فالهدف ليس الأمن كما يروج، بل الهندسة الجغرافية والديموغرافية والسياسية والهيمنة الإبراهيمية. وأي مقاومة للمشروع مهما بدت ضعيفة، تشكل تهديدا مزدوجا: للمشروع الصهيوني العنصري الخاص -الإلغائي الإحلالي-. وللمشروع الاستعماري الأمريكي الغربي العام للسيطرة على عموم المنطقة العربية- الاسلامية الممتدة ونهب ثرواتها وإخضاع شعوبها. وما الفيتو الأمريكي الخامس خلال أقل من عامين سوى تعبير قانوني عن هذا المشروع.

إلا أنه بالرغم من التواطؤ الدولي، فإن الرأي العام العالمي يشهد تحولا لافتا: من الجامعات الأمريكية، إلى النقابات الأوروبية، الى مئات آلاف المحتجين في عواصم العالم، إلى الأصوات الصاعدة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. حيث يتنامى الوعي الشعبي بعدالة القضية الفلسطينية. وتتسع الفجوة بين الشعوب وبين الأنظمة ويسقط أقنعة الديموقراطية وحقوق الإنسان تحت سياط الشرطة وأجهزة الأمن القمعية. وتتعمق الصدوع التكوينية على امتداد العالم، وفي قلب النظام الليبرالي الغربي ذاته.

ومع أن هذا الحراك - على أهميته- ما يزال محاصرا بتحالف القوة المال والإعلام التقليدي. وتجريم التضامن تحت لافتة "معاداة السامية"، والتعتيم المنهجي على حرب الابادة ضد الشعب الفلسطيني. إلا أن فظائع ما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية، غير المسبوقة في وحشيتها منذ بدء التاريخ الإنساني المدون، ويشاهدها العالم صوتا وصورة لحظة حدوثها. أقوى من جدران التزوير التي يتسارع تهاويها. وتعيد تشكيل وعي عالمي جديد، بطيء لكنه متجذر.  بنيوي التأثير وإن لم يكن آنيا.

ما كشفه الفيتو الأميركي الأخير ليس مجرد انحياز، بل إعلان وفاة لنظام دولي يفترض أنه وجد لحماية السلم والعدالة. وفي مشهد عبثي، تقف الدولة التي تقود القتل وتوجه القاتل وتحميه وتتصدر المشهد كوسيط وتقود مفاوضات لإخضاع الضحية، وتمنع صدور القرار لإنقاذها.

 ومن بين الركام، ووسط هذا الانهيار الأخلاقي، تبرز غزة كالعنقاء من تحت الرماد، كصوت أخير للكرامة الإنسانية. فعلى رقعة صغيرة من الأرض، لا تتجاوز 365 كم²، وتحت قصف متواصل منذ أكثر من 607 يوم، تصمد الحقيقة: أن القاتل - يقف وحيدا ضد العالم - لا يستطيع احتكار الرواية، مهما امتلك القوة والفيتو.

 

مشاركة: