في سياق السعي المشترك لإعادة تعريف المشروع التحرري الفلسطيني والعربي، كأفق لا يكتفي بتفكيك الهيمنة، بل يسعى لتجاوزها. يأتي هذا التعقيب على مقال شريكي في كتابه مقال "من الضحية المشرعنة دوليا إلى الضحية التي تشرع ذاتها" المنشور قبل يومين، تجسيدا لفهمنا المشترك للنقد المتبادل الذي يراهن على الاختلاف والتفاعل، كطاقة تعزيز للشراكة لا عامل تفريق. فالاشتباك الفكري الحقيقي لا يفرق بين النقد والود، ولا بين المساءلة والتقدير.
قدّم الأستاذ خالد عطية في مقاله المنشور أمس بعنوان " بين السيطرة والاعتراف: قراءة نقدية لبنية مقال آرييه كاتسوفيتش" معالجة فكرية عميقة ومتماسكة، كشفت بمهارة عن البنية الاستعمارية الناعمة التي تتخفى خلف خطاب الليبرالية الصهيونية الجديد، والذي يسوق لمشروع دولة فلسطينية مفرغة من المعنى، مشروطة، ومفصلة لتثبيت السيطرة لا لإنهائها.
ولئن كانت هذه القراءة تشكل مساهمة نوعية في نقد منظومة الهيمنة الإسرائيلية بلغة القانون الدولي، فإنها - برأيي - تفتح في الوقت ذاته سؤالا مستحقا حول الخطاب الفلسطيني والعربي ذاته، الذي بات في جوانب كثيرة يعيد إنتاج منطق السيطرة بلغة مختلفة.
لا ينطلق هذا التعقيب من موقع الرد. بل من موقع المساهمة في توسيع مجال السؤال، عبر نقد للنقد، لا بغرض النفي، بل بقصد التكامل.
فالتحليل البنيوي للهيمنة لا يستقيم دون مساءلة الذات. والاشتباك الفكري لا يكون مثمرا ما لم يتأسّس على الإقرار بأن المعركة ضد الاستعمار ليست فقط في حدود الجغرافيا والسيادة، بل أيضا في حدود المفاهيم، والمعاني، والبنى المعرفية التي ننطلق منها.
أبرز ما يميز مقال خالد هو أنه لا ينجر وراء مناقشة التفاصيل التقنية في اقتراح كاتسوفيتش. بل يتجه مباشرة إلى البنية المعرفية والسلطوية الكامنة خلف هذا الطرح. وهو أمر جوهري. حيث المشكلة لا تنحصر في شكل الدولة الفلسطينية المقترحة. بل في وظيفتها الأمنية والسياسية في المنظومة الاستعمارية المهيمنة.
وبالرغم من أن هذه التحليلات مألوفة في الأدبيات النقدية الفلسطينية والعربية. إلا أنها لم تترجم، بعد، إلى بنية استراتيجية فلسطينية وعربية بديلة، أو نموذج معرفي–سياسي مفعل، يعيد تعريف النضال الفلسطيني خارج ثنائية "الدولة/اللا دولة"، أو "السلام/المقاومة". فالنقد رغم ضرورته، لكنه غير كاف، ما لم يقابل بخطاب فلسطيني وعربي متجدد، يعيد تعريف الأفق التحرري ذاته. فتفكيك الخطاب الإسرائيلي، وإدانة الليبرالية الصهيونية، وكشف زيف القانون الدولي. يستوجب بالتوازي والتزامن تناول الخطاب الفلسطيني والعربي السائد، المتماثل معه إلى حد كبير.
فما يطرح اليوم من السلطة الفلسطينية والنظام العربي الرسمي باسم الحق الفلسطيني في دولة فلسطينية. ليس بريئا، وينطلق من ذات المنطق لإعادة إنتاج الهيمنة، حتى بافترض حسن نية.
لقد سقط جزء كبير من البنية السياسية الفلسطينية والعربية في شرك الليبرالية الغربية المهيمنة ذاتها: "الدولة تحت الاحتلال"، "السلام الاقتصادي"، "التنسيق الأمني"، بل وحتى "حل الدولتين" الذي يعاد إحياؤه. بوصله مرة أخرى بأجهزه التنفس الاصطناعي، لا لبعثة للحياة، وإنما لتوظيف الفلسطينيين في تكريس الهيمنة الإبراهيمية المتعثرة بفعل استعصاء قطاع غزة على الاستسلام. والعرقلة الإيرانية التي ما يزال مشروع الهيمنة الإبراهيمية يستثنيها، رغم ما تبديه إيران من مرونة تقارب التنازل عن مشروعها الإقليمي المناهض، دون التنازل عن هويتها الحضارية. وهو ما لا يرتضيه التحالف الإبراهيمي.
بكلمات اخرى، فان اقتراح كاتسوفيتش بالاعتراف المشروط بالدولة الفلسطينية، الذي يتناوله خالد عطية في قراءته النقدية لم يأت من كاتسوفيتش وحده. بل من بعض النخب الفلسطينية الرسمية والأهلية، ومن النظام العربي الرسمي، الذي يعكسه خطاب سياسي فلسطيني وعربي لم يتغير. بالرغم من استئناف حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن، والتي تتواصل حلقتها الأخيرة منذ 612 يوم في قطاع غزة والقدس ومخيمات وقرى الضفة الغربية والنقب وعموم فلسطين الانتدابية وجوارها اللبناني والسوري.
ما يستوجب محاسبة الفلسطينيين والعرب الذين أنتجوا واقع الهيمنة، كما يحاسب الليبراليون الإسرائيليون الذين يعيدون تأطيره.
فالاستعمار الصهيوني لم يفرغ مشروع الدولة الفلسطينية (التي أعيد استدعاؤها فلسطينيا وعربيا ودوليا منذ السابع من تشرين الأول 2023 وينشط الترويج لها في الاجتماع المرتقب عقده في نيويورك بالسابع عشر من حزيران/ يونيو/ الجاري) من مضمونها فقط. بل أسهم في بناء خطاب فلسطيني وعربي يعيد إنتاج ذاته من داخل منظومة الخضوع والإذعان للهيمنة الإبراهيمية.
تجاوز خالد في قراءته النقدية لاقتراح كاتسوفيتش. للسؤال الأعمق المستحق فلسطينيا وعربيا، بشأن البنية التي ينطلق منها الفلسطينيون والعرب في مقاربتهم لمشروع الدولة الفلسطينية، يعد ثغرة، رغم أن خالد عطية يدعو بوضوح كامل في كافة مساهماته الفكرية ومقالاته المنشورة إلى ضرورة بناء سردية فلسطينية عربية جامعة. تعيد تعريف الحق والسيادة والعدالة والمقاومة من خارج المنظومة القانونية الدولية التي فصلت لحماية الأقوياء. ويستدعي ذلك مواجهة أنفسنا بالسؤال الأهم:
هل نملك اليوم سردية فلسطينية وعربية تعيد تعريف الدولة، السيادة، الحق، العدالة، والمقاومة؟
هل يملك خطابنا - المقاوم وليس المساوم أدوات فلسفية وفكرية بديلة، أم أننا ما نزال ننتقد من موقع التبعية ذاتها؟
إن تفكيك خطاب السيطرة يستوجب بناء خطاب يتحرر من أدوات الهيمنة الغربية، ويخلق لغة جديدة، تستمد شرعيتها من تاريخ المقهورين، من تجارب الشعوب المستعمرة، ومن مقومات العدالة الجذرية التي لا تتأثر باختلال ميزان القوى الراهن.
يتساءل خالد عطية في ختام مقاله:
من يعرّف الحق؟
من يحدد شروط السيادة؟
من يملك سلطة توزيع الشرعية؟
وهي أسئلة جوهرية. لكنها أساسا تعكس أزمة بنيوية في الخطاب الفلسطيني والعربي.
فالحق الفلسطيني اليوم لم يعد يعرف من موقع الفعل، بل من موقع رد الفعل.
والشرعية لم تعد تنتزع، بل يتوسل بها من مؤسسات فقدت أي حس تاريخي أو أخلاقي مثل مجلس الأمن أو محكمة الجنايات…
والسؤال الذي ينبغي الإجابة عليه بوضوح لا يقبل التأويل:
هل نملك مشروعا تحرريا مستقلا قادرا على إعادة تعريفنا للذات الفلسطينية والعربية، وليس فقط تفكيك تعريف الآخر لنا؟
هذا السؤال ليس موجها لخالد، وإنما لنفسي قبله، ولكل الفلسطينيين والعرب واحرار العالم أيا كانت انتماءاتهم السياسية والتنظيمية والعقائدية.
مقال خالد عطية مساهمة ثمينة في فضح البنية الاستعمارية الناعمة للخطاب الليبرالي الصهيوني الجديد. لكنه يترك سؤالا معلقا ما نزال جميعا نعجز عن الإجابه الحاسمة عليه: ما العمل ومن أين نبدأ؟
فالرد الحقيقي على الخطاب الليبرالي الغربي الصهيوني المهيمن لا يكون فقط بكشف بنيته كما نفعل جميعا. بل بتقديم سردية بديلة: مشروع تحرر فكري سياسي اقتصادي اجتماعي يعيد الاعتبار للمقاومة بوصفها بناء للحرية، لا مجرد رفض للسيطرة.
لا تأتي هذه المداخلة في موقع المضاد لمقال خالد عطية، بل في موقع المكمل والمسائل، انطلاقا من الإيمان بأن النقد ليس نفيا، بل هو ضرورة للحوار، شرطه التواضع المشترك أمام تعقيدات الواقع، واستعدادنا الجماعي لتجاوز النقص في خطاب الذات، لا في مواجهة الآخر فحسب.
إن ما يكشفه مقال خالد عطية من عمق بنيوي في تحليل خطاب الليبرالية الصهيونية، يفرض علينا توسيع النقد ليشمل خطابنا التحرري العربي والفلسطيني، لا من باب المماهاة مع العدو، بل من باب استعادة زمام المبادرة الفكرية والتنظيمية.
وفي هذا السياق، أطرح خمس ملاحظات رئيسة لا تتوجه إلى المقال ذاته، بل تستثمر أفقه النقدي لتفكيك البنية التي تعيق تشكل مشروع تحرري متكامل:
1. الدولة كقيد على التحرر لا كأفقه النهائي
لقد باتت فكرة "التحرر الوطني" محصورة، في معظم الأدبيات السياسية الفلسطينية الرسمية، بمطلب إقامة "الدولة المستقلة"، على حدود 1967، بصيغة تسووية تفرغ المشروع الوطني من جوهره. وهذا التمركز حول الدولة، لا باعتبارها أداة بيد الجماهير، بل غاية بحد ذاتها، حوّل خطاب التحرر إلى خطاب مؤسساتي، يقاس بالتقارير والتمويل، لا بالفعل الجماهيري أو بالقدرة على كسر السيطرة. علينا أن نستعيد التحرر كمفهوم شامل، يتجاوز الجغرافيا إلى البنية، ويتجاوز السيادة إلى استعادة القدرة الجمعية. الدولة ليست النهاية، بل هي - في أحسن حالاتها - محطة في مسار طويل من تفكيك البنية الاستعمارية وإعادة إنتاج المجتمع في اتجاه التحرر.
2. التمويل الدولي: التقييد الناعم للمخيال التحرري
خاض المقال نقدا مهما لمنظومة القانون الدولي كأداة مضللة، لكن غاب عنه أثر هذا النظام في صياغة خطاب الداخل الفلسطيني عبر أدوات التمويل.
لقد أنتج التمويل الدولي خطابا "حقوقيا" ناعما يقصي مفاهيم النكبة، واللاجئين، والتحرير، مقابل مفاهيم "التمكين" و"الاستدامة" والحوكمة"، وهي مصطلحات تعيد تأهيل المجتمع الفلسطيني للعيش تحت الاحتلال لا لمقاومته. ولا بد من تفكيك العلاقة البنيوية بين التمويل والخطاب. فالمؤسسات التي تتحدث باسم المقاومة وهي خاضعة لتمويل مشروط، تعيد إنتاج منطق التطبيع بصيغة ناعمة. والمسألة ليست مالية، بل تتعلق ببنية التلقي والخضوع التي تصوغ الفعل السياسي اليوم.
3. الاعتراف الدولي: معيار زائف للشرعية
في قلب الخطاب الرسمي الفلسطيني والعربي يكمن وهم الاعتراف الدولي، وكأنه برهان على عدالة قضيتنا. لكن الاعتراف، في منطق العلاقات الدولية، ليس إنصافا، بل تعبير عن ميزان القوى ومصالح النظام العالمي.
حين نطلب "الاعتراف" فإننا نقبل - ضمنا - بلعبة القانون التي أعدت ضدنا. وحين نبني مشروعية كفاحنا على قرار أممي أو صيغة دولية، فإننا نفرغ الكفاح من جذوره الشعبية ونحوله إلى مناشدة قانونية لمؤسسات استعمارية الأصل.
بدلا من التسليم بمنظومة الاعتراف، علينا أن نعيد تأسيس الشرعية من وجدان الشعوب، ومن تاريخ المقهورين، لا من نصوص صيغت لضبطهم.
4. القضية الفلسطينية خارج منطق التفاوض
أبرز ما يكشفه تحليل خطاب كاتسوفيتش، هو كيف أن فكرة "التفاوض" باتت غطاء لإعادة إنتاج السيطرة، ضمن شروط نزع السلاح، وضبط الحركة، وتحجيم المطالب. لكن هذه الوظيفة ليست قاصرة على الإسرائيليين. فحتى الخطاب الفلسطيني الرسمي استبطن منطق "التفاوض"، كأن ما نملكه هو "قضية" تحل بمساومة، لا "حق" ينتزع بنضال طويل.
القضية الفلسطينية ليست موضوع تفاوض، بل تعبير عن مشروع تحرري عالمي، يفضح النظام الدولي نفسه. والخروج من منطق التفاوض لا يعني اللاعقلانية، بل يعني العودة إلى صيغة النضال الشعبي متعدد الأدوات، والمرتبط بحركات التحرر في الجنوب العالمي.
5. الحاجة إلى سردية تحررية نابعة من الذات
ربما كان السؤال الأعمق الذي يطرحه المقال – ولو ضمنا – هو: من يملك حق تعريف المشروع الفلسطيني؟ هل هو القانون الدولي؟ السلطة؟ النخبة الأكاديمية؟ أم الجماهير؟
ما نحتاجه هو سردية تنطلق من تجربة القهر، لا من هندسات الخطاب الدولي. سردية تروي النكبة لا كحادث مؤسف، بل كبنية مستمرة. سردية ترى في قطاع غزة المختنق برا وبحرا وجوا، وفي الشتات الممنوع من العودة، وفي الضفة الغربية المفككة، وفي مناطق 1948 حيث يواجه الفلسطينيون تمييزا عنصريا وعودة للحكم العسكري، تعبيرا عن وحدة في النضال والمصير، لا عن تجزئة يجب القبول بها.
إن سؤال "ما العمل؟" الذي نشترك خالد وأنا في طرحه، يظل معلقا، لا انتظارا ليقين، بل لتحفيز حوار صريح بين المثقفين والمناضلين حول الممكن والمطلوب. حوار يربط النقد بالفعل، ويحول المعرفة إلى مشروع تحرري لا يتوسل الشرعية، بل يبنيها من داخل صراع الإرادات.
إننا بحاجة إلى فكر سياسي جديد، لا يفاوض على المعنى، بل يبنيه من واقع الصراع ذاته، من التراكم التاريخي للمقاومة، ومن قوة الذاكرة الجماعية، ومن إعادة ربط الفلسطيني بنفسه وبالعربي وبالإنسان المقهور حيثما كان.
ورغم ما يقدمه هذا المقال من تشخيص نقدي وتحليلي للواقع الفلسطيني والعربي، يدرك تماما أنه لا يخلو من بعض الثغرات والاكتفاء أحيانا بالاشارة العابرة إلى مصطلحات ومفاهيم ما يزال يكتنفها الغموض، مثل "الهيمنة الإبراهيمية" و"السردية التحررية البديلة"، و"المشروع النهضوي التحرري"، دون تحديد مدلولاتها، إلى جانب محدودية التوسع في أدوات التغيير وروافعه المجتمعية. وغياب الخلاصات البرنامجية الواضحة. ومع الوعي لهذه الثغرات، يدرك المقال ضرورة تخصيص مقالات لاحقة متتابعة ومتكاملة لملئها، في سياق السعي لتأسيس مشروع نهضوي تحرري يؤسّس لبناء مستقبل فلسطيني وعربي مغاير. فلا خلاص بلا وعي، ولا مشروع بلا إرادة، ولا تحرر بلا انخراط جمعي واع في معركة المصير.