الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   14 حزيران 2025

| | |
الصراع ليس على الجغرافيا بل على الهوية الحضارية للمنطقة
غانية ملحيس

تمر منطقتنا العربية الإسلامية الممتدة بمرحلة تحول تاريخي غير مسبوق لن تقتصر تداعيات الصراع فيها على شعوب ودول المنطقة فحسب، بل ستطال العالم بأسره.  وستحدث مآلاتها تحولا بنيويا في النظام العالمي لعقود طويلة قادمة.

الانتقال من الامتثال إلى التمرد.

شكل طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول / أكتوبر/2023 نقطة تحول نوعي غير مسبوقة منذ أكثر من قرن، لم يستهدفها مفجروه الذين أرادوا أساسا فك الحصار الخانق المطبق برا وبحرا وجوا على نحو مليوني وثلاثمائة ألف فلسطيني في قطاع غزة. فيما اعتاد العالم توصيفه بأكبر سجن مفتوح على كوكب الأرض. وتوافق أهله وذووه وعدوه والعالم على إحكامه عليهم برا وبحرا وجوا منذ نحو عقدين. وتواطؤوا جميعا عليه لإسكاته وإجباره على الامتثال طوعا أو كرها - كباقي العالم- إلى قرار التحالف الغربي الصهيوني العنصري، بتجاوز حقوق الشعب الفلسطيني في الترتيبات المستقبلية الإقليمية والدولية. ولم يأبه أصحاب القرار لمشاهد إبادتهم الجماعية المنقولة وقائعها بالبث الحي على مدار الساعة منذ 618 يوما، قتلا، وحرقا، وتجويعا، وتعطيشا، وتدميرا. وكأنهم توافقوا جميعا على اجتثاثه من الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ والذاكرة. 

وعلى الرغم من الاختلال الهائل في موازين القوى بين قطاع غزة الذي يكاد لا يرى بالعين المجردة على الخريطة الجغرافية والديموغرافية الإقليمية والدولية. إلا أنه تمكن من هز أساسات الهيمنة الاستعمارية الغربية الصهيونية العنصرية التي تم تكريسها في المنطقة على مدار أكثر من قرنين، منذ حملة نابليون بونابارت عام 1798. 

فأعاد طوفان الأقصى المتدفق من قطاع غزة المحروم من كافة مقومات الحياة الإنسانية، الصراع إلى جذره الحقيقي كصراع يتجاوز الجغرافيا الفلسطينية، إلى صراع على هوية المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة. وتوسعت دائرة الصراع فلم تعد تقتصر على الشعب الفلسطيني المستهدف بالاجتثاث.  لتشمل تدريجيا دول الجوار العربي تباعا / لبنان وسوريا والعراق واليمن/. ولا تستثني بتداعياته المتوالية باقي الدول العربية الممتثلة لنظام الهيمنة من محيطها إلى خليجها. وليستدعي باقي المكونات الأصيلة التركية والفارسية بدرجات متفاوتة. ويتيح، بذلك، فرصة تاريخية غير مسبوقة منذ أكثر من قرنين، تم عبرهما تفكيك الأمة عبر أدوات القوة الخشنة والناعمة. وتخليق مكون استيطاني غربي صهيوني هجين في فلسطين التي تقع في مركز تواصلها الجغرافي والديموغرافي، يناط به دور وظيفي كعازل حضاري وقاعدة استيطانية عسكرية متقدمة لإدامة الهيمنة الغربية على عموم المنطقة.

وأعادت تموضع جميع مكوناتها الأصيلة / العرب فرادى والأكراد وتركيا وإيران/ في المنظومة الاستعمارية الغربية المهيمنة. في مواجهة بعضهم البعض. ووظفتهم جميعا في صراعات بينية وأهلية عرقية وإثنية ودينية وطائفية ومذهبية استنزفتهم جميعا. وأحدثت تصدعات بنيوية عميقة قوّضت منجزات ثمانية قرون من الانصهار في بوتقة حضارية واحدة، أثراها التنوع العرقي والإثني والديني والطائفي والمذهبي، والتكامل الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي. ومكن المكونات فرادى والأمة مجتمعة من التطور والتقدم العلمي والمعرفي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي وتسيد العالم قرونا طويلة، والإسهام الفاعل في تطور الحضارة الإنسانية.

فرصة مواتية لاستعادة الذات والتأهل لحسم الصراع على الهوية والتحرر من الهيمنة 

تكشف المواجهة المباشرة المحتدمة حاليا بين إيران وإسرائيل، بكل ما انطوت عليه من ضبط إيقاع متبادل وحسابات دقيقة. عن توفر فرصة تاريخية لإحداث تحول استراتيجي أعمق في الإقليم: انتقال الأقطاب الإقليمية من التنافس على موقع القيادة ضمن مشروع الهيمنة الغربية "السلام الإبراهيمي"، إلى موقع مقاوم بوصلته فلسطين، يسعى إلى تقويض مرتكزاته. 

فالمعادلة الجديدة الممكن فرضها، لا تقتصر على إعادة تموضع الردع، بل البدء ببلورة محور إقليمي مستقل من القوى الأصيلة في المنطقة يعيد تعريف موقعه الجيوسياسي خارج منطق الهيمنة الغربية. ويبلور مشروعا استراتيجيا تحرريا انطلاقا من شراكة استراتيجية بين مكوناته الأصيلة تتأسس على وحدة الهوية والمصالح والمصير وشراكة الجغرافيا والتاريخ. ويخوض اشتباكا استراتيجيا مفتوحا مع بنية السيطرة الصهيو–أميركية لتفكيكها، واستعادة السيادة لمكوناته منفردة وللأمة مجتمعة.

وتضع اللبنة الأولى في مشروع استعادة الذات. بتفعيل العقل إلى جانب الإيمان بالقدرة على إحقاق الحق عند تفعيل الارادة الجماعية. وتوظيف التحليل إلى جانب الوجدان في تحرير الوعي من الاستلاب. وتوظيف الفرصة غير المسبوقة للتآكل الداخلي المتسارع في بنية نظام الهيمنة الأمريكي والغربي والاسرائيلي والقوى التابعة، في الشروع بالنهوض.

ففي زمن تتفكك فيه المعاني وتتقوّض القيم، يصبح التماسك الحضاري ضرورة وجودية، وتزداد الحاجة لبوصلة فكرية نقدية لمواجهة التحديات الداخلية التي ما تزال تعيق عملية بناء مشروع نهضوي تحرري بديل. ينطلق من فهمه للصراع ضد المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري كصراع ضد بنى الاستعمار المركبة، بما فيها تلك التي تغلغلت في داخل الذات الفلسطينية والعربية والاقليمية. ويبني فهمه على :

أولا: الهيمنة الاستعمارية الغربية الصهيونية.

خلافا للصراعات الدولية التي يخوضها الغرب في إطار الحضارة المادية / بما في ذلك الصراع مع الصين وروسيا الخ/ والذي يراه الغرب المهيمن على النظام الدولي صراع يمكن التعايش معه، وتسويته تفاوضيا، يخوض التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري إلى الصراع مع شعوب المنطقة العربية - الإسلامية، بوصفه بديل حضاري ومنافس وجودي يتوجب هزيمته وإخضاعه. وتعود جذوره الفكرية إلى قرون طويلة ماضية (7 – 15م)

عندما تموضع الإسلام كفاعل حضاري عالمي، وليس فقط كدين، بل مشروعا حضاريا عالميا، ليس عرقيا أو محليا، يقوم على التوحيد، والعدل، والعقل، والكرامة. تجاوز محيطه الجغرافي (من إسبانيا إلى حدود الصين، ومن القوقاز إلى أفريقيا جنوب الصحراء، وتوغل سلميا في ماليزيا وأندونيسيا وإفريقيا الشرقية). 

وتفاعل إيجابيا مع العلوم الهندية، والفلسفة اليونانية، والإدارة الفارسية، فلم يكن ناقلا، بل منتجا معرفيا (فلسفة، طب، رياضيات، فلك، جغرافيا، اقتصاد، عمران) وأثر في نمط الحياة، والمشروعية السياسية (الشورى وتداول السلطة)، والنموذج القيمي، والثقافة، والتعايش بين الأديان واحترام الاختلاف والتنوع.  وضمان العدالة الاجتماعية (الزكاة والوقف ومنع الاحتكار ومراعاة الضعفاء). وأنشأ عواصم حضارية ليست فقط مقرا سياسيا، بل مركز إشعاع معرفي وثقافي (من المدينة المنورة إلى دمشق وبغداد وقرطبة وفاس والقاهرة). ومع بروز تهديدات خارجية (الحملات الصليبية /1098-1291/ المغول /1219- 1256/) سادت النزعة الدفاعية.

 وبدأ في التراجع. ومنذ سقوط الأندلس 1492 انحسر حضوره الحضاري بسبب التراجع الداخلي (إقفال باب الاجتهاد والتجديد واغتيال العقد النقدي والجمود العلمي والمعرفي والتسلط والاستبداد السياسي والاجتماعي، الجمود والتكلس المؤسسي. 

وتزامن ذلك مع بدء النهوض الأوروبي (15-21 م) بظهور الرأسمالية وخصوصا التجارية في القرن الخامس عشر الميلادي، والكشوف الجغرافية 1492، والإصلاح الديني / مارتن لوثر 1517 وتحرير السوق من سيطرة الكنيسة، وتفكيك البنى التقليدية في الغرب الأوروبي، وبناء بنى جديدة ترتكز على مركزية الجنس الأبيض والفردانية والربح المادي وإطلاق العنان للغرائز المنفلتة من أي مرجعية قيمية دينية أو اخلاقية. واستئثار القلة المتناقصة بالسلطة والقوة والمال، والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي للآخر غير الغربي وللفئات المستضعفة. وشهد طفرات نمو متسارعة مع الثورة الصناعية والتوسع الاستعماري في القرون الثلاثة

 (18- 20). ما أدى إلى انتقال مركز الثقل من العالم الإسلامي إلى الغرب.

استرجاع التاريخ (منذ القرن السابع حتى اليوم) ضروري لفهم كيف تراكمت الهيمنة الغربية، ليس فقط بالقوة العسكرية، بل بإعادة تشكيل الوعي عبر الاستشراق والبعثات التبشيرية، وفرض نماذج تعليمية وقانوني وتفكيك دولة الخلافة الإسلامية المركزية، واحتواء المكونات الإقليمية الأصيلة، واعادة تموضعها في مشروع الهيمنة الغربية، وتجزئة الوطن العربي وتفكيك روابطه الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وإلحاق جزيئاته بالمراكز الاستعمارية. ومنع إنشاء إقليم عربي وتأسيس "إسرائيل" في مركزه فلسطين، ككيان استيطاني إلغائي إخلالي وظيفي دائم داخل الجغرافيا العربية، وتفكيك الداخل العربي الإسلامي معرفيا ومؤسسيا. 

وبالرغم من أن الغرب قد شهد خلال القرن العشرين تحولات بنيوية تسببت بها تناقضات الرأسمالية، وما رافقها من أزمات بنيوية، وانسداد أفق النيوليبرالية، وظهور حركات تحررية داخل أوروبا، وما يضفيه ذلك من تعقيدات الواقع الحديث، وتداخل الصراع بين نماذج حضارية متعددة، بعضها عالمي حيث تشابكت الهويات، وتعددت مظاهر المقاومة والمعرفة داخل الغرب نفسه (مثل مقاومة الشعوب الأصلية، الحركات المناهضة للعولمة، تيارات ما بعد الاستعمار…). وبعضها داخلي داخل العالم العربي ذاته)، ما يتوجب معه التمييز بين الهيمنة الغربية كنظام، وبين المجتمعات الغربية ككيانات مركبة تتنامى فيها تيارات تحررية يمكن التحالف معها. إلا ان ذلك لم ينعكس بنيويا، بعد، على مشروع الهيمنة الغربية. 

 ثانيا: الصراع بين المكونات الأصيلة على النفوذ

لم تترسخ الهيمنة الاستعمارية الغربية على المنطقة العربية- الإسلامية عبر تآمر الغرب، فقط، (الخرائط، الهويات، الاستشراق…). وإنما، أيضا، عبر تفكك الذات الحضارية العربية الإسلامية من داخلها من خلال:

  • تراجع الهوية الجامعة وصعود الهويات القومية والعرقية والإثنية، والدينية، والمذهبية، والجهوية. وتنامي الصراع بين المكونات الأصيلة على النفوذ
  • انحسار الديمقراطية/ الشورى/ والانتقال نحو التوريث.
  • تعاظم الاستبداد 
  • تنامي الفجوات التنموية بين المراكز والأطراف، والفجوات الطبقية. 
  • انتشار الفساد، (الغنائمية).
  • الاستلاب الحضاري واغتراب النخب 
  • التواطؤ الداخلي للنخب التابعة، 

ثالثا: بنية الهيمنة الغربية  

لم تقتصر بنية الهيمنة الغربية على المنطقة على البنية العسكرية والأمنية (عقيدة الجيش، الردع، التصنيع الحربي).

البنية الاقتصادية والمالية (العلاقات مع النظام الرأسمالي العالمي، الابتزاز المالي، النيو صهيونية الرقمية)

البنية المعرفية والإعلامية (السردية، الهولوكوست، التطبيع الأكاديمي)

البنية القانونية والمؤسسية (شرعنة الاستيطان، نظام الأبارتهايد، الالتفاف على القانون الدولي)

رابعا: استعادة الوعي المقاوم مقابل الاغتراب المعولم عبر:

1- بناء وعي نقدي يطرح شروط النصر الواقعي. فالتحرر لا يقوم على النيات الطيبة ولا على الغضب وحده. بل على مشروع متكامل يحفر في الجذور. ويشخص الواقع. ويبني على التعدد. ويخاطب الداخل والخارج. ويؤمن أن فلسطين ليست فقط قضية، بل معيارا لكل قضية عادلة في هذا العالم.

2- التمسك بالحق، والعدالة، والانتماء للأرض بوصفها مجالا للانبعاث وإعادة بناء الوعي الجمعي:

 • الوعي بالأرض لا بوصفها ملكية فردية أو وطنا ساكنا، بل مجالا للحياة، للعمل، للبناء، وللمعنى.

• الوعي بالذات لا كهوية قومية وحضارية صلبة فقط، بل كذات إنسانية تحررية، ترفض التذويب في السوق العالمية.

• الوعي بالمقاومة لا كفعل بطولي لحظي، بل كبنية مجتمعية، ومشروع سياسي، وثقافة ممتدة. في هذا الإطار، تُصبح المقاومة أداة لإعادة تعريف "الإنسان الفلسطيني والعربي" في وجه تغريبه. و"السلاح" جزءا من بنية متكاملة تشمل السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا. والتربية والثقافة والتعليم.

خامسا: نقد الذات لا ينقض الإنتماء ولا الإلتزام 

شكل إغلاق الدائرة فلسطينيا وعربيا على النقد الذاتي بذريعة التفكك الوطني والقومي، وأولوية الصراع مع العدو الخارجي، عاملا جوهريا في توالي الهزائم العربية، وإخفاق الحركات الوطنية الفلسطينية والعربية على مدى أكثر من قرن. على الرغم من أن النقد الذاتي شرط أساسي للبناء الذاتي وتحصين التماسك المجتمعي.

وعليه فإن طرح الأسئلة الأساسية المتعلقة بالذات بصراحة وجرأة. والإجابة الواضحة عليها، ينطوي على أهمية حاسمة في الصراع ضد الهيمنة الاستعمارية الغربية الصهيونية وأهمها: 

  • ما هو جوهر العطب الداخلي وأشكاله في الواقع الفلسطيني والعربي؟
  • كيف انقلب المشروع الوطني الفلسطيني إلى إدارة الاحتلال بالوكالة.
  • أين أخطأت الحركات الإسلامية حين غلبت السلطة على الرسالة؟
  • ما هي حدود الخطاب العقائدي حين يقصي غيره أو يجمد التاريخ؟
  • ما هي مخاطر الجمع بين السلطة والمقاومة على الحاضنة الشعبية؟

فالمعركة ليست بين النور والظلام، وبين الأخيار والأشرار وفقا للخطاب المهيمن على مراكز صنع القرار الإسرائيلي، والأمريكي وعموم الغربي، والإسلام الأصولي. بل بين: -

  • مشروع تحرري فلسطيني عربي مشرقي نقدي يتجاوز ذاته باستمرار.
  • ومشروع هيمنة غربية صهيونية يستنسخ ذاته بالقوة والخداع.

سادسا: نحو جبهة إنسانية تحررية متعددة.

رغم أن أهداف الهيمنة الاستعمارية الغربية الصهيونية العنصرية على المشرق العربي الإسلامي تتجاوز الجغرافيا إلى الهوية الحضارية، فإن مشروع التحرر المشرقي وفلسطين بوصلته يدعو إلى تحالف تحرري إنساني واسع، لا يغفل الانتماء الوطني والقومي، ولا يكتفي بتماسك الهوية الحضارية العربية- الإسلامية بتنوعاتها المتعددة. بل يستوعب تنوّع المكونات وتعدد الرؤى. ويرفض تنميط الأمة في قالب عقدي واحد، ويبني وحدة نضالية بين جميع الشركاء الأصيلين/ العرب والكرد والترك والفرس/. وحدة تقوم على مبادىء الحق، والعدالة، والتحرر، والمساواة. وتحترم التنوع والتعددية في إطار وحدة الهدف المشترك.

ويجمع بين التيارات الوطنية والقومية النقدية، والحركات الإسلامية المقاومة،

والقوى العلمانية التحررية المناهضة للإمبريالية والحركات المناهضة للعنصرية عالميا والنضالات الشعبية في الجنوب العالمي

سابعا: إعادة بناء المشروع التحرري الفلسطيني العربي.

إعادة بناء المشروع التحرري الفلسطيني خارج أوسلو والمنظومة المانحة.

وتحرير الوعي العربي من نهج التكيف مع الهزيمة. ودمج المقاومة المسلحة ضمن رؤية مجتمعية شاملة لا تكتفي بالبندقية. وإعادة صياغة التحالفات الإقليمية والدولية على قاعدة الاستقلال. وتفكيك المشروع الصهيوني من داخله سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وينطلق من:-

1: فلسطين كقلب الصراع

فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، وليست قضية فلسطينية أو عربية أو إسلامية فحسب. بل اختبارا للمشروع الغربي في صيغته العنصرية: لمحاولة اجتثاث الذاكرة الفلسطينية والعربية والإسلامية وعموم الذاكرة الانسانية. وتقويضا لمركزية الحضارة المشرقية في التاريخ والروح. 

وعليه، فإن وضع فلسطين في قلب المشروع التحرري ليس فقط كأيقونة للصراع، بل كبوصلة لإعادة الاعتبار للحرية، العدالة، والوحدة في وجه الاستعمار والاستبداد معا.

2: بناء مشروع حضاري بديل لا يكتفي بالمقاومة المسلحة، بل يسعى لتفكيك الهيمنة الاستعمارية الغربية معرفيا وثقافيا وبنيويا من خلال إعادة بناء العقل الفلسطيني والعربي والإسلامي والجنوب العالمي والتحرري الإنساني على امتداد العالم، ترتكز على القيم الإنسانية الأساسية المتصلة بالحق والعدالة وتساوي حقوق الشعوب في والكرامة وتقرير المصير والعدالة. من خلال بنى سياسة واقتصادية وتكنولوجية واجتماعية وبيئية، ودولة تحترم استقلال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية، واحتكامهم جميعا للقانون.  وعقد اجتماعي بين النظام والشعب يكتسب مشروعيته من التسليم بأن الشعب هو صاحب الحق الحصري في منح الشرعية للنظام وفق العقد الاجتماعي المتوافق عليه، وفي سحبها منه عند خرقه. 

3: فلسطين تكثيف للتاريخ العربي الحديث، فهي ليست مجرد قضية وطنية تخص شعبا محتلا. بل مركز الوطن العربي، تقع في مركز وصله الجغرافي والديموغرافي.  وتتموضع في قلب الجغرافيا السياسية للمشرق، ملتقى آسيا وإفريقيا وأوروبا، وكانت منذ فجر التاريخ نقطة صراع استراتيجي دولي. ولم يكن تأسيس "إسرائيل" سوى مشروع غربي وظيفي استيطاني في قلب الأمة، استخدمت فيه كل أدوات القهر الغربي. من السلاح إلى السردية، ومن القانون إلى التمويل. وهي المختبر العنيف الذي جربت فيه آليات الإخضاع الحديثة لعموم الأمة. 

 لقد كشفت فلسطين أزمة النظام الإقليمي العربي الحديث. وسلطت الضوء على أسباب فشل النخب الرسمية الفلسطينية والعربية، التي لم تفلح لا في التحرير، ولا حتى في الحفاظ على الهوية. بل حولت القضية إلى"ملف تفاوضي". وتكيفت وامتثلت لنظام الهيمنة الاستعمارية الغربية، وأدارت الصراع مع العدو الوجودي كوسيلة للبقاء السياسي، لا لتحرير الأرض. وكشفت انسداد الأفق السياسي. وكانت محكا لقياس صدق الأنظمة من زيفها، وبرهانا على أزمة المشروع الوطني الفلسطيني والقومي العربي، عند انفصاله عن الفعل الشعبي. وهي محفز لإعادة بناء الوعي الفلسطيني والعربي. حيث يتعذر تحرير فلسطين دون تحرير الوعي الفلسطيني والعربي والاسلامي من رواسب الهزيمة والتطبيع والخوف. 

لقد أحدث طوفان الأقصى تحولا في أولويات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية وعموم الجنوب العالمي. وأعاد فلسطين إلى قلب جدولها العاطفي والسياسي. فالتطبيع لم يكن مجرد علاقة سياسية، بل عملية استلاب معرفي بتوجب تفكيكها من الجذر.

4: فلسطين والوحدة المشرقية نحو مشروع حضاري جديد

فلسطين جسر لوحدة المشرق لا حاجز له. سوريا ولبنان والعراق والأردن وتركيا وإيران والأكراد، يتقاطعون جميعا في هذه القضية. ومن المقاومة لتحرير فلسطين فقط، يمكن أن ينبثق مشروع تكامل إقليمي جديد بين العرب والترك والكرد والفرس، على قاعدة الشراكة والسيادة والمساواة والعدالة الاجتماعية ووحدة المصير. وعليه فإن تفكيك سايكس-بيكو ليس شعارا، بل ضرورة تاريخية لإعادة وصل الجغرافيا بالذاكرة.

5: من القضية إلى البوصلة: فلسطين كمعيار تحرري

تظهر فلسطين زيف المعايير الدولية، وعدالة انتقائية لا تطال إلا الضعفاء، ما يجعلها مرآة عاكسة لانهيار ما يسمى النظام الدولي. وبقدر ما تمثل فلسطين فضيحة لهذا النظام، فإنها تمثل في الوقت ذاته معيارا أخلاقيا للحركات التحررية. من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا وآسيا. ولقد أعاد قطاع غزة تشكيل الإدراك العالمي لموازين القوة، وحرك وجدان الجنوب العالمي ضد الظلم الإمبريالي.

إن فهم فلسطين يتجاوز البعد الجغرافي أو السياسي، ليطال البنية العميقة للاستعمار والهيمنة، ويكشف هشاشة النخب المتغربة وفسادها وتبعيتها. كما يفتح في الوقت ذاته أفقا لوحدة شعوب المشرق والعالم على قاعدة العدالة الكونية. واليوم تتشكل حول فلسطين نواة تحالف عالمي جديد مضاد للاستعمار، يربط بين نضالات الشعوب من هايتي إلى كيب تاون. فلم تعد الحرية والعدالة مطلبا محليا أو عربيا، بل بات مطلبا كونيا. وفلسطين معيارهما الأعلى. إنها قاعدة لبناء تحالفات معرفية وقانونية ونضالية، تتحدى المركزية الغربية، وتعيد لجنوب العالم موقعه الفاعل على الصعيد العالمي.

6: فلسطين كمستقبل لا كذاكرة

إننا لا نكتب عن فلسطين كأثر من الماضي، بل أفق ممكن لمستقبل عربي وإنساني مختلف. في فلسطين يختبر صدق المبادئ، وتصاغ معايير العدل. ومنها تنبع إشارات الانعتاق العربي القادم، وملامح نظام عالمي لا يقوم على الغلبة، بل على الكرامة.

ختاما، فلسطين ليست فقط “قضية مركزية”، بل هي المركز ذاته الذي تدور حوله أزمتنا وهويتنا ومستقبلنا. ومن دون إعادة بناء المشروع التحرري الفلسطيني العربي المشرقي انطلاقا من بوصلتها، لن تقوم لنا قائمة. إنها المعيار والمختبر، وهي السبيل والغاية معا.

 

مشاركة: