الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   17 حزيران 2025

| | |
خطاب "أبواب الجحيم" هل هو تكرار العجز في ثوب التهديد، أم خلل بنيوي في عقل الغرب الاستعماري العنصري عموما، والاستيطاني منه خصوصا؟
غانية ملحيس

يشكّل السكان البيض من أصول أوروبية، الذين ما يزالون مسكونين بعقدة التفوّق العرقي على باقي البشر، نحو 16% من إجمالي سكان العالم عام 2025. ويشكل المستوطنون منهم في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا والكيان الصهيوني، المسكونين بتاريخ نشأتهم الاستعماري، نحو 3.2% فقط من سكان المعمورة. 

عندما هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل ستة أشهر، بأن أبواب الجحيم ستفتح على قطاع غزة إن لم يستسلم، كان كأن الولايات المتحدة الأمريكية تتحدث من عام 1776 أو 1918 أو 1945 أو 1989، أو حتى من عالم ما قبل 2001. لا كمن يعيش في عالم ما بعد صمود غزة، وسقوط الهيبة الغربية في المنطقة والعالم. 

لم تتحقق نبوءته، رغم أن توحش الغرب الاستعماري الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في قطاع غزة، قد فاق جرائمها في هيروشيما وناكازاكي. بل حدث العكس تماما: لم تفتح أبواب الجحيم على غزة، بل انفتحت من غزة على النظام العالمي بأسره، وعلى صورة الغرب التي انهارت أخلاقيا أمام أعين شعوب العالم، بما في ذلك شعوب الغرب ذاته، لا سيما بعد مجازر المستشفيات والتجويع الجماعي والتواطؤ الدولي.

صمدت غزة رغم الإبادة والتدمير والجوع والعطش، وتوسع الغضب الشعبي العالمي. وأُجبر الغرب على التراجع أخلاقيا في عدة ساحات. 

ورغم ذلك، عاد الرئيس الأمريكي اليوم ليكرر الخطاب ذاته، موجها هذه المرة تهديده إلى الجمهورية الإيرانية التي تمتد جذورها في أعماق المنطقة منذ آلاف السنين، بنفس مفردات النزق العنصري والتفوق العسكري والردع النووي، وكأن شيئا لم يتغير، وكأن درس غزة لم يقرأ بعد.

لكن تهديد إيران بأبواب الجحيم محكوم عليه، كسابقه، بالفشل لأسباب جوهرية:

   إيران ليست كجيب غزة المحاصر متناهي الصغر جغرافيا وديموغرافيا، الذي ما يزال يستعصي على الخضوع. فهي دولة ذات سيادة، وأدوات ردع متعددة، وتحظى بحاضنة شعبية ممتدة تتجاوز الانقسام المذهبي، وعابرة للحدود. لا تقتصر على الشيعة كما يعتقد الغرب. فأهل السنة يقفون معها منذ أن اكتشفوا أنها تتحمل عبء حفظ الهوية الحضارية لعموم المنطقة العربية - الإسلامية الممتدة. رغم تحفظهم على منهج إدارتها للصراع الذي يحمل شبهة تعصب قومي. وعلى طموحات غير مقبولة حفزها الفراغ العربي. وهو ما بدده إلى حد كبير دعمها الصادق لأهل السنة في غزة حين تخلّى عنهم قادتهم

وعليه.  فإنه لا يمكن احتواؤها بضربة، ولا ترهيبها بخطاب أرعن صاخب، ولا تحييدها باغتيال قادتها كما يهدد ترامب.  ألم ير أن اغتيال قادة حماس قد زاد الأجيال تمسكًا أعمق بخيار المقاومة. 

ألا يعي أن شعوب المنطقة والعالم أصبحت تدرك جيدا أن الردع الأميركي بات هشا، فقد خبروه منذ عقود في لبنان والصومال والعراق، ومؤخرا في أفغانستان واليمن. وأن صمود غزة واستعصاؤها على الاستسلام، رغم 620  يوما من الإبادة والتجويع والتدمير والتهجير قد غيّر معادلة الخوف. وأن الردع القائم على الرعب فقد فعاليته. 

فمشهد الطفلة في رفح، لا القنبلة الذكية، هو ما صاغ الضمير العالمي الجديد، وما أعاد تعريف الجريمة والعدالة في وجدان الشعوب.

والمجازر لم تعد ترهب الشعوب، بل تدين الجلادين. و "القوة الصامتة" التي روّج لها الغرب عقودا، أصبحت "الوحشية المكشوفة" التي تسرع من تقويض شرعيته.

فالمشهد الدولي تغير بالكامل. ولم يعد بالإمكان إدارة العالم بذات أدوات الهيمنة الامبراطورية القديمة. هناك قوى جديدة، وتحولات شعبية، وفجوات تتسع داخل معسكر الغرب نفسه. ولم تعد التهديدات تحقق مفعولا سياسيا، بل تنذر بتداعيات عكسية.

إن تكرار خطاب "أبواب الجحيم" وتحذير أهل طهران ودعوته لسبعة عشر مليونا بالمغادرة الفورية، كما سبق وطلب قبل ستة أشهر من 2.3 مليون فلسطيني بإخلاء قطاع غزة. ليس دلالة قوة، بل علامة على الإفلاس الاستراتيجي في عقل القوة المهيمنة، الذي ما يزال ينكر الواقع الجديد، ويعجز عن إنتاج مقاربة تتجاوز منطق الإخضاع بالقوة.

وهذا الخطاب - إن قاد إلى فعل مدمر فعلي - فلن يقابل هذه المرة بالصمت كما حدث مع الهنود الحمر، ولا مع هيروشيما وناكازاكي. فالعالم اليوم، بعد غزة، يرى ويسمع ويقاوم، ولن يكون مستعدا للقبول بدمار شامل جديد يرتكب باسم "الردع"، وهذا ما يجعل اللحظة أكثر خطورة، لكنها أيضا أكثر إمكانا للتغيير. بل قد يشهد العالم لحظة تمرد حضاري-أخلاقي كبرى.

لقد أزالت غزة قناع "القوة الأخلاقية" عن الغرب، وكشفت عن هشاشة الردع العسكري حين يصطدم بإرادة لا تقهر. وها هو الخطاب الإمبراطوري، من غزة إلى طهران، يكرر عجزه بعبارات التهديد، في مشهد يعيد طرح سؤال جوهري:

من يملك حق التعريف؟

ومن يضع معايير العدالة؟ 

إن لحظة الانكشاف هذه، وإن بدت مروعة، إلا أنها قد تكون بداية تحرّر العالم من عباءة التفوق الكاذب، وتأسيس عصر جديد لا تقاس فيه الشرعية بالقوة، بل بالحق والمقاومة والكرامة.

 

مشاركة: