في مقاله اللافت "الشخصية الفلسطينية المرحة في الرواية"، يطرح الكاتب عادل الأسطة سؤالا نادر الحضور في النقد الأدبي الفلسطيني: أين اختفت الشخصية الشعبية المرحة من السرد؟
ولأن المقال لا يكتفي برصد الغياب، بل يتلمس له عمقا اجتماعيا وثقافيا وجماليا، وجدته فرصة تستحق مغامرة تجاوز نطاق الاختصاص الذي استحوذ على جل كتاباتي، والولوج إلى مجال – دون ادعاء الإحاطة بأدواته – بدافعين رئيسين:
أولا؛ ما يحفزه مقال الأسطة من مساءلة لأثر الجغرافيا، والطبقة، والنوع الاجتماعي، في تشكيل تمثيلات الضحك الفلسطيني في النص.
وثانيا: رغبتي في توسيع هذا السؤال إلى أفق أرحب، لا يقارب الضحك كعنصر غائب فحسب، بل كمنظومة سردية مضادة، قد تمتلك من القدرة على المقاومة ما لا تتيحه اللغة الجادة وحدها.
الضحك المؤجل: عن اختفاء الخفة من السرد الفلسطيني
منذ النكبة، هيمنت الجدية بوصفها المقام الأعلى في التمثيل الأدبي الفلسطيني. بدا كأن خفة الضحك تُخشى، خشية أن تُفهم كاستخفاف بالجرح، أو كخيانة لذاكرة الفقد.
وهنا تكمن أهمية مقال عادل الأسطة، لا بوصفه رصدا لغياب الشخصية المرحة، بل كمحفز لأسئلة أعمق:
هل يعود اختفاء الضحك من الرواية إلى تطور أسلوبي، أم إلى سياق طبقي–جغرافي- سياسي محدد؟
هل الجدية شرط للمقاومة، أم خيار ثقافي فرضه "الأدب الملتزم" بوصفه النموذج الأعلى للكتابة الوطنية؟
رغم أن كاتبا مثل غسان كنفاني كتب عن "الأدب الساخر"، فإن أعماله ظلت وفية لصوت الجرح، من دون أن تفسح مجالًا للدعابة أو الفانتازيا. بدا الضحك في ظل النكبة فعلا غير أخلاقي، أو ترفا طبقيا، أو انحيازا لطبقة بعيدة عن المعاناة الجماعية.
الضحك من الداخل: مقاومة ناعمة في مواجهة الأسرلة
في مفارقة لافتة، يرصد عادل الأسطة أن أبرز من جسدوا الضحك الفلسطيني في الرواية جاؤوا من الداخل الفلسطيني، لا من الشتات: إميل حبيبي، توفيق زياد، محمود شقير. لم ينكر هؤلاء الجرح، لكنهم استخدموا السخرية، التهكم، والفانتازيا، كأدوات مقاومة رمزية.
ففي الداخل، حيث الفلسطيني محاصر ضمن نظام استعماري يدعي دمجه، يصبح الضحك شكلا من أشكال النجاة: مقاومة ناعمة لهوية مهددة.
هنا، السخرية ليست ترفًا، بل ضرورة. ووسيلة لحماية الذات من الأسرلة، من دون الوقوع في فخ الجدية القاتلة أو الصمت القسري.
الضحك تحت النار: غزة والمخيلة الساخرة الجديدة
في العقد الأخير، وتحديدا منذ بدء حرب الإبادة المتواصلة على غزة (منذ 621 يوما)، برز جيل فلسطيني جديد يمارس الضحك تحت الركام. لا يكتب هؤلاء نكتا للترفيه، بل يصرخون بلغة ساخرة عبر الميمات، التدوينات، الفيديوهات، وحتى الكتابة الأدبية. رصد عادل الأسطة هذا المزاج الجديد في خربشاته اليومية. سخرية هجائية، مريرة، لا تتبع أي مدرسة أدبية، بل تولد من رماد الأمل.
في الداخل، كان الضحك تكتيك نجاة من الأسرلة. أما في غزة، فهو شهقة مواجهة في وجه آلة الإبادة. إنه لا يخفف من القسوة، بل يثبّتها. لا ينكر الموت، بل يفضحه بلسان فاحش أحيانا، وعين ثاقبة دائما.
مقارنات عربية: حين تختلف دوافع السخرية
يستدعي مقال الأسطة تجربة عربية أوسع، حيث كانت السخرية غالبا رديفا للهزيمة أو القمع. ففي مصر ما بعد 1967، تحولت الجدية إلى سخرية في أعمال صنع الله إبراهيم، يوسف إدريس، ومحفوظ المتأخر، كرد فعل على خيبة أنظمة لم تهزم العدو، بل انهزمت من الداخل.
وفي سوريا، تحولت السخرية إلى مسرح تلفزيوني شعبي (دريد لحام ونهاد قلعي) يعكس الغضب الشعبي من الرداءة القومية والعنف الأمني.
لكن السخرية الفلسطينية تختلف: لا تنبع من موقع مهزوم داخل وطن آمن، بل من موقع مطارد، لاجئ، أو مهدد بالفناء. سخرية تنتج من لا-أمان الكينونة، لا من خيبة سياسية عابرة. ولهذا، فهي سخرية مضادة بامتياز، لا مجرد هجاء سياسي.
في الدفاع عن خفة الضحية
ما يفتحه مقال الأسطة هو مساءلة جوهرية للجدية ذاتها: هل كانت قدرا لا مفر منه، أم خيارا ثقافيا فرضته سرديات الالتزام الوطني وأدبيات الثورة؟
حين نعيد النظر، نكتشف أن الضحك ليس نقيض الالتزام، بل أحد أشكاله الأكثر تقدما.
أن نضحك ونحن نكتب عن النكبة، لا يعني أننا نسينا، بل أننا رفضنا اختزالها في صورة واحدة. أن نضحك، لا يعني أننا أقل التزاما، بل أكثر تمرسا على الحياة.
إن استعادة خفة الضحية ليست خيانة، بل تحرر من كهنوت الجدية، وفتح لفضاء تمثيلي أوسع.
النوع الاجتماعي الغائب: أين المرأة من السرد الساخر؟
يلفت الأسطة إلى قلة حضور السخرية في الرواية النسوية الفلسطينية، باستثناء تجربة سعاد العامري.
هل يعني هذا أن المرأة الفلسطينية حوصرت داخل خطاب "الرسالة الجريحة"؟
هل كانت الدعابة امتيازا ذكوريا، لا لقصور ذاتي، بل بفعل الثقافة السياسية والأدبية الذكورية؟
أم أن السخرية النسوية ظهرت بأشكال أخرى: في الميمات، الفيديوهات، اليوميات، والشعر العامي؟
نحتاج لإعادة قراءة هذا الغياب لا كفقدان، بل كأثر لسياق ثقافي حدد دور المرأة كناقلة للرسالة، لا منتجة للتهكم. فتح هذا الباب لا يعني فرض واجب تمثيل، بل توسيع الإمكانات الجمالية والأخلاقية للرؤية التحررية الفلسطينية.
الدعابة كأدب مضاد، والضحك كحق سياسي
في لحظة كونية يعاد فيها تعريف الفعل المقاوم، لا تبدو استعادة الدعابة ترفا، بل حاجة ثقافية وإنسانية.
نحن لا نطالب بضحك يعيد إنتاج السلطة أو يكيف الذات مع القمع، بل بضحك يخلخل السرديات الجامدة، ويمنح الفلسطيني حق الحياة، لا فقط الشهادة.
مقال عادل الأسطة ليس حنينا تراثيا لشخصية مرحة، بل دعوة ثقافية - سياسية لإعادة التفكير في مركزية "الضحك" داخل مشروع التحرر.
أن نضحك اليوم، في حضرة الموت الجماعي، لا يعني أننا نسامح القتلة، بل أننا نملك لغة أخرى للرفض. ضحكتنا ليست إنكارا للنكبة، بل إصرار على الحياة رغمها.
نحو فضاء تمثيلي أكثر رحابة
ما تحتاجه الرواية الفلسطينية اليوم ليس المزيد من المراثي فقط، بل فضاء أكثر رحابة للتمثيل.
ربما لا ننتصر حين نبكي وحدنا، لكننا ننجو حين نضحك معا. وهكذا، لا تصبح خفة الضحية عبئا نخجل منه، بل حقّا ننتزعه