الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   23 حزيران 2025

| | |
حين تستفيق الأسطورة في قلب الحداثة
غانية ملحيس

ليست الأسطورة بقايا ماض تجاوزه العقل، كما توهمت الحداثة عند انتصارها. بل هي مرآة رمزية تعكس البنية العميقة للوعي الجمعي، بل و”اللاوعي الحضاري” الكامن خلف سرديات التقدم والعقل والعلم.

الأساطير لم تمت، بل تسكننا. وحين يختل المعنى، وتتهاوى المشاريع الكبرى، تعود من شقوق الزمن لا بوصفها حنينا، بل كصرخة إنذار.

العودة إلى أسطورة بروميثيوس، إذن، ليست هروبا إلى الماضي، بل محاولة لفهم حاضر انفجر فيه العقل على ذاته.

فهل نحن اليوم أحفاد بروميثيوس الذي حرر النار؟ أم عبيده وقد تحولت ناره إلى جحيم معولم؟

وهل كانت الحداثة الغربية، بكل وعودها، سوى إعادة إنتاج لقصة قديمة: سرقة المقدس باسم العقل، والتورط في لعنة المعرفة المنفصلة عن القيم؟

لقد تأسست الحضارة الغربية الحديثة على ثلاثية: العقل، السيطرة، والتقدم. لكنها ثلاثية لم تكن بريئة. فمن بروميثيوس إلى فاوست إلى أبوللو، يتكرر النمط ذاته: نار تنتزع من مقامها الأعلى، يحتفى بها بوصفها انتصارا، ثم تتحوّل تدريجيا إلى لعنة. النار تصير قنبلة، والعقل يصير آلة، والحرية تتحوّل إلى استهلاك.

في زمن تفجّر الحروب، والاغتراب الروحي، والانهيار البيئي، وصعود الذكاء الاصطناعي الذي يهدد “الإنسان نفسه”. لا تكفي أدوات النقد السياسي أو الاقتصادي وحدها. بل نحتاج إلى تفكيك البنية الأسطورية التي تأسست عليها الحضارة، واختبرت من خلالها حدود القوة والمعرفة والرغبة.

فكل حضارة تحمل في جوهرها أساطيرها المؤسسة، لكن ما يميز اللحظة الراهنة أن هذه الأساطير - وقد تحققت ماديا - بدأت تأكل أبناءها.

نار المعرفة وحدود التمرد

في قلب الأساطير الإغريقية، ينهض بروميثيوس كرمز للتحدي والإرادة: تيتان جريء سرق النار من الآلهة ووهبها للبشر. لم تكن تلك النار مجرد أداة إشعال، بل رمزا للمعرفة، والتقنية، والسيطرة على الطبيعة. بفعله هذا، افتتحت الإنسانية مسارا تحررت فيه من خضوعها، لكنها استدعت في المقابل لعنة كونية. عاقبه زيوس بتقييده إلى صخرة، ينهش كبده يوميا في دورة عذاب أبدية. إنها صورة رمزية كثيفة تقول إن التمرد المعرفي دون ضوابط يورث ألما وجوديا لا ينتهي.

تلقت الفلسفة الغربية هذه الأسطورة بعدة قراءات:

        •      في المخيال الأوروبي، صار بروميثيوس بطلا مقاوما للاستبداد، متمردا على السلطة.

        •      في فلسفة هيغل، جسّد الروح المطلقة في صراعها من أجل الوعي بذاتها.

        •      وعند نيتشه ثم هايدغر، صار تحذيرا من سيادة العقل المفرط: العقل الذي ينتج تدميرا ذاتيا باسم  الحداثة والتقدم.

وهكذا تحوّل بروميثيوس، حين انفصل عن قيمته  الروحية والأخلاقية، من رمز للتحرّر إلى أصل للخطيئة الحضارية. فالنار التي وهبها للبشر لم ترفق بالحكمة، بل أطلقت شهوة الهيمنة، وانفلات التقنية. واليوم، يتقاطع هذا المعنى مع واقعنا المعاصر:

        •      من الفيزياء النووية إلى الذكاء الصناعي.

        •      من التحكم بالطبيعة إلى التلاعب بالإنسان نفسه.

        •      من إنجازات التقدم إلى خطر “الانقراض الذاتي”.

وما يجري في غزة وفلسطين، نموذج مرير: نار بروميثيوس وقد تحولت إلى قذائف، وتقنيات مراقبة تستخدم للإبادة الجماعية. ليست المأساة مجرد فشل أخلاقي، بل تتويج لأسطورة حضارية فصلت بين المعرفة والقيم.

بل إن الهلع الغربي من امتلاك إيران للمعرفة النووية يمكن قراءته كأسطورة متجددة: زيوس الحديث يرفض أن يمتلك تيتان شرقي ناصية النار مرة أخرى، فالمعرفة لم تعد خطرا تقنيا، بل رمزا لحق تقرير المصير.

ألسنا، نحن البشر، ورثة بروميثيوس الذين لم يتعلّموا من عذابه؟

لقد استلمنا نارا عظيمة، لكننا لم نعرف كيف نحملها. لم ندرك أنها امتحان، لا امتياز. وأن المعرفة دون حكمة قد تودي بنا إلى الهلاك.

بروميثيوس لم يعاقب لأنه أعطى النار فحسب، بل لأنه تجاوز حدوده دون أن يطهر النفس، ودون أن يضمن أن هذه القدرة لن تستخدم في تدمير الحياة.

ومنذ تلك اللحظة الرمزية، بدأ الإنسان يشيد عالما من الأدوات، لكنه فكك في المقابل روابط المعنى. لقد تحرر من الآلهة، لكنه استبدلها بآلهة من صنع يديه: السوق، الدولة، الآلة، الأنا. وأصبح الإنسان الحديث، في جوهره، كائنا يعرف “كيف”، لكنه لا يسأل “لماذا”. إنها نار تشعل التقنية، لكنها لا تدفئ الروح.

والنتيجة؟ حضارة ترى في كل شيء أداة:

        •      الطبيعة موردا.

        •      الإنسان وظيفة.

        •      الكائنات أرقاما.

        •      المستقبل مشروعا بلا أفق روحي.

ليس العذاب إذن في النار، بل في غياب البوصلة حين نحملها. فنحن اليوم لا نعرف إن كنا بروميثيوس، أم النسر، أم الجسد المقيد إلى الصخرة. لكن المؤكد أن هذا التكرار العبثي لا يكسر إلا إذا استعدنا المعنى، وربطنا النار بالنور، والقدرة بالمسؤولية.

المعرفة التي تبرم صفقة مع الشيطان

إذا كان بروميثيوس يمثل لحظة الانفصال الأولى بين الإنسان والمقدس، فإن فاوست هو لحظة الذروة الكارثية لهذا الانفصال. فاوست ليس مجرد عالم طموح أو فيلسوف تائه، بل هو تجسيد للحداثة الغربية حين تندفع بلا قيد نحو امتلاك كل شيء ، ولو بثمن الروح.

في أسطورة غوته، يعقد فاوست صفقة مع الشيطان “ميفيستوفيليس”: يمنحه كل لذات المعرفة والقوة والمتعة، مقابل أن تؤول روحه إليه بعد الموت. إنها لحظة الانقلاب: من طلب الحكمة إلى عبادة السيطرة، من السؤال عن المعنى إلى الشراهة في الامتلاك. وهذا التحول من بروميثيوس إلى فاوست هو انتقال من التمرد إلى التشييء، من سرقة النار إلى بيع الذات.

فاوست لم يعد شخصية في مسرح، بل صار نموذجا مهيمنا:

        •      يعرف كل شيء، لكنه يجهل نفسه.

        •      يبني مدنا ذكية، لكنه يعيش خواء روحيا.

        •      يصعد إلى الفضاء، لكنه يسقط في قلبه.

        •      يتقن العلم، لكنه لا يعرف الرحمة.

فاوست المعاصر يوقع يوميا عقودا مع “ميفيستوفيليس” الجديد:

        •      تكنولوجيا بلا روح.

        •      اقتصاد يحول الإنسان إلى وحدة إنتاج واستهلاك.

        •      أنظمة تعليم تصنع أدوات لا شخصيات.

        •      ثقافة تمجد الإنجاز وتدوس على التأمل.

تتحول المعرفة إلى سلعة، والعقل إلى أداة، والذات إلى مشروع استثمار. والنتيجة؟ إنسان يملك “الكل”، لكنه خاسر: وحيد، هش، مفكك الهوية، لا يعرف لم يعيش، ولا كيف يحب، ولا إلى أين يذهب.

هذا هو فاوست الحديث: كائن مفرط في القوة، لكن بلا اتجاه أخلاقي. يتوهم السيطرة، بينما يسير في طريق فقدان الذات. يتصاعد في سلم “الإنجاز”، لكن يهبط في سلّم الإنسانية. لقد نبّهت الأديان، لا سيما التوحيدية، إلى خطورة هذا المسار:

•  حين تفصل المعرفة عن تزكية النفس، تتحول إلى طغيان.

•  وحين يقصى الله من المعادلة، يصير الإنسان إلها زائفا.

•  والمعرفة التي لا تهتدى بالرحمة، تصبح لعنة على من يحملها.

في هذا السياق، تطرح أسطورة فاوست سؤالا وجوديا: هل المعرفة بلا حدود هي خلاص، أم هلاك مؤجل؟ وفي عمق الأزمة الحضارية التي نشهدها، لا يكفي أن ننتج المعرفة، بل أن نسائلها:

        •  ما غايتها؟

        •  لمن تنتج؟

        •. وعلى أي أساس قيمي تبنى؟

إن الاستجابة لهذا التحدي لا تكون برفض الحداثة جملة، بل بإعادة وصلها بالجذر الروحي، وبإخضاعها للمساءلة الأخلاقية. فالتقدم ليس في امتلاك كل شيء، بل في الوعي بالحدود، والاعتراف بأن القوة دون رحمة تفتك بصاحبها قبل ضحاياها. أسطورة فاوست، في نهاية المطاف، ليست عن الشيطان فقط، بل عن الإنسان الذي خضع لإغواء “أن يكون كليا”، ففقد إنسانيته. إنها مرآة لعصر يمجد السيطرة، لكنه يعيش الاغتراب. ولا خلاص إلا باستعادة التوازن:

أن يكون العلم عبادة، لا سلطة. وأن تكون المعرفة نورا، لا نارا محرقة.

نزعة السيطرة الجمالية والعقلانية

إذا كان بروميثيوس رمز النار، وفاوست رمز الصفقة، فإن أبوللو  هو تجسيد الحداثة في وجهها “المشرق”: العقلانية، التناسق، والنظام. لكنه الوجه الذي يخدر لا يحترق. يطمئن لا يوقظ. إنه نموذج السيطرة الناعمة التي تنظم الحياة بدقة، لكنها تخنق العفوية والاختلاف. أبوللو، في الأساطير الإغريقية، هو إله النور والجمال والتناغم. لكنه في سياقنا المعاصر يمثل:

        •  المدن الذكية الباردة.

        •  الفنون المصقولة بلا روح.

        •  التعليم الأداتي الذي يقتل الخيال.

        •  والعقلنة المفرطة التي تقصي العاطفة واللايقين.

الإنسان في عالم أبوللو لا يعاني من الألم العنيف، بل من “راحة زائدة”. يعيش في جنة النظام، لكنه يختنق من فرط التماثل. كل شيء محسوب، محسن، مبرمج. ومع ذلك، لا أحد يعرف لماذا يعيش. الطمأنينة الأبوللوية تتحول إلى قيد ذهني ونفسي:

        • تحجب الانكسار، والشرود، والتساؤل.

        •  تقصي الغموض، فتمحو العمق.

        •  تفرض الكمال، فتميت المعنى.

في الفكر الصوفي، لا قيمة لنور لا ينبثق من الداخل. وفي النقد الحداثي، نبه فلاسفة مثل أدورنو وهوركهايمر إلى أن العقل الأداتي - عقل التنظيم والتحكم - يتحول إلى أداة قمع حين يفصل عن القيم والحدس. أبوللو الحديث هو النظام الذي:

        •  يقيس كل شيء،

        •  يبرمج كل شيء،

        •  لكنه لا يجيب عن شيء.

إنه يسلب الحياة ارتجافها، وشكها، وشعرها. يجفف القلب باسم المعقول. والفن في عالمه يتحول إلى أداء قابل للتسويق، لا نافذة على الروح. ولذلك، يبدو أن هيمنة أبوللو اليوم هي الوجه الأكثر خداعا للخراب:

        •      فلا دمار صاخب كبروميثيوس،

        •      ولا سقوط مأساوي كفاوست،

        •      بل انسحاب بطيء للمعنى في ظل عالم يبدو “كاملاً”. لكن الكمال الظاهري يخفي شقوقا عميقة:

غياب التناقض يقتل الإبداع،

وقمع الغموض يخنق الإنسان،

وتماثل النظام يجهز على التعدد والاختلاف.

ولهذا، لا بد من استعادة القدرة على الشرود، على التأمل، على الانكسار. لأن الإنسان لا يبنى في الانسجام وحده، بل في صراعه مع المعنى. كما قال جلال الدين الرومي: "كن كالقمر، لا تضيء بنورك وحدك، بل بانعكاس ما فيك من نور الآخر".

 

لحظة الخراب الكوني – حين تلتهم النار حاملها، ويبتلع النظام صانعه

 

في اللحظة الحضارية التي نعيشها، تتجلى الأساطير الكبرى لا كحكايات ماضية، بل كمرآة ناصعة لحاضر مضطرب.

        •  بروميثيوس وهب النار، فتحولت إلى سلاح يحرق الأبرياء.

        •  فاوست باع روحه للمعرفة، فصار رمز التيه والفراغ.

        • أبوللو نظم العالم، فخنقه بالتماثل والتشابه والبرود.

هؤلاء الثلاثة، رموز الحداثة في وجوهها المختلفة، اجتمعوا في مأساة الإنسان الحديث: قوي لكنه هش، عارف لكنه تائه، محاط بالنور لكنه يعيش في ظلال القلق والفراغ. لقد بلغ الإنسان ذروة السيطرة على الطبيعة والآلة والفضاء… لكنه فقد السيطرة على ذاته. وانهار توازنه الروحي والأخلاقي. فالنار التي وهبت له تحوّلت إلى قذائف، والعلم إلى صفقة، والجمال إلى قيد ذهني. النظام الذي حلم به كخلاص، ابتلعه كوحش.

وفي ظل الحروب المتواصلة، والانهيار البيئي، والتفكك الاجتماعي، تتكثف لحظة الخراب الكوني:

        •  حين تصبح القوة بلا مسؤولية.

        •  والمعرفة بلا حكمة.

        •  والجمال بلا عمق.

وماذا بعد الخراب؟ – ملامح الطريق البديل

ربما لا يكفي أن نرفض الأساطير التي صنعت مأزق الإنسان الحديث.

بل علينا أن نعيد تأويلها، لا لنبعثها، بل لنفهم أنفسنا من خلالها، ونصوغ رؤية لحضارة جديدة:

•  أن نردّ نار بروميثيوس إلى نور داخلي، لا يحرق بل ينير.

•  أن نعيد فاوست من غواية السيطرة إلى درب الحكمة والتواضع.

• أن  نفكك نظام أبوللو الجمالي–العقلاني حين يتحول إلى قيد على الخيال والاختلاف.

فالبديل ليس تكنولوجيا موازية، بل نقلة روحية ومعرفية، تبدأ من سؤال بسيط وعميق:

ما المعرفة التي نريد؟ ولمن؟ وبأي روح؟

حين تعود المعرفة لتكون فعل محبة، وعندما يضبط العقل بالبصيرة، يمكن حينها:

 •  أن يشفى الإنسان من قلقه الوجودي.

•  وأن تستعاد الأخلاق بوصفها جوهر التقدم.

•  وأن تبنى حضارة لا تقدّس الإنجاز بل تكرم الحياة.

غزة وإيران: من الأسطورة إلى الجبهة

وإذا كانت الأسطورة مرآة، فإن الواقع اليوم يعيد تمثيلها بدماء حية وصور دامغة، في مواقع لم تعد رمزية فحسب، بل ميدانية. ففي قلب هذا المسار، تظهر غزة وإيران لا كأزمات أمنية أو سياسية، بل كنقطتين لمقاومة حضارية تكشفان هشاشة المشروع الحداثي حين ينفصل عن القيمة.

• قطاع غزة، المحاصر بالنار والجوع، والمقذوف بذكاء اصطناعي قاتل، ليس فقط مجازا للضحية، بل نموذجا للثبات القيمي، ومرآة للعالم الحديث وقد انكشفت روحه المنزوعة.

 • وإيران، بكل ما تمثله من استقلال معرفي وسيادي، تفضح الرعب الكامن في عقل الهيمنة: ليس فقط من امتلاك “الآخر” للمعرفة، بل من قدرته على إنتاج سردية لا تختزل في السوق ولا في القنبلة.

ومن هنا، لا يمكن أن يولد مشروع حضاري بديل دون المرور من هذه الجبهات: حيث تتحول المأساة إلى صمود، والمعرفة إلى تحد للهيمنة. إن البديل لا يصاغ في العواصم المترفة، بل يولد من رماد المدن المحاصرة.

أسئلة ما بعد الخراب

هذا المقال لا يغلق دائرة، بل يفتح أبوابا لأسئلة جوهرية:

        •      كيف نربي أبناءنا في عالم يتقدّم بلا بوصلة؟

        •      كيف نبدع فنا لا يخضع لمعايير أبوللو السوقية؟

        •      كيف ننتج معرفة لا تشتريها السلطة، ولا تديرها السوق؟

        •      كيف نعود إلى الله، لا عبر وسطاء يبيعون الإيمان، بل عبر قلوب حرة؟

إن البديل الحقيقي لا يكمن في معاداة الحداثة، بل في ترميم معناها: في أن نعيد للمعرفة بعدها الأخلاقي، وللحرية ميثاقها الروحي، وللإنسان محوره القيمي. وذلك وحده ما يمكن أن يحميه من التشييء، ويحمي العالم من الحريق.

وفي زمن النيران التي لا تتوقف - من غزة إلى إيران، ومن الأساطير إلى السياسة - يبقى الطريق الوحيد هو:

أن نعرف، لا لنهيمن، بل لنشهد. وأن نحيا، لا لنمتلك، بل لنحمي الحياة.

 

مشاركة: