من اللحظة إلى البنية
في عالم يشتد فيه اختناق الجغرافيا وتضطرب فيه خرائط الولاء والصراع، لم يعد من المجدي الاكتفاء بتحليل اللحظات الطارئة أو مواقف الدول المتغيرة، بقدر ما بات من الضروري إعادة النظر في البنى العميقة التي تنتج هذه المواقف، وتعيد تشكيل سلوك الفاعلين، وتحسم موقع الشعوب من معادلة الفعل.
لقد أطلقت الحرب الإسرائيلية–الغربية المستمرة على غزة، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ 2023، طوفانا من الأسئلة الكبرى، التي تجاوزت الأسى الإنساني الهائل إلى مساءلة المعنى: ما طبيعة الصراع؟
من يملك القدرة على التأثير؟
من يصوغ المفهوم؟
ومن يملك مشروعا بديلا لما هو قائم؟
هذه الحرب ليست فقط على فلسطين، بل على الإقليم برمّته، على تاريخه، وهويته، وذاكرته الحضارية. ومع تصاعد تنازع الفواعل الإقليمية والدولية على “المجال العربي”، من إيران وتركيا إلى القوى الكردية، مرورا بالحضور الغربي المهيمن، بات واضحا أن المأزق لم يعد فقط في موازين القوة، بل في غياب المشروع التحرري البديل.
ومن هنا، فإن هذا المقال لا يهدف إلى اصطفاف لحظي أو تسويغ سياسي، بل إلى تفكيك البُنى الحاكمة لمسار الصراع، وتشخيص أوجه الانكشاف، واختبار إمكان بناء مشروع تحرري إقليمي جديد، يكون فيه الشعب لا النظام، وفلسطين لا الحدود، والمعنى لا الاصطفاف، هي البوصلة
1. طوفان الأقصى كلحظة كاشفة ومؤسسة
لم يكن السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ 2023 مجرد لحظة عسكرية صادمة أو عملية مقاومة غير مسبوقة، بل شكل بداية تحول نوعي في الوعي الجمعي العربي والإسلامي والعالمي تجاه طبيعة الصراع في فلسطين، ووضع المنطقة أمام مرآة كاشفة لحقيقة موازين القوى، وتناقض الخطابات، وانكشاف الذات.
لقد فجّرت غزة، من خلال عملية “طوفان الأقصى”، لحظة معرفية - حضارية، أعادت تعريف الصراع لا بوصفه مواجهة على الأرض فقط، بل بوصفه صراعا على المعنى. فقد انهارت فجأة سرديات رسمية تراكمت لعقود، وتهاوت أوهام “التسوية” و” السلام” و” التطبيع”، وكشف زيف حياد المؤسسات الدولية. لكن الأهم، أن هذه اللحظة زلزلت البنى الداخلية لكل فاعل في الإقليم: من إيران إلى تركيا، من المشرق إلى الخليج، من الكرد إلى العرب، من الشعوب إلى النخب.
في هذه اللحظة المفصلية، ظهر بوضوح أن ما يجري لم يعد مجرد جولة صراع بين مقاومة محاصرة وقوة احتلال، بل مواجهة كبرى على هوية الإقليم، على خرائطه الثقافية، وعلى مستقبل وجوده السياسي كوحدة تاريخية. إذ بات واضحا أن من يملك المبادرة في المعنى، يملك أداة الفعل، وأن من يراوح بين الرد والانفعال، سيظل سجين بنى خارجية تفرض عليه موقعه وحدوده.
بهذا المعنى، فإن طوفان الأقصى لم يكن فقط صدمة، بل محطة تأسيسية لإعادة طرح السؤال الجذري:
ليس “مع من نقف؟” فحسب، بل “كيف نعيد بناء الذات والسيادة والحيز الحضاري؟”
2. فلسطين كمركز للاختبار الحضاري
لم تعد فلسطين مجرد “قضية”، أو ملفا قابلا للمساومة في صفقات إقليمية ودولية، بل باتت اليوم مرآة كاشفة لكل المشاريع المتنازعة على الإقليم، ومعيارا أخلاقيا وسياسيا وحضاريا لأي تصور بديل للمنطقة. فقد كشفت الحرب على غزة أن الموقف من فلسطين لم يعد مسألة تضامن أو سياسة خارجية، بل هو اختبار للانتماء الحضاري، وللموقع من منظومة الهيمنة.
في قلب الخراب العربي، حافظت فلسطين على موقعها كبوصلة للمعنى. فهي لا تمثل فقط قضية عدالة مسلوبة أو حقوقا مغتصبة، بل تختزن في داخلها سؤالا أوسع: كيف يمكن تحرير الإقليم بأكمله من البنى التي أنتجت إسرائيل، وأدامت التجزئة، وأعادت إنتاج التبعية؟
ولهذا، لا معنى لأي مشروع سياسي أو ثقافي أو ديني أو قومي في الإقليم لا يجعل من فلسطين معيارا بنيويا، لا ملحقا خطابيا.
لقد تحولت فلسطين إلى لحظة وعي جماعي عابرة للحدود، تجمع ما فرقته السياسات، وتوحد ما قسمته الجغرافيا. بل إن المقاومة الفلسطينية، رغم الحصار والخذلان، باتت اليوم تمثل إحدى أكثر أشكال الفعل السيادي صدقا وفعالية، مقارنة بمنظومات السلطة المنهارة أو المتواطئة في عموم الإقليم.
ومن هنا، فإن فلسطين لم تعد فقط “قضية العرب الأولى”، بل هي محك لأي مشروع تحرري حقيقي، ومعيار يميز بين الخطاب التحرري والتموضع الوظيفي، وبين الانتماء للأمة والانخراط في أدوات تفكيكها.
3. الإقليم كوحدة حضارية: من التماسك إلى التفكك
قبل أن يجزأ الإقليم العربي–الإسلامي إلى كيانات قومية ودويلات طائفية، كان مجالا حضاريا موحدا، تتقاطع فيه اللغات والأعراق والمذاهب ضمن وحدة رمزية جامعة، عمادها الإسلام كمرجعية حضارية، لا كهوية مذهبية إقصائية.
منذ الفتح الإسلامي في القرن السابع، وحتى ما قبل قرن من الزمن، لم يكن هذا الإقليم مجرد تجمع قوميات ودول، بل حيزا تفاعليا، تعايشت فيه المكونات العربية والفارسية والتركية والكردية، إلى جانب الأقليات الدينية واللغوية، ضمن إطار حضاري واحد، أتاح تنوعا ضمن وحدة، لا صراعا ضمن شتات.
في هذا السياق، لعبت العواصم الكبرى دورا مركزيا في قيادة المشروع الحضاري المشترك: من مكة والمدينة، إلى دمشق وبغداد والقاهرة وفاس وقرطبة وإسطنبول.
هذه المدن لم تكن فقط مراكز حكم، بل كانت محاور إشعاع معرفي وروحي، تعيد إنتاج الذاكرة الجماعية وتوجه الأمة في مواجهة العالم.
غير أن لحظة الانكسار الكبرى لم تأتِ من الداخل وحده، بل تجسدت بشكل صريح مع دخول الاستعمار الغربي الحديث إلى الإقليم، لا كقوة عسكرية فحسب، بل كحامل لمنظومة معرفية–قيمية مضادة.
كانت حملة نابليون على مصر عام 1798 بداية التصدع، لكن التحول الحاسم وقع في منتصف القرن التاسع عشر، مع ما عرف بـ” مؤتمر لندن 1840”، الذي دشن مرحلة الهيمنة المنظمة على المنطقة، وتقاسم النفوذ، واحتواء القوى المحلية.
تجلى هذا التمزق لاحقا باتفاقيات مثل سايكس–بيكو (1916)، ووعد بلفور (1917)، فتم تفكيك السلطنة العثمانية، وزرع الكيان الصهيوني في قلب فلسطين، وتحويل الإقليم إلى فسيفساء من الكيانات الضعيفة والتابعة.
لم يكن الغرض فقط السيطرة على الموارد أو المواقع، بل تفكيك المجال الرمزي- الحضاري الذي كان يضمن للإقليم مناعته الذاتية.
وهكذا، تحول ما كان وحدة حضارية حية، إلى خريطة سياسية هشة، يتصارع فيها الفاعلون الجدد على سلطة بلا مشروع، وعلى هوية بلا جامع، وعلى مستقبل بلا ذاكرة.
4. “إسرائيل” كنقطة اختراق وظيفية وبنية استعمارية
لم تؤسّس “إسرائيل” كدولة طبيعية نتجت عن تطور داخلي لشعب على أرضه، بل كأداة استعمارية–استيطانية، وظيفتها تفكيك ما تبقى من البنية الحضارية للإقليم، وضمان إعادة تشكيله وفق منطق التفوق الغربي.
منذ وعد بلفور، كانت المهمة المركزية للمشروع الصهيوني هي زعزعة المجال العربي - الإسلامي، ليس فقط عبر الاحتلال، بل بإحداث انقطاع معرفي وثقافي وجغرافي في قلبه.
لقد تحولت “إسرائيل”، منذ إعلانها في عام 1948، من قاعدة استعمارية متقدمة إلى مركز في منظومة الهيمنة الغربية -الصهيونية. ووظيفتها الأساسية:
• منع قيام تكتل إقليمي مستقل،
• ضمان تفوق عسكري وأمني دائم،
• شرعنة التدخل الغربي باسم “الاستقرار”،
• تحويل الصراع من مواجهة بين أمة ومحتل، إلى نزاعات داخلية بين كيانات منهكة.
بعد نكسة عام 1967، تصاعد هذا الدور، ولم تعد “إسرائيل” فقط طرفا في صراع عسكري، بل عقلا أمنيا ومعرفيا في النظام الإقليمي: تصدر التكنولوجيا، وتدير التحالفات، وتعيد تعريف “العدو” وفق المصالح الغربية، لا وفق الحقوق التاريخية للشعوب.
اليوم، تشكل “إسرائيل” رأس الحربة في نظام هيمنة متعدد المستويات:
• من الاختراق الاستخباراتي،
• إلى التحالفات الأمنية مع دول الخليج،
• إلى الترويج لنموذج “التقدم” في ظل الاستيطان،
• إلى تصدير أدوات الرقابة الرقمية والقمع.
وما “اتفاقيات أبراهام” إلا تتويج لهذا المسار. إذ لم تعد “إسرائيل” مجرد واقع مفروض، بل أعيد دمجها في جسد المنطقة كفاعل “مشروع”، في حين جرى شيطنة كل محاولة تحررية، ووصم المقاومة بالإرهاب، وتجريم الشعوب حين تصرخ في وجه المجازر.
وهكذا، لم تعد “إسرائيل” فقط تحديا سياسيا، بل رمزا لانكسار المعنى، ونقطة تكثف لكل اختلالات الحداثة الغربية عندما تفرض بالقوة على الشرق، وتصنف الجلاد حاميا، والضحية خطرا.
5. تفكيك البنية الحضارية: من “الأمة” إلى “الطائفة”
لم يكن هدف المشروع الاستعماري الغربي - الصهيوني مجرد تقطيع أوصال الجغرافيا، بل تفكيك المفهوم المركزي الذي شكل روح الإقليم لقرون: مفهوم “الأمة”.
هذا المفهوم، الذي جمع العرب والفرس والترك والأكراد والمكونات اليهودية والمسيحية والمسلمة ضمن إطار حضاري مشترك، تحول إلى تهديد في نظر القوى المهيمنة، لأنه ينتج وحدة في التنوع، وقوة تتجاوز القومية الضيقة والطائفة المغلقة. من هنا، جرى تفكيك مفهوم الأمة على مستويين متوازيين:
1. خارجيا: عبر فرض كيانات قطرية تعرف نفسها بوصفها نقيضا لجيرانها، لا امتدادا لحضارة موحدة.
2. داخليا: عبر تسييس الفروقات الدينية والمذهبية والإثنية، وتحويلها إلى خطوط تماس قابلة للتفجير في أي لحظة.
هكذا، لم يعد التنوع مصدر غنى، بل أداة لتفكيك الداخل وضرب كل إمكانية لتشكيل جبهة تحررية موحدة.
صارت الطائفة مرجعية، والقومية حدودا للوعي، والمذهب أداة اصطفاف.
وتمت شيطنة مفاهيم مثل الوحدة، والعدالة الجامعة، والتحرر المشترك، باسم “الخصوصية”، و” السيادة”، و” الواقعية السياسية”.
والنتيجة: تفتت الذات، وتآكل الحس الحضاري، وغياب أي مشروع جامع.
بات كل طرف يعرف ذاته ضد الآخر، لا معه، وتحولت دول الإقليم إلى أدوات متصارعة في خدمة مراكز القرار العالمية، لا فاعلين مستقلين في تحديد مصيرهم.
هذه الهندسة الطائفية - القطرية ليست عارضا عابرا، بل بنية دائمة يعاد إنتاجها عبر الإعلام، والتعليم، والدين المسيس، والعلاقات الدولية.
ومع كل موجة صراع، يتكرس هذا التشظي أكثر: فالعراقي ضد الإيراني، والسوري ضد التركي، والسني ضد الشيعي، والكردي ضد العربي، والشعوب ضد نفسها.
ولم يكن تفكيك المفهوم الحضاري للأمة ممكنا لولا التواطؤ البنيوي بين قوى الخارج ونخب الداخل، التي أعادت إنتاج التبعية عبر تحالفات ريعية طائفية.
لقد تماهت نخب سياسية واقتصادية مع منطق السيطرة، فتحولت إلى وكلاء محليين لدوائر الهيمنة، وعمدت إلى تفريغ الدولة من مضمونها الاجتماعي، واستبدال مبدأ المواطنة بعلاقات الزبائنية والمحاصصة.
هكذا، تعمق الانقسام المجتمعي، وتآكلت شرعية الدولة، وغاب التوازن بين السلطة والثروة، لتغدو الدولة أداة قهر بدل أن تكون أداة تحرير.
إن تفكيك هذه البنية ليس مسألة خطابية أو رومانسية، بل هو شرط وجودي لاستعادة أي قدرة على المبادرة الحضارية، وأي أفق لبناء مشروع تحرري بديل.
فالتحرر لا يبدأ من السلاح فقط، بل من إعادة تعريف الذات كجزء من “أمة حية”، لا كذرات معلقة في فراغ الطائفة أو القطر أو الجماعة المغلقة
6. الفاعلون الإقليميون: مشاريع متعددة وغياب البديل
في ظل هذا التفكك البنيوي، برزت على الساحة الإقليمية قوى متنوعة، كل يسعى لملء الفراغ السياسي والرمزي الذي خلفته البنية الحضارية السابقة. من إيران إلى تركيا، ومن الحركات الكردية إلى الأنظمة العربية، تحاول هذه القوى إعادة تعريف مواقعها في النظام العالمي، من خلال مشاريع سياسية–عقائدية، أمنية، واقتصادية مختلفة.
ورغم تصدر بعض قوى المقاومة، وفي مقدمتها حركات فلسطينية ولبنانية، لمشهد المواجهة، فإن التحدي الأكبر يبقى في الانتقال من منطق الرد إلى بلورة مشروع تحرري جامع.
إن المقاومة، في هذه اللحظة المفصلية، مدعوة لتجاوز التموضع المحوري–الإقليمي، وإعادة تعريف ذاتها بوصفها التعبير الأصدق عن إرادة الشعوب، لا عن اصطفاف الأنظمة.
فشرعية المقاومة لا تختزل في السلاح، بل في قدرتها على إنتاج سردية جامعة، تجسد الكرامة الجماعية، وتؤسس لحيز سياسي تحرري بديل.
وتتجلى المآخذ الجوهرية على هذه المشاريع الإقليمية في ما يلي:
• رغم تعددها وتباينها، فإنها لم تنجز مشروعا تحرريا جامعا قادرا على استعادة التوازن في الإقليم، أو بناء بديل بنيوي يعيد صياغة الهوية والسيادة.
• أغلب هذه المشاريع لا تتجاوز منطق “الرد” والمواجهة الجزئية، ولا تتصل برؤية تحويلية تخرج الإقليم من دوّامة الانقسام والتبعية.
• كثير منها يقع في فخ إعادة إنتاج أدوات الهيمنة الغربية، سواء عبر الاقتصاد الريعي، أو العصبية الإثنية–المذهبية، أو شرعية القوة بدلا من شرعية العقد الاجتماعي.
وفي قراءة معمّقة للتجربتين الإيرانية والتركية، نلحظ محاولات متعددة لبناء الدولة الحديثة في ظل تراجع السلطنة العثمانية وتحولات القرن العشرين.
لكنّ هذين المشروعين، رغم اختلافاتهما، ما يزالان أسيرين لبنى قديمة، حيث تبقى الدولة القومية، والدين السياسي، والإثنية، أدوات رئيسية في إدارة السلطة، أكثر من كونها أدوات للتحرر.
وعلى صعيد جديد، يغيب في كثير من هذه المشاريع إدراك طبيعة الهيمنة الحديثة، التي تتجاوز الاحتلال المباشر.
فاليوم، تدار السيطرة من خلال العولمة الرقمية، واحتكار المعرفة والتكنولوجيا، وهيمنة رأس المال العالمي. ما يجعل “التمرد” السياسي–العسكري وحده غير كاف، بل ربما غير ملائم، في ظل غياب السيادة الرقمية والاقتصادية.
وتظهر تجارب الفاعلين الإقليميين أيضا أن التحولات اللحظية في التحالفات والمواقف – مثل تغيّر مواقف إيران وتركيا تجاه النزاعات المختلفة – هي انعكاس لغياب رؤية استراتيجية عميقة، وغالبا ما تنعكس على السطح دون معالجة جذرية.
ويبقى السؤال المفتوح:
هل يمكن لإحدى هذه القوى، أو عبر تحالفات جديدة، أن تتجاوز منطق التفاوض على موقع داخل النظام العالمي، إلى بناء مشروع تحرري حضاري شامل، يعيد للشعوب سيادتها، ويعيد صياغة معنى الأمة والتاريخ؟
7. إيران: بين مشروع الاستنهاض والسلطة المذهبية
منذ ثورة عام 1979، برزت إيران كنموذج فريد في الإقليم، مقدمة نفسها كمشروع تحرري وممانع ضد الهيمنة الإمبريالية الغربية. سعت إلى استنهاض الهوية الإسلامية والوطنية، ووضعت دعم حركات المقاومة في فلسطين ولبنان في قلب سياستها، ما منحها شرعية واسعة في الشارع العربي المقاوم.
مع ذلك، تلاحظ أن بنيتها السياسية تقوم على أساس مذهبي صلب، يحكم مشروعها ويحد من إمكانية تجاوزه لأفق الطائفية. فهي تدعم أنظمة وميليشيات موالية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ما يعكس - في كثير من الأحيان - منطق هيمنة جديدا، لا تحررا شاملا.
ومثال ذلك دعمها لحزب الله، الذي شكل توازن ردع فعالا ضد إسرائيل، لكنه ساهم في تعميق الانقسامات اللبنانية، وأثار اتهامات بتقييد السيادة الوطنية. الأمر نفسه تكرر في العراق وسوريا، مع تآكل الثقة الشعبية وتصاعد احتجاجات تطالب بخروج جميع القوى الأجنبية.
وعلى الرغم من نجاح إيران في استعادة بعض النفوذ الإقليمي، فإنها ما زالت تتردد بين التفاوض على موقع داخل النظام العالمي، ومحاولة بناء نموذج بديل، ما يطرح تساؤلات جدية عن مدى عمق مشروعها الحضاري: - هل هو امتداد لوعي ثوري؟
- أم إعادة إنتاج لعلاقات سلطة قائمة على العصبية الطائفية؟
يضاف إلى ذلك أن إيران تواجه أزمات داخلية عميقة – سياسية، واقتصادية، واجتماعية - أثرت في قدرتها على قيادة تحولات إقليمية بنيوية، وجعلتها عرضة للحصار والعقوبات، ما يزيد من مأزقها في معادلة التحرر والهيمنة.
إن فهم هذه الثنائية بين المشروع التحرري والمأزق المذهبي أمر أساسي لفهم مآلات الصراع الإقليمي، وللتمييز بين من يدفع نحو استعادة السيادة الوطنية الجامعة، ومن يعيد إنتاج نماذج محلية من الهيمنة والتقسيم
8. تركيا: من العمق الاستراتيجي إلى الانكشاف البنيوي
خلال عهد حزب العدالة والتنمية، حاولت تركيا تقديم نموذج إقليمي مختلف، يعيد وصلها بالعالم العربي من خلال خطاب “العدالة الإسلامية” و” العثمانية الجديدة”. انخرطت أنقرة في دعم ثورات “الربيع العربي”، خصوصا في مصر وسوريا وليبيا، وسعت للعب دور محوري في إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية. لكن هذا المشروع واجه تحديات كبيرة، أبرزها الانقلاب المصري عام 2013، وتحول الأزمة السورية إلى ساحة تصادم دولي متعدد الأطراف، ما دفع تركيا إلى البحث عن توازنات جديدة، مع روسيا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. وقد كشفت هذه التحولات عن حدود القدرات الاستراتيجية التركية، خصوصا في ظل عضويتها في حلف الأطلسي. وأظهر هشاشة خطابها السياسي حين يصطدم بحسابات الجغرافيا والمصالح.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تعاني تركيا من أزمات خانقة، ناجمة عن ارتباط بنيتها الاقتصادية بالأسواق الغربية، مما قلل من هامش المناورة السياسية والاقتصادية للحكومة التركية، وأثر على قدرتها على قيادة مشروع تحرري مستقل.
كما أن تذبذب الموقف التركي من قضايا إقليمية حساسة - مثل حصار غزة وحرب الإبادة - بين دعم رمزي وغموض استراتيجي، يعكس هذا المأزق البنيوي: تركيا لا تستطيع المخاطرة بقطع علاقاتها مع الغرب، لكنها في الوقت ذاته تفتقر إلى القوة الكافية لقيادة بديل تحرري فعال ومستقل.
بهذا المعنى، تسير تركيا على حبل رفيع بين طموحات التحول والقيود البنيوية التي تحاصرها، وهو ما يجعل مشروعها الإقليمي هشا، وعرضة للانكشاف في مواجهة الأزمات المتلاحقة
9. الأكراد: شعب ممزق بين المشاريع
يشكل الأكراد أحد أقدم المكونات الحضارية في الإقليم، لكنهم ظلوا محرومين من كيان سياسي جامع ومستقل. يتمركز الأكراد في أربع دول رئيسية: تركيا، إيران، العراق، وسوريا، ويواجهون مشاريع تذويب أو تهميش أو استثمار وظيفي من قبل حكومات هذه الدول والقوى الخارجية. ورغم محاولاتهم المتعددة لبناء مشروع سياسي مستقل يعبر عن هويتهم وطموحاتهم، غالبا ما تم توظيف القضية الكردية كأداة في الصراعات الإقليمية والدولية. الدعم الخارجي، خصوصا من الولايات المتحدة وإسرائيل، جعل من المشروع الكردي عرضة للشكوك، إذ ينظر إليه أحيانا كأداة لإضعاف الدول المضيفة، لا كحركة تحرر وطني. تجربة “روج آفا” في شمال شرق سوريا، مثال بارز على هذا التعقيد. فرغم الطابع التقدمي لهذه التجربة التي ركزت على الديمقراطية المحلية والمساواة بين المكونات، بقيت محكومة بالدعم الأمريكي، مما وضعها في مواجهة مستمرة مع تركيا، النظام السوري، والفصائل العربية، وهو ما يعكس هشاشة وضع الأكراد. إن مأزق الأكراد ليس فقط في غياب كيان سياسي مستقل، بل في واقعهم كوقود للصراعات الإقليمية، يعانون من تشتت المشروع وغياب رؤية متماسكة تراعي خصوصياتهم، ضمن منطق المصالح الإقليمية والدولية، ما يفاقم من حالة الانقسام والتمزق.
فهم هذا الواقع ضروري لأي محاولة حقيقية لإعادة بناء الإقليم على أسس تحررية جامعة، تحترم التنوع ولا تستغله للانقسام، وتعيد صياغة الهوية بعيدا عن منطق الطائفة أو القومية الضيقة
10. العرب: من المركز الحضاري إلى الغياب السياسي
المشهد العربي اليوم هو الأكثر مأساوية في الإقليم. فقد تراجع الدور الذي كان العرب يمارسونه كقوة مركزية في تشكيل البنية الحضارية والسياسية، وتحولوا إلى ساحة مفتوحة لصراعات دولية وإقليمية، وأحيانا إلى موضوع للتدخل بدلا من كونهم فاعلين مستقلين في صنع المستقبل.
النخب العربية الحاكمة، التي كانت ذات يوم قادرة على بلورة مشاريع تحررية أو تقدمية، غابت عن المشهد الفاعل. انقسمت بين تبعيات مختلفة: بعضهم خاض تحالفات مع الغرب أو إيران، أو تركيا. وآخرون غرقوا في صراعات داخلية مدمرة استنزفت الموارد وفتحت المجال أمام قوى خارجية لتسيطر على القرار.
مثال ذلك هو الانقسام الحاد في المواقف العربية من طوفان الأقصى، حيث تقابل الدعم الميداني من بعض الفواعل الإقليمية مثل حزب الله والحوثيين وقوات الحشد الشعبي، مع صمت رسمي أو بيانات إعلامية عاجزة لدى دول أخرى، في حين كان هناك تواطؤ أو تقاعس من بعض الأطراف.
هذا الانقسام يكشف فجوة عميقة بين النخب الحاكمة ومزاج الشارع العربي، ويؤكد غياب رؤية مركزية جامعة قادرة على توحيد الصفوف، وبناء مشروع تحرري يعيد الاعتبار للعرب كبوصلة للتحرر والهوية.
في غياب هذه الرؤية، يبقى العرب عرضة للتفكك، ولا يمكن الحديث عن مستقبل الإقليم دون استعادة الفاعلية العربية الجامعة، التي تعتمد على استقلال القرار، وتقوية المؤسسات، والعقد الاجتماعي وتعزيز مشروع وطني حر وشامل
11. نظام الهيمنة الغربي–الصهيوني والتحديات العالمية الجديدة
مر الإقليم العربي - الإسلامي عبر مراحل مختلفة من الهيمنة الغربية، التي تطورت من استعمار كلاسيكي إلى نظام معاصر يتعامل مع السيطرة بآليات متقدمة ومتنوعة. فقد بدأ ذلك بالاحتلال العسكري المباشر، ثم فرض أنظمة تابعة، مرورا بهندسة المجال العام إعلاميا وثقافيا، ووصولا إلى أدوات العولمة الرقمية واحتكار التكنولوجيا الحديثة.
فمثلاً، المنصات الرقمية الكبرى مثل “X” و”Meta” و”Google” تلعب دورا مركزيا في مراقبة وتوجيه السردية العالمية، وتحجب المحتوى الفلسطيني الذي يكشف عن جرائم الاحتلال، ما يعكس فرض نموذج معرفي وقيمي يستهدف قلب الحقائق.
أما “إسرائيل” فليست مجرد كيان استيطاني، بل رأس حربة في هذا النظام، تقوم بدور مركزي في تفكيك المجال العربي، ومنع التكتل الإقليمي، وتأمين التفوق العسكري والتكنولوجي، وتسويق نموذج أمني–اقتصادي لدول المنطقة.
وتعزز “إسرائيل” تحالفاتها مع دول الخليج والمغرب، كما في “اتفاقات أبراهام”، مما يوضح انتقال الهيمنة من الاحتلال العسكري التقليدي إلى السيطرة الأمنية والرقمية والاقتصادية.
على الساحة الدولية، برزت قوى صاعدة مثل روسيا والصين، لكن رغم معارضتها للهيمنة الغربية، فإنهما لا تقدمان مشروعا تحرريا بديلا، بل تسعيان لإعادة توزيع المكاسب ضمن نفس النظام العالمي.
أما روسيا، فحضورها العسكري في سوريا وتحالفاتها الإقليمية مبنية على حسابات جيوسياسية، وليس رؤية تحررية. والصين تقدم نموذجا اقتصاديا متقدما عبر مبادرة “الحزام والطريق”، لكنها تحافظ على الحياد في قضايا مثل فلسطين.
هذه الديناميات الدولية تؤكد أن النظام العالمي ما يزال يهيمن عليه الغرب والصهيونية. وهو ما يجعل أي محاولة للتحرر مرتبطة بفهم عميق لبنية هذا النظام، وقدرة على تطوير أدوات السيادة الاقتصادية والتكنولوجية، وليس مجرد المقاومة العسكرية أو السياسية التقليدية
12. الحرب على غزة وإيران كدراسات حالة كاشفة لبنية الصراع وتحولاته
منذ اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر/ 2023، تحولت هذه الجغرافيا الصغيرة إلى مركز انكشاف حقيقي لبنية الصراع الإقليمي والدولي. فالمواجهة ليست مجرد نزاع حدودي، بل صراع حضاري على الحق والهوية، حيث تتقاطع فيها إرادة التحرر الشعبي الفلسطيني، المدعوم ذاتيا وغير النظامي من قوى مثل إيران وحزب الله، مع جهاز إبادة إسرائيلي مدعوم بالكامل من القوى الغربية المهيمنة.
في هذه المعركة، تكشفت ميوعة المواقف العربية الرسمية، بين الصمت أو المشاركة الفعلية في الحصار، وعجز المؤسسات الدولية عن وقف المجازر أو مساءلة الجلاد، مما جعل غزة مرآة للعالم تعكس الواقع المأساوي للهيمنة والظلم.
بالتوازي، برزت إيران كفاعل إقليمي رئيسي، داعمة للمقاومة سياسيا وتسليحيا، ومحركة أطراف “محور المقاومة” في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وهذا جعلها هدفا مباشرا لتحالف إسرائيلي- أمريكي غربي يسعى إلى تقويض قدرتها الاستراتيجية، كما ظهر في التصعيد الخطير في نيسان/أبريل/وتشرين الأول / أكتوبر/ 2024، وصولا إلى شن الهجوم الإسرائيلي في 13/ حزيران/ يونيو /2025 تطور إلى مواجهة عسكريه شامله بين اسرائيل وإيران، شاركت فيها الولايات المتحدة الأمريكية في 22/ حزيران / يونيو /بهجوم عسكري مباشر على المفاعلات النووية في ثلاثة مواقع إيرانية. (نطنز، فردو، أصفهان)، باستخدام قنابل ضخمة (مثل GBU‑57) وصواريخ مجنحة Tomahawk من الغواصات الأمريكية، وفي 23 / حزيران/يونيو/ أطلقت إيران 6 صواريخ على قاعدة “العديد” الأمريكية (قاعدة أُحديد) في قطر. وهددت بأنها ستغلق مضيق هرمز حال استمرار التصعيد. وفي 24/6/2025 قصفت اسرائيل إيران مجددا رغم إعلان الرئيس الأمريكي وقف إطلاق النار بموافقة الطرفين. هذا التصعيد المكثف جهّز المنطقة لاحتمال نشوب صراع طويل، لكن التدخلات الدبلوماسية الأميركية وغيرها ساهمت في تفادي حرب مفتوحة.
توضح هذه الحربان المتوازيتان على غزة وإيران أن نظام الهيمنة العالمي يرفض وجود أي سيادة غير مأذون بها، وأن كل من يتحدى هذا النظام يعاقب، سواء كان شعبا محاصرا أو دولة ممانعة.
كما تكشف مواقف الفاعلين العرب انقساما حادا بين الحذر الخليجي، الدعم الشعبي، والتوازنات التركية، مما يعكس هشاشة الموقف العربي ككتلة تاريخية غائبة عن تحديد مصير إقليمها.
تضع هذه الحالة السؤال المركزي: كيف يمكن تجاوز منطق الرد المفرغ من الفاعلية، إلى مشروع تحرري شامل يعيد بناء الذات والحيز والسيادة؟ فليس التحرر مجرد مقاومة أو ممانعة، بل بناء شامل يقود إلى مواجهة فعالة للنظام الهيمني
13. من الرد إلى بناء البديل التحرري
تبرز هذه القراءة العميقة للحظة التحول الإقليمي الراهنة ضرورة تجاوز منطق الرد اللحظي إلى بناء مشروع تحرري عربي-إسلامي جامع، يضع فلسطين في مركزه كبوصلة للحرية والعدالة.
فالتحدي لا يكمن في الانحياز إلى فاعل أو آخر، بل في:
- إعادة تأسيس الذات والحيز السياسي،
- وتحقيق السيادة في أبعادها الوطنية، والاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية.
يتطلب ذلك مشروعا تحرريا متكاملا، يخرج الإقليم من حالة التشظي والتبعية، ويعيد توحيد المكونات المختلفة - عربا، أكرادا، فرسا، أتراكا، ومكونات أخرى - ضمن رؤية حضارية مشتركة تحترم التنوع وتحتضنه.
كما يجب استثمار لحظة الانكشاف الأخلاقي لنظام الهيمنة الغربي–الصهيوني، الذي يظهر تناقضاته الواضحة بين القيم المعلنة والواقع القاسي، لتعبئة وعي شعوب الإقليم والعالم في مواجهة هذا النظام.
ينبغي أن يرتكز المشروع التحرري على:
- العدالة الاجتماعية،
- وبناء اقتصاد حر ومستقل،
- وسيادة معرفية وتقنية،
- وتعزيز المؤسسات الوطنية الفاعلة، بعيدا عن العصبيات القومية أو الطائفية التي كرست الانقسام.
وفي ظل تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، لا بد من صياغة استراتيجية تحررية ديناميكية، تجمع بين المقاومة الميدانية والسياسية، وتواكب التحولات العالمية، مستثمرة في أدوات السيادة الرقمية والتكنولوجية.
بهذا، يمكن للإقليم أن يتحول من ساحة صراع مستمرة إلى فضاء لتجديد حضاري شامل، يعيد الاعتبار للإنسان والكرامة والحرية، ويحقق الاستقلال الحقيقي.
وإذا كان هذا المقال يعيد تفكيك البنى وتشخيص المأزق، فإن المرحلة المقبلة تفرض علينا الانتقال من التشخيص إلى التأسيس. فالمطلوب اليوم ليس فقط فهم آليات الهيمنة، بل صياغة ملامح مشروع تحرري عربي–إسلامي جديد، يعيد بناء الذات والسيادة، ويضع الإنسان والعدالة والمعنى في مركز الفعل السياسي.
هذه الملامح ما تزال قيد التشكل، لكنها باتت ممكنة بفضل لحظات الكشف الكبرى التي فجّرتها غزة، وأزمات النخب، وانكشاف الغرب، وتصاعد وعي الشعوب.
نحو سردية تحررية جامعة: دعوة مفتوحة للمشاركة
إن كاتبي هذا المقال لا يدعيان الإحاطة الشاملة، ولا يزعمان امتلاك أجوبة نهائية على أسئلة ترتبط بمصير أمة بأسرها، بل يسعيان إلى فتح أفق التفكير الجماعي، وتحفيز العقل العربي- الإسلامي على إعادة بناء سرديته التحررية من قلب المأساة.
فالتحرر ليس منتجا جاهزا يستورد أو يفرض، بل هو مسار تاريخي تراكمي يبدأ بإعادة تعريف الذات، واستعادة المعنى، وبلورة مشروع يعبر عن الإرادة الحرة لشعوب الإقليم. وعليه، فإن المقال لا يغلق باب الحوار، بل يفتحه على مصراعيه.
وهي دعوة صريحة إلى المفكرين، والباحثين، والمثقفين، والعاملين في حقل الوعي والنضال، للمشاركة في تطوير سردية تحررية جامعة تتجاوز الأطر القطرية والقومية والطائفية، وتؤسس للبدء العملي في بناء البديل التحرري الذي طال انتظاره.
سردية لا تختزل في ردود أفعال أو اصطفافات ظرفية، بل تعبر عن رؤية حضارية متجددة، تنبع من الذات، وتنفتح على العالم، وتتقدم نحو المستقبل بشجاعة ووعي وكرامة.