الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   29 حزيران 2025

| | |
حين تشيّأت الروح: كيف أعادت الحداثة الغربية تشكيل الإنسان والعالم؟
غانية ملحيس

 مقدمة: من الهيمنة إلى يقظة المعنى: نقد مشروع الحداثة الغربية

في عالم تشيّأت فيه الروح، وتحوّل الإنسان إلى أداة في منظومة السوق، يبرز سؤال الوجود من جديد: كيف أعادت الحداثة الغربية تشكيل العالم والإنسان والمعنى؟

لسنا أمام أزمة سياسية عابرة أو مجرد خلل في ميزان القوى، بل أمام تحول تاريخي عميق أعاد صياغة العالم على أساس من الهيمنة المادية، وتفكيك الإنسان، وتجريد الحياة من غايتها الروحية والمعنوية. ذلك أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد نظام مختل، بل لحظة مفصلية في تاريخ المعنى نفسه: هل يبقى الإنسان تابعا لمنظومة مادية أفقها السوق، أم يبدأ في استعادة غايته الحرة؟

لقد فرضت الحداثة الغربية نفسها على العالم، لا بقوة السلاح وحدها، بل بقوة النموذج، حيث تحولت من مجرد منظومة سياسية واقتصادية إلى مرجعية كونية أعادت تعريف الإنسان، والمعنى، والزمن.  فجعلت من مركزها معيارا وحيدًا للتقدم، ومن لغتها وعقلها أداة لاحتكار المعرفة، ومن تاريخها قصة كونية تنفي ما عداها أو تهمشه.

وفي مقابل هذا التوحش الناعم، ووسط طوفان العولمة، وخرائط التفكيك، والانهيارات القيمية والسياسية، بدأت تتشكل إرهاصات يقظة حضارية جديدة.

يقظة لا تنطلق من مراكز القوى، بل من الهوامش: من غزة، من لبنان، من صنعاء، من إيران، من إفريقيا، من جنوب آسيا، وأمريكا اللاتينية، ومن أعماق الإنساني تقول: لم نخلق لنستهلك. ولم نبعث لنتماهى مع المركز. هناك معنى آخر، وهناك غاية أسمى.

هذه السلسلة- بأجزائها الأربعة ليست بحثا تحليليا فقط، ولا بيانا سياسيا عابرا. بل مدخل تأسيسي للإسهام في بلورة مشروع تحرري حضاري جامع، ما يزال قيد التطوير والإنضاج والمشاركة الجماعية وتتوزع على النحو التالي:

الجزء الأول: من الرؤية إلى الفعل - استعمار الشمال قبل الجنوب وبناء النموذج الكوني للهيمنة

الجزء الثاني: تفكيك الحوامل الحضارية في الجنوب العالمي

الجزء الثالث: وحدة الغرب في مواجهة الشرق الإسلامي - تشكل التحالف الغربي

الجزء الرابع: يقظة الشرق واستعادة المعنى - بوادر الانفكاك ومقدمات البديل

وسيتم نشرها تباعا خلال الأيام المقبلة لفتح نقاش تفاعلي حول أسئلة التحرر الحضاري والبديل الممكن. لفهم مسار هذه الهيمنة ومرتكزاتها، نبدأ في هذا الجزء الأول بتتبع لحظة التأسيس الحداثي، وتشكل النموذج الغربي بوصفه مشروعا كونيا لإعادة تشكيل العالم.

إننا نفتح، عبر هذا المدخل، أفقا فكريا مفتوحا أمام المفكرين، والمثقفين، والباحثين، والناشطين، وكل من يشعر بالمسؤولية تجاه ما آل إليه العالم، للمشاركة في بلورة هذا المشروع البديل: نقدا، وتفكيكا، وإثراء، وبناء. فالمعركة اليوم لم تعد بين أنظمة سياسية، بل بين رؤى كونية للإنسان والكون والغاية.

الحداثة الغربية بين التأسيس المادي والارتداد الأخلاقي

يشهد العالم اليوم اضطرابا غير مسبوق، لا يقتصر على التوترات الجيوسياسية أو الأزمات الاقتصادية، بل يتجاوزها إلى اختلال عميق في البنية الكونية للنظام العالمي الحديث. هذا الاضطراب لا ينبع فقط من التفكك المتسارع داخل المركز الغربي نفسه، بل أيضا من يقظة بطيئة ومركبة في أطراف النظام، حيث بدأت قوى حضارية غير غربية تنهض من ركام التفكيك والتبعية، باحثة عن استعادة المعنى والدور والغاية.

لحظة التأسيس الكولونيالي للحداثة

لفهم عمق اللحظة الراهنة، لا بد من العودة إلى لحظة التأسيس الأولى لهذا النظام الكوني، لم تكن الحداثة ثمرة تطور عقلاني، بل نتيجة تلاقٍ عنيف بين القوة، والعقيدة، والرأسمال

كان القرن الخامس عشر الميلادي نقطة انعطاف مفصلية في مسار البشرية، حين اجتمعت تحولات كبرى مهدت لنشوء الحداثة الغربية كمشروع كوني هيمني:

•      سقوط الأندلس (1492) أنهى تجربة التعدد الحضاري في أوروبا الإسلامية، وأطلق ديناميكية عنيفة من التوحيد القسري والتطهير العرقي والديني، لتدشين هوية أوروبية “نقية”.

•      الكشوف الجغرافية والاستيطان الكولونيالي فتحا الباب لغزو العالم وتحويله إلى غنيمة كونية، من الأمريكيتين إلى إفريقيا وآسيا، عبر بنية استعمارية حوّلت الشعوب والأرض إلى موارد.

•      انقلاب مارتن لوثر على الكنيسة (1517) حرر الفرد من سلطة الكنيسة، لكنه مهد لتحوله إلى فرد معزول، مهووس بالخلاص الذاتي دون غاية جماعية.

•      ظهور الرأسمالية الحديثة كنظام إنتاجي وفكري، حوّل الزمن إلى أداة للربح، والإنسان إلى عامل، والتاريخ إلى خط صاعد لا يرى سوى التراكم.

هكذا، لم تكن الحداثة مشروعا عقلانيا محايدا، بل انقلابا جذريا على منظومة كونية كانت توازن بين العقل والروح، الفرد والجماعة، الطبيعة والغاية. وكما أوضح مقال سابق بعنوان “حين تستفيق الأسطورة في قلب الحداثة” (22/6/2025)، فإن الحداثة سعت منذ نشأتها إلى تفكيك المعنى، وتشييء الوجود، وتعميم نموذج واحد للإنسان والزمن والتاريخ.

تفكك من الداخل: ارتداد الحداثة على ذاتها

حين بلغت هذه المنظومة ذروتها، بدأت تتصدع من داخلها، وظهرت مؤشرات الانهيار في:

        •      أزمة أخلاقية في قلب الليبرالية.

        •      أزمة هوية في أوروبا.

        •      انكشاف زيف الديمقراطية الغربية.

        •      تفجّر التفاوت الطبقي والعنصري.

        •      عودة أسئلة المعنى والغاية، لا من داخل الدين فحسب، بل من الفراغ الوجودي الذي ولدته الحداثة المادية نفسها.

إرهاصات يقظة شرقية

في المقابل، بدأت تلوح بوادر يقظة حضارية شرقية، تشير إلى بداية عصر جديد لم تتضح معالمه بعد، لكنه يسعى لاستعادة التوازن بين المادة والروح، القوة والمعنى، الإنسان والتاريخ:

•      في غزة، تتجلى المقاومة كفعل وجودي يتحدى منطق الإبادة ويستعيد الإنسان.

•      في إيران، يتبلور مشروع سيادي رافض للتبعية.

•      في اليمن وجنوب آسيا، نشهد تمردا على منظومة الهيمنة الغربية.

•      في روسيا، تحاول الأرثوذكسية بلورة درع حضاري ضد التفكك.

•      في إفريقيا، تنهض الشعوب من عباءة الاستعمار الجديد.

•      وفي الإسلام، تلوح بوادر مشروع تحرري يرفض اختزال الدين في الطقوس والاستهلاك. فكيف يمكن للإسلام -كإطار حضاري وليس فقط دينيا- أن يسهم في بلورة بديل كوني، خصوصا أنه صاحب ذاكرة حضارية كونية قائمة على التعدد والمعنى. لسنا أمام مجرد صراع نفوذ أو مصالح، بل أمام مفترق وجودي بين:

•      مشروع يسعى لإنهاء التاريخ وفق شروط السوق والقوة. 

•      وإرادة جنوبية وشرقية تستعيد الكلية، هذه الجغرافيات المنهوبة لا تبحث عن موطئ قدم في السوق، بل عن استعادة المعنى والكرامة بوصفهما حقا إنسانيا مقدسا.

الرؤية الكونية الغربية: من العقلانية إلى الهيمنة

لم يكن صعود الغرب مجرد تقدم تقني أو علمي، بل كان مشروعا كونيا يسعى إلى إعادة تعريف الإنسان والتاريخ وفق رؤية مادية مغلقة تقصي الروح وتخضع المعنى للمنفعة. مع مرور الوقت، تحولت هذه الرؤية من ادعاء العقلانية إلى منظومة هيمنة شاملة، تقوم على تفكيك كل ما هو متماسك وإعادة تشكيله بما يخدم السوق والسيطرة. إن مشروع الحداثة الغربية تشوه القيم التأسيسية في التنوير التي روجها، فانقلب من تحرير الإنسان إلى تشييئه.

الإنسان الحديث بين الذات والوظيفة: من الغاية إلى الأداة

تحول العقل الغربي من عقل فلسفي يبحث عن الغايات، إلى عقل أداتي يقيس الأشياء بمدى نفعها. فتمت إعادة تعريف:

•      الإنسان → وحدة إنتاج واستهلاك.

•      الطبيعة → موارد قابلة للاستغلال.

•      التاريخ → خط صاعد نحو التراكم.

•      المعرفة → أداة للتحكم والسيطرة.

•      الدين → طقوس منزوعة السياسة والمعنى الجماعي.

من الكونية إلى الأحادية

طرحت الحداثة الغربية نفسها كتعبير أرقى عن “الإنسان”، لكنها سرعان ما اختزلت هذا الإنسان في صيغة مادية: الفرد الحر، المتملك، المنفصل عن المقدس والتاريخ. وأصبح أي تصور آخر يعد تهديدا أو تخلفا. هكذا تأسس نظام الهيمنة المادية على:

•      تعميم النموذج الغربي كمرجعية نهائية.

•      تفكيك الهويات الجماعية.

•      استخدام المعرفة كأداة سيطرة.

•      تحويل الزمن إلى منتج استهلاكي.

•      تفريغ المقدس من طاقته الحضارية.

النيوليبرالية كدين العصر

تمثل النيوليبرالية التعبير الأقصى عن روح الحداثة المتأخرة؛ فهي لم تعد سياسة اقتصادية فحسب، بل أصبحت أيديولوجيا كونية تقوم على:

•      إعلاء السوق كمنظّم وحيد للمجتمع.

•      تفكيك الدولة إلى إدارة تكنوقراطية.

•      تقديس الحرية الفردية بمعزل عن الأخلاق.

•      تحويل الإنسان إلى مستهلك بلا جذور.

•      استبعاد أي مشروع يحمل تصورًا للمعنى خارج السوق.

ما نعيشه اليوم هو ليس أزمة عابرة، بل تفكك في النموذج الكوني نفسه: في الرؤية، وفي الإنسان، وفي الغاية

الجزء الاول: من الرؤية إلى الفعل: إعادة تشكيل العالم

إذا كانت الرؤية الكونية الغربية قد قامت على اختزال الإنسان والعالم إلى عناصر مادية خاضعة للعقل الأداتي، فإنها لم تظل حبيسة الفكر والنظر، بل خرجت من أوروبا لتعيد تشكيل العالم كله وفق شروط السيطرة، والربح، والاستعباد.

استعمار الشمال قبل الجنوب

بدأ المشروع من داخل أوروبا ذاتها، عبر:

•   قمع التعدد الديني واللغوي (كما في الأندلس وشرق أوروبا).

•   إعادة تشكيل المجتمعات على أسس قومية رأسمالية عنصرية.

•   إلغاء الأنظمة التقليدية لصالح الدولة القومية المركزية.

•   فرض اللغة الواحدة، والقانون الموحد، والثقافة النمطية.

وذلك لتحويل الهويات إلى أدوات ولاء سياسي واقتصادي للنظام الجديد.

وهكذا، تمت “هندسة” مجتمعات أوروبا الشمالية والغربية كقاعدة انطلاق نحو مشروع كوني، يقوم على: احتكار المعرفة، احتكار العنف المشروع، واحتكار تعريف “التحضر” و“التقدم”.

اجتثاث الحضارات الأصلية

مع الكشوف الجغرافية، أعادت أوروبا رسم خريطة شمال الكرة الأرضية:

•   إبادة عشرات الملايين من شعوب أميركا الشمالية والجنوبية.

•   استيطان أستراليا ونيوزيلندا بعد اجتثاث سكانها الأصليين.

•   بناء دول استعمارية (كندا، أميركا) على أنقاض حضارات.

•   تنصيب الإنسان الأبيض كصاحب “الحق الطبيعي” في الأرض والسلطة.

إعادة تشكيل البنى: السياسة، الاقتصاد، الثقافة

•   الدولة القومية بوصفها أداة للسيطرة المطلقة على المجتمع.

•   الاقتصاد الرأسمالي الذي يسلع كل شيء.

•   القانون الوضعي المنفصل عن الأخلاق والروح.

•   الثقافة الاستهلاكية كهيمنة ناعمة.

•   الإدارة البيروقراطية كأداة لضبط السكان وإنتاج الطاعة.

هكذا أعادت الحداثة تشكيل العالم، لا على أساس التفاعل أو التعدد، بل على أساس الاستئصال وإعادة البرمجة، لخلق “عالم جديد” لا مكان فيه للآخر المختلف، ولا للمعنى غير القابل للقياس أو الاستثمار.

الدولة القومية: الذراع السياسية للحداثة

مع تشكل النظام الغربي الحديث، ظهرت الدولة القومية الحديثة، لا كتطور طبيعي، بل كأداة لإعادة هندسة المجتمعات، وتنظيم العنف، وتعميم الرؤية الكونية الحديثة. وهكذا ظهرت الدولة القومية الحديثة، ليس بوصفها تطورا طبيعيا للمجتمعات، بل كأداة مركزية في مشروع السيطرة الشاملة.

من الإقطاع إلى الدولة الحديثة

قبل القرن السادس عشر، كانت أوروبا تعيش في ظل أنظمة تقليدية إقطاعية، تتداخل فيها سلطة الكنيسة مع سلطة النبلاء، وتنتظم المجتمعات حول قرى، وعشائر، وهويات محلية. لكن مع صعود الرأسمالية، وتفكك الإقطاع، واحتكار العنف من قبل المركز السياسي، بدأت الدولة الحديثة بالتشكل، على النحو التالي:

•   مركزية القرار والقانون.

•   احتكار العنف (الجيش، الشرطة، القضاء).

•   توحيد اللغة، والثقافة، والتعليم.

•   فرض الهوية الوطنية على حساب الانتماءات الجماعية.

•   علمنة المجتمع وإخضاعه لعقل الدولة.

وظيفة الدولة: إنتاج الفرد المناسب للنظام

لم تكن الدولة القومية مجرد “حكم سياسي”، بل مؤسسة لإنتاج المواطن الحديث كما يتطلبه نظام الهيمنة:

•   الفرد المنتج، المتعلم وفق مناهج الدولة.

•   المواطن المنتمي لوطن- دولة لا لأمة أو جماعة روحية.

•   المنفصل عن ذاكرته الجمعية.

•   المستعد للتضحية من أجل رموز الدولة.

•   المندمج في اقتصاد السوق بوصفه “فردا نافعا”.

وهكذا، أصبحت الدولة مصنعا للهوية الحديثة، تقمع الانتماءات العضوية (الدين، القبيلة، الأمة) وتستبدلها بـ” هوية وطنية وظيفية”، خاضعة للسلطة، وللسوق.

تعميم النموذج عبر العالم

بدأ هذا النموذج في فرنسا بعد الثورة (1789)، ثم في إنجلترا وألمانيا، قبل أن يتحول إلى معيار عالمي “للحداثة السياسية” عبر:

•      علمنة القانون والمؤسسات.

•      تحديث الجيش والنظام التعليمي.

•      مركزة القرار الاقتصادي والسياسي.

•      تصدير هذا النموذج إلى العالم من خلال:

•   الاستعمار المباشر.

•   مشاريع التحديث.

وفي القرن العشرين، جرى تعميم الدولة القومية كصيغة “التحضر” عبر المؤسسات الدولية (عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة)، مما ثبت نظام الحداثة المادية كمعيار عالمي، وربط “الشرعية السياسية” بالتماهي مع هذا النموذج.

انقسام داخل الحداثة: الرأسمالية والاشتراكية وصراع على إدارة العالم

مع تفجر تناقضات النظام الحداثي في القرن التاسع عشر، لم يبق الخلاف الغربي مقتصرا على من يقود العالم، بل تعمق حول كيف يجب إدارة هذا العالم:

هل تترك السوق لتحدد مصير الإنسان، أم يجب أن تتدخل الدولة باسم العدالة؟

هل الفرد هو الغاية، أم الجماعة؟

هل الملكية الخاصة مقدسة، أم أنها جذر الاستغلال؟

من رحم هذه الأسئلة، ولد صراع أيديولوجي عنيف بين جناحين للحداثة الغربية:

•      الرأسمالية الليبرالية (أوروبا الغربية، ثم الولايات المتحدة).

•      والاشتراكية/الشيوعية (منظرة في أوروبا، ومطبقة في روسيا والصين).

الرأسمالية: حرية السوق وتفوق الفرد

تمسكت الرأسمالية بالمبادئ الجوهرية للحداثة:

•      الفردانية.

•      الملكية الخاصة.

•      السوق بوصفها منظما طبيعيا للحياة.

•      الدولة كحكم لا كفاعل مركزي.

وقدمت نفسها بوصفها نظام الحرية والازدهار والابتكار، لكنها في الواقع:

•      عمقت التفاوت الطبقي.

•      حولت الإنسان إلى مستهلك بلا انتماء.

•      شرعنت الاستعمار تحت غطاء “التمدين”.

•      أنتجت أزمات متكررة (كالأزمة الكبرى 1929، والأزمات المالية الحديثة).

الاشتراكية والشيوعية: بين النظرية والتطبيق

        في المقابل، ظهرت الاشتراكية كتمرد داخلي على التوحش الرأسمالي، وقدمت مشروعا بديلا، مركزية الدولة وعدالة التوزيع:

•      الجماعية بدل الفردانية.

•      الدولة بدل السوق.

•      العدالة الاجتماعية بدل التراكم.

•      المساواة بدل الامتياز الطبقي.

لكن التطبيق الواقعي لهذا النموذج، خصوصا في التجربة السوفييتية، حول الدولة إلى سلطة شمولية، وقمع الحريات باسم الجماعة، وشيأ الإنسان باسم “الطبقة العاملة”، ولم ينج من نفس الأداتية التي سادت الرأسمالية، ولكن بلون أيديولوجي مختلف. فلم يكن الانقسام بين الرأسمالية والاشتراكية خلافا على المبادئ التأسيسية للحداثة، بل تنازعا على آليات التحكم في الإنسان والمجتمع. كلا النموذجين أخفق في استعادة المعنى، ووقعت الشعوب بين استغلال السوق واستبداد الدولة، في مشهد حداثي انقسم على ذاته، لكنه لم ينتج بديلا خارج منطق الهيمنة والسيطرة. فكلا المعسكرين:

•   همش الروح.

•   شيّأ الإنسان.

•   اختزل الوجود في الإنتاج أو التخطيط.

•   عمم نموذجا ماديا مغلقا للحياة.

حرب باردة بين حداثتين ماديتين

الرأسمالية:

•   الفردانية، السوق، الملكية، الحد الأدنى للدولة.

•   عمقت الفوارق، وشرعنت الاستعمار، وأنتجت أزمات متكررة.

الاشتراكية:

•   الجماعية، الدولة، العدالة التوزيعية، والمساواة.

•   لكنها وقعت في الشمولية، وقمعت الحريات باسم الجماعة، ولم تنج من الأداتية.

امتد هذا الانقسام ليصبح صراعا كونيا:

•      الحرب الباردة.

•      سباق التسلح.

•      انقسام العالم إلى معسكرين.

•      وسباق على “تحرير” الشعوب وفق رؤى متناقضة.

سقطت الحداثة، في تجلياتها الكبرى، في أسر منظومة مادية مغلقة، تفكك الإنسان والمعنى، وتحكم العالم باسم العقل والمنفعة.

وفي قلب هذا التفكك، بدأت الأسئلة الكبرى تعود من جديد، معلنة أن الطريق إلى التحرر يمر من نقد الرؤية لا فقط من مقاومة السلطة.

نحو الجزء الثاني: من تشكل النموذج إلى تفكيك الجنوب

لم يكن صعود الغرب مجرد حكاية تقدم، بل لحظة تأسيس لجراح مفتوحة في قلب الإنسان. وما نقد النموذج إلا بداية الطريق نحو استعادة المعنى، لا كترف نظري، بل كشرط للتحرر. فحين يختزل الإنسان في وظيفته، تضيع الغاية، وتسقط الحضارة. والبديل لا يولد من رحم السلطة، بل من يقظة الروح.

وفي الجزء الثاني، سنتجه من تشكل النموذج إلى تفكيك أدواته في الجنوب، حيث لا تمارس الهيمنة بالسلاح وحده، بل بنزع القدرة على الحلم، وقتل التاريخ الحي في النفوس

 

مشاركة: