في زمن تباد فيه غزة على مرأى العالم، ويحاصر الإنسان الفلسطيني حتى روحه، تتكشف أمامنا ليس فقط وحشية الاستعمار الغربي الصهيوني، بل هشاشة النظام العالمي برمّته، وتعرّي سردية الحداثة الغربية التي طالما بشرت بالعقل، والحرية، والتقدم.
ما يجري في فلسطين – كما في المنطقة العربية الإسلامية - ليس فقط عدوانا عسكريا أو فشلا سياسيا ودبلوماسيا، بل هو انفجار لأزمة حضارية كبرى، طالما تغطت برداء “التحضر” و” العقلانية”. فكيف نفسر صمت هذا العالم “المتقدم” أمام مشاهد الإبادة المتواصلة منذ نحو عامين؟
وأي عقل هذا الذي يبرر الإباده للإنسان والمكان والذاكرة باسم “حق الدفاع عن النفس”؟
من هنا، تأتي أهمية هذا المقال الذي يواصل تفكيك الحداثة المادية الغربية من داخلها، لا بوصفها مجرد تطور معرفي، بل كمنظومة هيمنة وإقصاء أعادت تشكيل العالم والإنسان، واحتكرت تعريف المعقولية، وأنتجت واقعا من الاستغلال والتمييز والعزلة الروحية.
وفي قلب هذه الكارثة المستمرة، يواصل طرح الأسئلة الضرورية:
- كيف نحرر وعينا من استعمار المفاهيم؟
- كيف نعيد بناء معقولية تحررية بديلة، تنطلق من حاجات الشعوب، لا من أوهام السوق والتفوق الحضاري؟
- وكيف نربط مقاومة غزة، ومقاومة الإنسان في منطقتنا وباقي الجنوب العالمي، بل وعموم العالم بمعركة أعمق: معركة استرداد المعنى والكرامة والإنسان؟
- في الجزء التمهيدي لهذه السلسلة” حين تستفيق الأسطورة في قلب الحداثة” تم تناول الجذور الفكرية التي تأسست عليها الحداثة المادية في القرن الخامس عشر الميلادي. وفي الجزء الأول " حين تشيّأت الروح: كيف أعادت الحداثة الغربية تشكيل الإنسان والعالم؟” تم تناول تشكل نظام الهيمنة الغربية وتحوله إلى نظام كوني . وتوقفنا أمام لحظة الانفجار الحداثي في مركز النظام العالمي،
حين بدأت أوروبا - من قلب أزماتها البنيوية - تعيد تشكيل العالم على صورتها: استعمارا مباشرا، ثم نمذجة كونية للزمن والمعنى والقيمة.
هذا المقال يمثل الجزء الثاني التأسيسي في سلسلة نقدية تفكك مشروع الحداثة الغربية من الداخل، وتربط بين معقوليتها المهيمنة ومنظومة الإبادة المادية والرمزية التي تتجلى اليوم في فلسطين والعالم. ورغم أنه لم يكن ضمن الترتيب الأولي للسلسلة، إلا أنه جاء استجابة نقدية لفجوة نظرية كشفتها التفاعلات النقدية المحقة مع الجزء الأول، التي بينت أن هناك حلقة ضرورية غابت عن الترتيب المبدئي للسلسلة ينبغي استكمالها بين النشوء في المركز، والاختراق في الأطراف. وتتصل بالمعقولية التي وفرت شرط القبول لهيمنة نظام الحداثة المادية في الغرب أولا. ومكنته من التحول إلى نظام كوني مهيمن عالميا. ما يستوجب معه تفكيك بنية الحداثة المادية كنظام معرفي ومنطقي وأخلاقي. وهو بذلك يحاول استكمال النقص لفتح الطريق أمام صياغة بدائل معرفية ومقاومة شاملة ذلك أن الحداثة الغربية ليست مجرد وقائع سياسية واقتصادية، بل نسقا فكريا وفلسفيا متكاملا أعاد تعريف الإنسان، والعقل، والزمن، والمجتمع، واكتسب بذلك معقولية كونية مكنته من فرض ذاته ليس عبر القوة وحدها، بل باسم “العقل” و” العلم” و” التقدم”.
ومن هنا، فإن المقال – رغم كونه خارج ترتيب الأجزاء المعلن – يأتي ليملأ فراغا نظريا حاسما، لا يمكن تجاوزه لفهم آليات الهيمنة الحداثية.
فبعد تناول نشأة الحداثة المادية من المركز في شمال الكرة الأرضية في الجزء الأول، وقبل الانتقال إلى كيفية تفكيك الحوامل الحضارية في الجنوب العالمي غير العربي والإسلامي، ثم في المجال العربي والإسلامي، يتوقف المقال عند نقطة مفصلية: المعقولية التي صنعتها الحداثة الغربية وأضفت بها على ذاتها طابعا كونيا وأخلاقيا وعقلانيا.
إن هذه الحلقة النظرية ضرورية لفهم كيف تمكن مشروع الحداثة من تجاوز القوة العسكرية والاقتصادية، إلى اختراق الوعي وتشويه المفاهيم. وفي الأجزاء القادمة، سنتتبع كيف أسهم هذا الاختراق في تفكيك البنى الثقافية والسياسية في الجنوب العالمي، وفي إعادة إنتاج التبعية بوسائل داخلية، وصولا إلى الجزء الرابع، حيث نبلور أسس بناء معقولية تحررية بديلة، قادرة على استعادة المعنى، وتحرير الإنسان من الهيمنة، وبناء مشروع نهضوي جديد بديل يتجاوز العقل الأداتي، ولا ينكره. من هنا، يأتي هذا المقال لسبر بنية الحداثة من الداخل، وتفكيك منطقها المؤسس، واعادة طرح سؤال التحرر المعرفي كشرط لأي مقاومة سياسية أو حضارية.
فما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمات سياسية أو اقتصادية، بل هو تعبير عن أزمة حضارية شاملة، أنتجتها منظومة الحداثة المادية الغربية، التي لم تكتف بإعادة تشكيل أنظمة الحكم والاقتصاد والمجتمع، بل أعادت تعريف الإنسان ذاته، ونمط عيشه، وسؤال معناه، وموقعه من العالم.
لقد تأسست الحداثة الغربية على وعود عقلانية وتحررية كبرى، لكنها ما لبثت أن تحولت إلى نظام هيمنة كوني، يفرض تصورا أحاديا للعقل، ويخضع المجتمعات والبيئة والإنسان باسم التقدم والمنفعة والعلم. ومع ذلك، لا يمكن رفض هذا النظام من موقع الخصومة الثقافية فقط، بل يجب تفكيكه من الداخل، والكشف عن تناقضاته البنيوية، وتاريخ عنفه الرمزي والمادي، ثم العمل على بناء معقولية بديلة تنطلق من تحرر الإنسان العربي - والعالمي - من استعمار المفاهيم والنماذج.
أولا: نشأة الحداثة المادية وشروطها التاريخية
الحداثة المادية ليست قدرا، بل نتاج تاريخ
لم تنشأ الحداثة المادية في الغرب صدفة، ولا كانت تطورا طبيعيا في مسار الإنسانية، كما تحب أن تقدم نفسها. بل جاءت ثمرة سياق تاريخي خاص، مركب، عنيف في بعض محطاته، نشأ في قلب أوروبا، ثم تمدد بوسائل العنف والتبشير والهيمنة إلى بقية العالم.
وقد اكتسبت هذه الحداثة معقولية كونية مكنتها من أن تمحو ما سبقها، لا فقط كأنظمة إنتاج ومعرفة، بل كنظرة إلى الإنسان، والكون، والمجتمع، والزمن.
ولفهم هذا التحول الجذري، لا بد أن نعود إلى أصول الحداثة:
ما الذي فجرها؟ وما الشروط التي جعلتها ممكنة؟ وكيف تحولت من وعود التحرر والعقلانية إلى نظام مادي إمبريالي؟
1: الشروط التاريخية العميقة لنشأة الحداثة المادية
- أزمة أوروبا في العصور الوسطى.
• طغيان المؤسسة الكنسية واحتكارها للحقيقة والمعنى.
• تفكك سياسي، وحروب دينية، ومجاعات، وأوبئة فتاكة.
• تكلّس الفكر، وانغلاق العالم في تأويل وحيد للوجود.
هذا الانسداد التاريخي مهد لانفجار عنيف في بنية الوعي الأوروبي، تمثل في محاولة تحرير العقل من الإيمان، والعالم من الغيب، والإنسان من الجماعة.
- صعود الرأسمالية الحديثة
• منذ بدايات القرن السادس عشر، بدأت أوروبا تشهد تحولات اقتصادية كبرى:
• نشوء المدن التجارية.
• صعود البرجوازية.
• توسع السوق والمال على حساب الزراعة والاكتفاء المحلي.
احتاجت هذه التحولات إلى عقل جديد: عقل أداتي، نفعـي، اختزالي، يعيد تشكيل الإنسان كأداة إنتاج، ويجعل من الطبيعة “موردا” لا شريكا.
- الثورات الثلاث: العلمية والفلسفية والصناعية
• الثورة العلمية: نزعت القداسة عن الكون، وحولته إلى آلة يمكن فهمها والتلاعب بها.
• الثورة الفلسفية التنويرية: أعلنت العقل سيدا على الدين والتقليد، ورفعت شعار “الإنسان مركز الكون”.
• الثورة الصناعية: جعلت الإنتاج معيار القيمة، والآلة نموذجا للفاعلية.
هنا تشكلت بنية الحداثة:
- العقل كأداة،
- الطبيعة كشيء،
- الزمن كخط إنتاج، الإنسان كفرد منعزل،
- والدولة كضامن للنظام.
2: من مشروع تحرر إلى نظام هيمنة
رغم أن الحداثة ظهرت بوصفها مشروعا للعقل والتقدم والتحرر من الاستبداد الكنسي،
إلا أنها ما لبثت أن أنتجت منظومة بديلة من السيطرة، أكثر تنظيما وقسوة:
• الدولة القومية المركزية التي تعيد ضبط المجتمع من أعلى، وتحتكر العنف والشرعية والمعنى.
• الاستعمار الحديث الذي خرج من قلب المشروع التنويري، مسوغا بفكرة “تمدين الشعوب المتخلفة”.
• إعادة تشكيل الإنسان وفق نموذج استهلاكي - إنتاجي، يفصل فيه الجسد عن الروح، والفرد عن الجماعة، والعقل عن القيم.
بذلك، تحولت الحداثة إلى نظام عالمي مادي مركزي، يعيد تعريف الشعوب والموارد والزمن واللغة والسيادة وفق مصلحة المركز.
3: كيف اكتسبت الحداثة المادية معقولية مكنتها من محو ما قبلها؟
الخطورة الكبرى لم تكن في عنف الحداثة، بل في قدرتها على إقناع العالم بجدواها لحل مشكلاته، وبأنها، بذلك، قدر لا بد منه.
لقد اكتسبت هذه الهيمنة قوة رمزية عبر:
• الربط بين العقل والحداثة، بحيث يصبح أي نقد لها تخلفا.
• اختزال التقدم في التكنولوجيا والنمو، ومحو كل مفاهيم القيمة والمعنى.
• إنتاج سردية كونية تبدأ من “العصور الوسطى” وتنتهي بالغرب “كمستقبل للجميع”.
هكذا لم تعد الحداثة مجرد نموذج، بل أصبحت المعيار ذاته.
فلم تولد الحداثة المادية من فراغ، بل من رحم أزمة أوروبية مخصوصة، وتحولت بسرعة من مشروع عقلاني تحرري إلى نظام هيمنة معرفية وسياسية واقتصادية، أعاد تعريف العالم كله وفق منطقه. ثم أقنعه بأنه لا بديل له.
ثانيا: تفكيك الحداثة المادية من داخلها – نحو تفكيك الهيمنة لا رفض العقل. لماذا نفكك من الداخل؟
حين نواجه الحداثة المادية، لا يمكننا الاكتفاء بالرفض الأخلاقي أو الإدانة الثقافية من الخارج. ذلك لأن الحداثة فرضت نفسها على العالم ليس فقط بالقوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية)، بل بـقوة المعنى والمعقولية والإقناع. لقد صنعت الحداثة نظاما متكاملا من المفاهيم:
• ربطت العقل بالتقدم،
• وربطت التحرر بالفردانية،
• وربطت الرفاه بالنمو،
• وربطت الحقيقة بالعلم الطبيعي.
فأصبح كل من يعارضها يتهم باللاعقلانية، أو الرجعية، أو العجز عن “مواكبة العصر” لذلك، فإن تفكيك الحداثة من داخلها يعني تفكيك هذه المعقولية، وفضح تناقضاتها من داخل منطقها، وكشف آثارها على الإنسان والمعرفة والعالم.
ولتفكيك الحداثة من داخلها نحتاج إلى:
1. نقد العقل الأداتي: حين يصبح العقل خادما للسيطرة.
• الحداثة اختزلت العقل إلى أداة لقياس الكفاءة والمنفعة.
• لم يعد العقل يسأل “لماذا؟” بل فقط “كيف؟”
• النتيجة: عقل يبني قنبلة نووية، لكنه لا يسأل: لمن؟ ولماذا؟ وباسم أي قيمة؟
فالعقل الذي يفقد صلته بالمعنى والأخلاق، يتحول إلى أداة تسلّط. حتى وإن بقي منطقيا.
2. تفكيك وهم الكونية: حين يتنكر التمركز للهيمنة
• الحداثة قدمت نفسها كقيمة كونية صالحة لكل الشعوب.
• لكنها في الواقع نسبت العالمية لنفسها، وأقصت الآخر غير الغربي (الشرقي، الآسيوي الإفريقي، الامريكي اللاتيني المسلم) بوصفه “ناقصا”. المعقولية الحداثية كونية زائفة، تخفي مركزية أوروبية، عنصرية ناعمة، وتفوقا رمزيا مقنعا.
3. فضح التناقض بين الحرية ومنظومة السيطرة
• الحداثة رفعت شعار “تحرر الفرد”، لكنها في الواقع أنتجت:
• الدولة الانضباطية،
• السوق الشمولي
• المجتمع المراقب.
الحرية تحولت إلى عزلة، والفرد المستقل تحول إلى رقم في آلة كبرى.
4. نقد أسطورة التقدم الزمني: حين يصبح المستقبل مبررا لكل عنف
• الحداثة تسوق الحاضر المؤلم باعتباره ضرورة للوصول إلى “مستقبل أفضل”.
• لكنها أنتجت قرونا من الاستعمار، والحروب، والتمييز، والنهب البيئي باسم التقدم. التقدم، حين يستخدم لتبرير الألم، يصبح خطابا أيديولوجيا، لا وعدا أخلاقيا.
5. استدعاء الأصوات المخنوقة داخل الغرب نفسه
• ظهرت داخل الغرب ذاته، تيارات نقدية عظيمة
• مدرسة فرانكفورت،
• فوكو ودريدا،
• الحركات البيئية، مناهضة العولمة، الحركات النسوية، السكان الأصليين، السود.
لا نرفض الغرب جملة، بل نفرق بين الحداثة كمركز هيمنة، والغرب كفضاء تناقض وحوار.
6. نقد العلم كسلطة لا كمعرفة
• الحداثة قدست “العلم”، لكنها حولته إلى:
• أداة للسيطرة على الطبيعة والإنسان.
• أداة لإسكات أنماط المعرفة الأخرى (الروحية، الشعبية، التقليدية).
العلم حين يحتكر الحقيقة، يتحول إلى أيديولوجيا… لا إلى معرفة محررة.
- نحو تفكيك تحرري لا عدمي
نحن لا نرفض الحداثة لأننا ضد العقل، بل لأننا نريد عقلا أكثر عدلا، أكثر تواضعا، أكثر تحررا.
نريد علما لا يقصي، ونظاما لا يهيمن، وتقدما لا يبرر الابادة والقتل والعنف باسم المستقبل.
ليس المطلوب أن ندير ظهورنا للعالم، بل أن نعيد تشكيل علاقتنا به من موقع الفاعل، وليس التابع. لقد استبطنت الحداثة المادية قوتها داخل العقل نفسه، فكان لا بد من اختراق هذا العقل، لا تدميره، ومن تحريره من اختزاله، لا من أصله، ومن إحياء سؤال المعنى فيه، لا دفنه في معادلات القوة والمنفعة.
ثالثا: التحرر المعرفي كمقدمة للتحرر السياسي والحضاري
ما معنى التحرر المعرفي؟ التحرر المعرفي ليس مجرد جمع معلومات جديدة، ولا رفضا عشوائيا لما سبق،
بل هو القدرة على إعادة طرح الأسئلة الكبرى من خارج النسق المهيمن،
وتحرير الفكر من القوالب الجاهزة، واستعادة الخيال ليتجاوز الاختزالات المادية الضيقة.
إنه تحرر العقل من احتكار المنظومة الحداثية، والتحرر من الخضوع لأيديولوجيات الهيمنة.
- شروط بناء معقولية بديلة تحررية:
1. إعادة تعريف الإنسان
• لا يعتبر الإنسان في المعقولية البديلة مجرد فرد اقتصادي أو سياسي،
بل كائن معنوي أخلاقي وجماعي، يمتلك ذاكرة، وذاتية، ورؤية للمستقبل،
يقف في علاقة متوازنة مع ذاته والآخر والطبيعة.
- استعادة القيم المؤسسة
• العدل، الكرامة، التضامن، احترام الطبيعة، هي القيم التي تعيد ضبط علاقتنا بالعالم، ولا يمكن استبدالها بأرقام الإنتاج أو مؤشرات السوق.
3. تحرير المعرفة والتعليم والإعلام
• التعليم يجب أن يكون مساحة للشك والتساؤل، لا التلقين والتكرار.
• الإعلام يجب أن يفتح الخيال ويطرح بدائل، لا أن يعيد إنتاج القوالب ذاتها.
4. مشروع تحرري يستجيب لحاجات الشعوب
• لا يمكن للمعقولية الجديدة أن تُفرض من الأعلى.
• لابد من بناء ثقافة واعية بين الناس، في المخيمات، الحقول، الجامعات، المدارس، المصانع، المزارع، النقابات، المنظمات الأهلية والمجتمعية الخ…
• معقولية حية تنمو من ممارسات الحياة اليومية
5. ربط التحرر المعرفي بتحرير فلسطين والعالم العربي
• فلسطين ليست قضية وطنية فقط، بل رمز لانكسار مشروع الحداثة الغربية.
• وعنوان لتحرر الإنسان من كل أشكال التبعية.
التحرر المعرفي هنا شرط لتجديد المشروع الوطني والتحرري الفلسطيني والعربي والاسلامي والجنوب عالمي.
ملامح المعقولية البديلة:
في الحداثة المادية:
- الإنسان كفرد مستهلك
- الطبيعة مورد مستغل
- العقل أداة نفعية
- الزمن خط إنتاج
- كونية مركزية حول الغرب
المعقولية لبديلة:
- الإنسان ككائن معنوي وأخلاقي
- الطبيعة شريك في الوجود
- العقل وعي أخلاقي مركب
- الزمن رحلة للمعنى
- كونية تعددية تتعايش فيها الحضارات.
التحرر الحقيقي يبدأ عندما نحرر وعي الإنسان، عندما نطرح سؤال المعنى خارج حدود العقل الأداتي، وعندما نبني مشروعا حضاريا إنسانيا يضع القيم والكرامة في مركزه.
رابعا: أثر الحداثة المادية على العالم – من وعد التحرر إلى واقع الهيمنة والتشظي
في الشمال العالمي: داخل قلب الحداثة
1. فرد بلا معنى في عالم وفرة مادية، وعدت الحداثة بالحرية والرفاه، لكنها قدمت في المقابل إنسانا منعزلا، مستهلكا بلا توقف، يعيش في عزلة اجتماعية وروحية، تتصاعد فيها أمراض الاكتئاب والقلق، في ظل تفكك روابط الجماعة.
الحرية الفردية تحولت إلى عبء، والوفرة إلى فراغ داخلي.
2. ديمقراطية شكلية وسوق تهيمن
• على الرغم من المظاهر الديمقراطية،
• فإن القرار الحقيقي صار تحت سيطرة شركات كبرى، مالية، تقنية، وإعلامية. ومراكز قوى.
• الشعوب تخضع لأنظمة انتخابية شكلية، بينما تُدار حياتها عبر اللوبيات والخوارزميات.
تحولت الديمقراطية إلى ديكور للهيمنة الاقتصادية والسياسية.
3. دمار بيئي متسارع
• النمو الصناعي والتكنولوجي تسبب في أزمات بيئية كارثية،
• من تغير مناخي إلى تلوث وتصحر وانقراضات واسعة.
• العقل الحداثي الأداتي غفل عن شروط الحياة ذاتها، وأفسد الأرض التي يعتمد عليها.
في الجنوب العالمي: الحداثة كغزو واحتواء قسري
1. تغريب القيم وتفكيك الهويات
• أعيد تشكيل المجتمعات وفق نموذج الحداثة الغربية،
• فرض التعليم الاستعماري، واللغة، والمؤسسات، مما أدى إلى تآكل الثقافات والهويات الأصلية.
• العقل الغربي صار معيارا وحيدا، والآخر صار “تابعا” أو “متحضرا ناقصا”.
2. اقتصاد تابع ومجتمع مفكك
• الاقتصادات أصبحت ريعية وخدمية تابعة، تعتمد على تصدير المواد الخام والاستيراد.
• لا وجود لاقتصاد زراعي وصناعي حقيقي مستقل.
• دول تتحكم بها مؤسسات دولية ومصالح أجنبية.
الحداثة لم ترفع الجنوب، بل جعلته خزانا للمصادر وسوقا للاستهلاك.
3. دولة ما بعد الاستعمار: سيادة شكلية.
الدول تبدو مستقلة، لكن:
• ترتبط بصناديق دولية،
• تخضع للمراقبة الأمنية والاستخباراتية،
• تتحكم فيها نخب وسيطة أحيانا مستلبة.
السيادة الوطنية أصبحت قشرة خارجية، تحتها تبعية عميقة. نظام عالمي في طور الانكشاف والتصدع
• تآكل الثقة في القيم الغربية (الديمقراطية، الليبرالية، الإنسانية)
• تصاعد الاحتجاجات والمقاومات الشعبية حول العالم
• أزمات متلاحقة في الشمال والجنوب: بيئية، اقتصادية، سياسية، وقيمية .
• حروب مدمرة تتفجر على امتداد العالم.
العالم يعيش أزمة وجودية تعيد تساؤل شرعية الحداثة ومشروعها.
لم تكن الحداثة المادية مجرد أفكار، بل منظومة هيمنة أنتجت واقعا جديدا، واقعا مفرغا من المعنى، مدمرا للبيئة، مفككا للمجتمعات، مهيمنا من مركز يستغل الأطراف. هذا الواقع يتصدع اليوم، ويجبرنا على التفكير من جديد، لا في الحداثة فقط، بل في مستقبل الإنسان نفسه.
من الوعي إلى الفعل: في مواجهة الهيمنة
بين المقال أن الحداثة المادية ليست مجرد سردية عقلانية، بل نظام معقد من الهيمنة السياسية والمعرفية والاقتصادية، فرض نفسه على العالم بأدوات القوة والتمثيل، وبإنتاج معقولية موحدة قضت على تعددية التجارب والمعارف الإنسانية. وكشف في الوقت ذاته أن هذا النظام لا هوية له خارج منطق القوة، ولا عقلانية له خارج آلة الاستهلاك، وأنه من الداخل يحمل بذور تناقضاته وفشله لذلك، فإن معركتنا اليوم ليست مع الفكر وحده، ولا مع الآخر، بل هي معركة تحرير الذات من استعمار المفاهيم، وإعادة بناء وعي حر، قادر على قراءة التاريخ بفهم نقدي، وبناء مشروع تحرري مستقل. إن التحرر الحقيقي يبدأ من:
• تحرير العقل من اختزالاته الأداتية.
• تحرير الإنسان من عزله الاستهلاكي.
• تحرير المجتمع من تبعيته الاقتصادية والسياسية.
• استعادة علاقة متوازنة مع الطبيعة والحياة.
• إعادة تأصيل القيم التي تضمن الكرامة والعدل والحرية الحقيقية.
هذا هو الطريق لبناء مشروع حضاري جديد، مشروع يضع الإنسان والعدالة والكرامة في مركزه، مشروع لا يفرض من فوق، بل ينبثق من وعي الشعوب وثقافاتها واحتياجاتها ومقاوماتها.
من هنا، نؤكد أن معركتنا مع الحداثة المادية، هي معركة الوعي التي تسبق كل فعل تحرري.
خامسا: غزة تحرر المعنى: في مواجهة الإبادة والعقل الأداتي
إن ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد حرب، بل مرآة مكشوفة لانهيار النظام الأخلاقي العالمي، وانكشاف التوحش البنيوي الكامن في صلب الحداثة الغربية المادية.
فعندما تباد مدن وقرى ومخيمات بأكملها فوق رؤوس أصحابها الفلسطينيين على مرأى ومسمع العالم، وتقصف المستشفيات والمدارس، وتحول الأجساد الهشة إلى رماد باسم “الردع” و” حق الدفاع عن النفس”، وتسوق الإبادة كدفاع مشروع عن “التحضر”، ندرك أن المشكلة لم تعد في السياسات فقط، بل في المنظومة التي تصوغ المعنى وتحتكر العقلانية.
في قطاع غزة والضفة الغربية وعلى امتداد فلسطين الانتدابية وجوارها العربي والإسلامي تسقط أقنعة الحداثة كلها:
يسقط قناع الديمقراطية التي لا ترى في غيرالغربي/ الفلسطيني والعربي والمسلم والملون/ إنسانا.
ويسقط قناع العلم الذي يسخر لخدمة القتل.
وقناع الاقتصاد الذي ينمو على أنقاض الشعوب.
وقناع العقل الذي يبرر كل شيء باسم “التقدم” و” الأمن”.
ولذلك، لم تعد معركتنا مع الحداثة المادية ترفا فكريا أو سجالا فلسفيا، بل صارت ضرورة وجودية. فالتحرر من استعمار المفاهيم واللغة والرؤية، لا يقل إلحاحا عن التحرر من الاحتلال العسكري والاستلاب السياسي.
وبناء معقولية تحررية بديلة، يسترد الإنسان فيها معناه، والمجتمع قيمه، والطبيعة شراكتها، هو الشرط المعرفي لأي مقاومة سياسية، وأي نهوض جمعي. غزة، بصمودها ونارها ودمها:
- تعيد تعريف الإنسان: لا بوصفه كائنا مستهلكا، بل حاملا للكرامة والمعنى.
- وتعيد تعريف العقل: لا كأداة قياس، بل كوعي أخلاقي وضمير تاريخي.
- وتعلّمنا - من بين الركام – أن هناك بدائل ممكنة، وأن الكرامة لا تقاس بمؤشرات السوق، بل بالقدرة على الوقوف في وجه الفناء، وبناء أفق لا يموت. من هنا، فإن هذا المقال لا يراد له أن يكون مجرد نقد نظري للحداثة، بل دعوة لتحرير الوعي، واسترداد سؤال المعنى، وبناء مشروع تحرري يبدأ من الإنسان الفلسطيني والعربي، ويتكئ على الذاكرة والتجربة والكرامة. ولا ينتهي إلا ببناء عالم آخر: أكثر عدلا، وتعددا، وتنوعا، وتكاملا، وأمنا، وإنسانية
وهذا المقال - رغم خروجه عن الترتيب المعلن للسلسلة - يمثل حلقة مفصلية، يصعب تجاوزها لفهم المسار الكامل للهيمنة الحداثية. فإذا كان الجزء الأول قد تناول لحظة التكون في المركز. فإن هذا الجزء يفكك بنية المعقولية التي أضفت على هذه الحداثة مشروعية رمزية وعقلانية. أما الأجزاء القادمة، فستنظر في الكيفية التي وظفت بها هذه المعقولية في الجنوب العالمي، عبر تفكيك الحوامل الحضارية الأصلية. ثم في المجال العربي والإسلامي الذي خضع لاختراقات أعمق وأكثر تعقيدا. وصولا إلى صياغة ملامح مشروع تحرري بديل، يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمعنى والعالم.”
إن ما سعينا اليه في هذا المقال تفكيك منظومة الحداثة المادية من داخلها، لا بغرض الإدانة المجردة، بل بهدف كشف البنية المعرفية التي منحت مشروع الهيمنة شرعيته الأخلاقية والعقلانية والقبول. وجعلت القهر يبدو “تقدما”، والهيمنة تبدو “تحضرا”. لكن هذا التفكيك ليس غاية في ذاته. إنه الخطوة الضرورية الأولى نحو التحرر، إذ لا يمكن بناء بديل تحرري إنساني دون فضح المفاهيم التي أعادت تشكيل وعينا ووجودنا. والانطلاق منه بالبناء على الإرث التراكمي المعرفي لمفكرين ومثقفين عالميين وعرب وفلسطينيين. تناولوا نظام الحداثة بالنقد البنيوي في مجالات متعددة تاريخية وأنثروبولوجية وجغرافية وقانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية. ومن منطلقات مختلفة دينية وعلمانية ( لقد سعينا في هذا المقال إلى تفكيك منظومة الحداثة المادية من داخلها، لا بهدف الإدانة المجردة، بل بهدف كشف البنية المعرفية التي منحت مشروع الهيمنة شرعيته الأخلاقية والعقلانية والرمزية، وجعلت القهر يبدو “تقدّمًا”، والهيمنة تبدو “تحضّرًا”. وقد استندنا في هذا التفكيك إلى إرث تراكمي غني من الفكر النقدي، عالميا وعربيا، من مشارب فلسفية وعلمانية وروحية متعددة، سعت جميعها، رغم تباين منطلقاتها، إلى مساءلة الحداثة كمنظومة شاملة لإنتاج السيطرة ونزع المعنى.
فعلى المستوى العالمي، قدم مفكرون كبار مساهمات حاسمة في فضح الوجه المهيمن للحداثة الغربية: من كارل ماركس الذي فكك البنية الرأسمالية كنظام اغتراب واستغلال، إلى ديفيد هارفي وإيمانويل والرشتاين في نقد الاقتصاد العالمي كنظام مركز–هامش، ومن ميشيل فوكو وجاك دريدا وتيري إيجلتون الذين عروا أنظمة الخطاب والمعرفة والتمثيل، إلى تيودور أدورنو وهربرت ماركوزه ومارشال ماكلوهان الذين كشفوا عن آليات السيطرة الثقافية والاستهلاك الجماهيري. كما شارك إدوارد سعيد، وفرانتز فانون، وتزفيتان تودوروف، وإريك ولف، ونعوم تشومسكي في نقد العنف الكولونيالي وفضح الإمبريالية المعرفية الغربية.
وفي الفضاء العربي والإسلامي، أسهم مفكرون بارزون في نقد الحداثة من زوايا حضارية وتاريخية مختلفة: مالك بن نبي وحسن أوريد وفهمي جدعان ورضوان السيد وهشام جعيط في مساءلة القطيعة المعرفية مع التراث، والبحث عن مشروع نهضوي أصيل، بينما ركز محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وإياد البرغوثي على نقد البنى العقلية العربية، وضرورة تجاوزها نحو عقل تحرري مركب. كما تناول جورج قرم وسيد أحمد عبد الرحمن نقد الاقتصاد التابع، وتمفصلات التبعية السياسية والثقافية في ما بعد الاستعمار.
ويلتقي هذا الطيف الواسع من المفكرين، رغم تباين مرجعياتهم، عند قناعة جوهرية مفادها أن الحداثة الغربية لم تفرض هيمنتها بالقوة الصلبة فقط، بل أيضا من خلال إنتاج معقولية كونية زائفة، أقصت الآخر، واحتكرت تعريف العقل والعلم والحرية. وأن نقد هذه المعقولية، وتفكيك منطقها المؤسس من داخلها، هو المدخل الضروري لتحرير الوعي، واستعادة المعنى، وتشييد مشروع تحرري بديل يتكئ على الكرامة، والعدل، والتعدد، والتكامل الحضاري والبناء على هذا الإرث الثري لبناء وعي معرفي جمعي يخرج من النظرية الى الفعل، ومن النقد إلى التخطيط، ومن التبعية إلى الفاعلية. ويشرع في بلورة معقولية بديلة.
ختاما، يدعو هذا المقال القارئ الفلسطيني والعربي إلى نقاش مفتوح حول علاقة العقل بالتحرر، والمعرفة بالمقاومة، وما إذا كانت فلسطين - في وجه الإبادة - قد أصبحت مختبرا للمعنى، ونقطة انطلاق لبناء مشروع حضاري بديل. ونرحب بالاختلاف والتفاعل النقدي، تمهيدا لمواصلة الأجزاء التالية من هذه السلسلة.