الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   02 تموز 2025

| | |
القاتل واحد، وإن تنوّعت أقنعته قراءة في مقال عادل الأسطة “غزة 635”
غانية ملحيس

مقال الأستاذ عادل الأسطة، “غزة 635”، يستحق القراءة بتمعن شديد، وإحناء الرأس أمام الوجع النبيل الذي سكن عباراته. ليس فقط لأنه استحضر المأساة الفلسطينية في وجه آمال البيوك وأيوب أبو الحصين. بل لأنه تجرأ على المقارنة الأخلاقية الأشد حساسية: غزة كظل حديث لأوشفيتز، والضحية القديمة وقد باتت قاتلا جديدا.

غير أن ما وراء المفارقة الإنسانية، يسلط الضوء على أن ما نواجهه ليس مجرد انقلاب في الأدوار، بل ثبات في البنية:

القاتل واحد في الحالتين. ليس شخصا ولا قومية ولا ديانة، بل بنية: نظام الحداثة المادية الغربية، الذي يتجلى حينا في النازية، وحينا في الصهيونية، ودائما في منطق القوة المجرد من أي وازع أخلاقي.

إبادة متسلسلة: من السكان الأصليين إلى اليهود إلى الفلسطينيين

لم يكن اليهود في البدء هم الضحايا الأوائل، بل شعوب بأكملها في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، وقفت عائقا أمام تمدد المشروع الحداثي المادي الغربي، فأبادهم، واستأصل حضاراتهم، وأقام على أنقاضهم دولا ومجتمعات استعمارية: الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، أولى التجسيدات العملية لمجتمع الهيمنة الحداثي المادي.

ثم جاء الدور على اليهود أنفسهم داخل أوروبا. فقد مثلوا – في لحظة من لحظات التكوين البنيوي – عائقا داخليا مزدوجا: 

يملكون المال لكنهم يفتقرون إلى القوة، 

وينتمون إلى دين لا يذوب في نموذج “المواطن الحداثي”. 

فاعتبروا تهديدا للنقاء القومي، ومنافسا اقتصاديا غير مندمج. فجاء “الحل النهائي” لحظة أخرى من لحظات إدارة التناقضات بالقتل حين يعجز النظام عن احتوائها.

لكن ما هو أعمق من ذلك، أن فشل نابليون في تجنيد اليهود لحملته الإمبراطورية على المشرق، شكل بداية لتحول في الرؤية الأوروبية: فالمسألة اليهودية لا تحل داخليا، بل يجب تصديرها. وهكذا بدأ مبكرا تحالف بين الرأسمال اليهودي الذي شكل لاحقا بنية الحركة الصهيونية، والإمبرياليات الأوروبية الصاعدة الباحثة عن أدوات لتوسيع نطاق الهيمنة.

الصهيونية: أداة وظيفية في بنية السيطرة العالمية

لقد نشأت الحركة الصهيونية بوصفها مشروعا وظيفيا داخل بنية النظام الحداثي المادي الغربي، لتخدم ثلاث مهام مركزية:

        1.    تصدير التناقض اليهودي خارج القارة.

        2.    توظيف رأس المال اليهودي المتنامي ضمن مشروع السيطرة الغربية.

        3.    إنشاء قاعدة متقدمة في الشرق العربي تحكم عبرها السيطرة على شعوب الجنوب.

وبهذا المعنى، لم تكن الصهيونية حركة قومية يهودية محضة، بل أداة من أدوات النظام المادي العنصري الغربي، جاءت على أنقاض مأساة لتصنع مأساة أفدح، وتعيد إنتاج منطق الإبادة – هذه المرة باسم “الأمن” و” الحق التاريخي” و” الاختيار الإلهي”، تماما كما فعلت النازية من قبل.

من أوشفيتز إلى غزة: استمرارية العقل الأداتي

إن نظام الحداثة المادية الغربي، الذي قطع صلته منذ قرون بين المادة والروح، أنتج ما سمّاه هربرت ماركوز بـ” العقل الأداتي”: عقل لا يرى في العالم إلا ما يخدم المنفعة، والسيطرة، والربح.

هذا العقل لم يرتدع من جريمة أوشفيتز، بل وظف نتائجها: أعاد هندسة اليهود كأداة استعمارية، وأنشأ إسرائيل كمجتمع وظيفي يعيد إنتاج السيطرة على شعوب المنطقة العربية الإسلامية، والجنوب العالمي الأوسع.

هكذا، في غزة اليوم، لا نستعيد فقط مشاهد المجاعة والإبادة، بل نستعيد المنطق البنيوي ذاته الذي أنتجها في أوروبا: تدمير ممنهج، تجويع بطيء، حصار طبي، نزع إنسانية، تواطؤ دولي… كلها أدوات في يد العقل الأداتي الغربي، تدار اليوم بأيد صهيونية.

ما بين التذكر والفضح

في “حالة حصار”، طلب محمود درويش من القاتل أن يتذكر أمه في غرفة الغاز، لعله يتحرر من سطوة البندقية.

لكن الحقيقة، كما تظهرها غزة، أن القاتل لم يتذكر، ولم يتحرر. لأنه ليس فردا، بل بنية كاملة، منظومة تستثمر الدماء وتدير الإبادة كوظيفة سياسية.

والفلسطيني، الذي ما يزال يرى وجه أم القاتل حتى وهو يقتل، لم يعد بحاجة إلى تذكيره، بل إلى فضحه، وكشف النظام الذي أعاد تدويره، واستثمره، وجعله وكيلا للهيمنة.

وربما يكون تعبير “ما فيش فايدة” الذي استحضره عادل الأسطة ساخرا لا يائسا، صحيحا إن اكتفينا بالذاكرة فقط.

لكن إذا فهمنا البنية، وواجهناها، ورفضنا أن نكون ضحايا أو أدوات، فربما تكون هذه المرة، أول مرة، نستعيد فيها زمام التاريخ

 

مشاركة: