الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   06 تموز 2025

| | |
حين تُكتب الرسائل من تحت الركام: مرافقة لنداء عادل الأسطة إلى غسان كنفاني
غانية ملحيس

في مقاله المؤلم “لقد تعقدت الأمور كثيرا يا غسان كنفاني!”، يكتب الأستاذ عادل الأسطة من قلب المجزرة، لا ليخبر غسان بما جرى، بل ليعيده إلينا شاهدا على نكبة تتكرر، ولكن بأدوات أكثر فتكا، وبذاكرة أكثر إلحاحا.

في زمن لم تعد فيه المجازر مجرد أخبار، بل نمط حياة في غزة، تصبح الكتابة شهادة ووصية، وتتحول الرسالة إلى محاولة لاستبقاء الضمير حيا وسط طوفان العتمة.

يرسم عادل مشاهد لا تصدق، حتى لو كتبت في أكثر الروايات سوداوية: مقابر بلا قبور، أحياء يعلن موتهم ثم يكتشف أنهم أشلاء، نساء يفقدن أولادهن جميعا ولا يبقى إلا الاسم، وجثث تعاد إلى ثلاجات المستشفيات لغياب الحجارة والبلاط.

وفي كل سطر، يتردد سؤال: هل كان يخطر في بال غسان كنفاني، وهو يكتب عن “ورقة من غزة” أو عن “دوف”، أن يبلغ بنا القتل هذا الحد من التكرار والتجريد؟

لكن، وكما يذكرنا عادل الأسطة، فإن المأساة ليست مكتملة من دون أن نرى الوجه الآخر: فالمشروع الصهيوني، رغم وحشيته غير المسبوقة، يوشك على الاصطدام بنهاياته.

ووسط هذه العتمة الشاملة، لا بد أن نرفع أعيننا قليلا عن الحفرة، لنتأمل الهاوية التي يسير نحوها مشروع الإبادة نفسه.

صحيح أن الدم الفلسطيني يسكب كل يوم، وأن آلة القتل الصهيونية بلغت من الوحشية ما لم يبلغه طغاة التاريخ، قديما وحديثا،

لكن، هل بقي شيء من “المعنى” في كيان لا يحيا إلا بالإبادة؟

هنا تحديدا يبدأ انكسار المشروع الصهيوني من داخله:

•      كيان بلا أخلاق، لن يصمد طويلا مهما طال صمت العالم.

•      مجتمع يتلذذ بقتل الأطفال علنا، ويحوّل الكراهية إلى أيديولوجيا، لن يتمكن من بناء سلام أو بقاء.

•      قوة نووية محاطة بالأعداء من كل الجهات، لا تملك سوى وهم “الردع”، بدلا من أي أفق سياسي أو إنساني.

لم يتخيّل غسان أن تصير غزة بهذا الاتساع من الألم، لكنه أدرك — كما يدرك من عرف الاستعمار جيدا — أن مشروعا يقوم على نفي الآخر لا يمكن أن ينجو من المصير نفسه الذي واجهته إمبراطوريات الدم عبر التاريخ.

من نيرون الذي أحرق روما ليتلذذ بالمشهد، إلى هتلر الذي أباد الملايين باسم “نقاء العرق”، كانت النهاية دوما واحدة:

انهيار داخلي يبدأ حين تنضب الكراهية، ويشيخ العنف، ويعجز الموت عن اختراع مبرّر للحياة.

وها هو المشروع الصهيوني، في أقصى عنفه، يفقد معناه، ويفقد صورته، ويفقد قدرته على الادّعاء.

يتحول من “ملاذ” مزعوم لليهود إلى “محرقة معلنة” للآخر، بل وللذات.

كيان لا يحيا إلا على الدم، لن ينجو من الغرق في الدم نفسه.

من هنا، فإن كلمات عادل الأسطة لا توثق المأساة فحسب، بل تضيء - ولو من بين الرماد - على سؤال المعنى، وسؤال العدالة، وسؤال النهاية.

•      لا المجازر تصنع شرعية.

•      ولا الخرائط الملوّثة بالدم تصنع وطنا.

وإذا كان الاحتلال يمتلك كل أدوات الإبادة، فإن غزة ما تزال تمتلك الكتابة، والدفن، والبعث، كلما ظن القاتل أن الأمر انتهى.

إنها ليست رسالة لغسان فقط، بل رسالة من تحت الأنقاض إلى العالم:

نحن هنا، لا كضحايا فقط، بل كفكرة لا تموت.

ومن يتغذّى على الموت، سيموت به.

دمت يا عادل شاهدا صادقا على ذاكرة لا تموت،

ودام قلمك مقاومة في زمن الخذلان.

ولنكتب معا ما لم يكتمل في حياة غسان.

فالرسائل لا تنتهي، لأن الجرح لم يندمل،

أما الطغاة، فدائما يسقطون بعد أن يعلوا.

 

مشاركة: