في ظل التحولات الزلزالية التي فجّرها الطوفان، تتعمّق الحاجة إلى التفكير الجماعي لا الفردي، وإلى بناء خطاب تحرري جديد ينهض من تحت الركام. هذا المقال محاولة لطرح أسئلة تتجاوز اللحظة، وتنفتح على مشروع يتحدى النسيان والانقسام، ويستعيد فلسطين كجذر، لا كملف.
في هذا السياق، تأتي هذه القراءة التكميلية لمقال الأستاذ خالد عطية كمساهمة في تفعيل الحوار الفكري حول إحدى أكثر اللحظات التحولية في التاريخ الفلسطيني المعاصر. فلا تكتفي بتثمين ما أنجزه من تفكيك وتحليل، بل تسعى إلى دفع النقاش خطوات أبعد، عبر إثارة أسئلة تأسيسية تمس جوهر المشروع التحرري الفلسطيني والعربي.
والهدف من هذا الاشتباك التفاعلي هو بناء جسر حي بين الفكر والفعل، وبين النقد والمبادرة، وبين الوعي والتحول، بما يضمن ألّا تتحول لحظة الطوفان إلى ذكرى رمزية عابرة، بل إلى قاعدة انطلاق جديدة لمشروع تحرري جذري وشامل.
تتجاوز هذه القراءة التكميلية التثمين إلى إعادة طرح ما بدأه المقال كبيان فكري مفتوح، لا يغلق على ذاته، بل ينفتح على المراجعة والبناء. قرأته كمن يمسك خيطا أخيرا في وسط الحريق: خيط الوعي الناقد، الذي لا يتهرب من الأسئلة، ولا يتواطأ مع الخطاب السائد، ولا يغلق الباب أمام المراجعة أو البناء.
لقد رصد المقال، باقتدار لافت، عناصر التحول الرمزي التي فجّرها طوفان الأقصى، وطرح بدقة مفاصل الانكشاف:
• انكشاف المشروع الصهيوني كاستعمار إحلالي بلا أقنعة، وكحلقة بنيوية في نظام الحداثة المادية المهيمنة.
• انكشاف الغرب الليبرالي كمنظومة تبريرية للاستعمار والهيمنة.
• انكشاف الذات الفلسطينية والعربية ككيانات منهكة، غير قادرة على تحويل الصدمة إلى لحظة استراتيجية.
ومن أبرز فضائل هذا المقال أنه لم يسقط في فخ التمجيد أو التهويل أو الشكوى، بل قدّم لغة تحليلية صافية، تقطع مع الخطاب التعبوي، وتؤسس لأرضية نقدية ضرورية، قادرة على تحويل المأساة إلى مسار، والانفعال إلى مشروع.
غير أنه، وكما يدعونا خالد في مقاله، فإن مواجهة الحقيقة لا تكتمل إن لم نواصل الحفر، ليس بحثا عن العثرات فحسب، بل بحثًا عن الجذور والأسئلة. ومن هنا، تبرز ثلاث قضايا تأسيسية لفتح النقاش:
1. الفعل المقاوم: ما بعد الصلابة، أين المشروع؟
لقد حرّك الطوفان الرمز، لكنه لم يولّد بعد البوصلة. فالمقاومة كفعل لا تختزل بالسلاح، بل تحتاج إلى هندسة سياسية – ثقافية تعيد تشكيل المفاهيم: من “الرد” إلى “المبادرة”، ومن “الشرعية الثورية” إلى “الشرعية الشعبية”.
لقد أشار المقال بدقة إلى غياب المشروع السياسي عن الفعل المقاوم، وهذه ملاحظة مركزية، لكنها تظل بحاجة إلى تفكيك أعمق:
• هل لدى المقاومة وعي بنيوي بدور “الرمزية”؟
• كيف تتعامل مع الصدمة ليس كحدث عسكري، بل كتحول بنيوي في الصراع؟
• وهل هي مستعدة لمغادرة ثنائية “السلاح/الشرعية” نحو رؤية سياسية شاملة تشرك المجتمع الفلسطيني بكافة مكوناته؟
إن بناء مشروع تحرري لا يقتصر على الصلابة في الميدان، بل على إنتاج سردية متماسكة تقنع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وتربك العدو، وتستنهض الحلفاء الإقليميين والدوليين.
2. الشارع العربي: من الغضب إلى البناء، هل نملك أدوات التنظيم الشعبي؟
من الرباط إلى صنعاء، رفعت الجماهير صوتها، لكنها ظلت بلا حاضنة تنظيمية، بلا مشروع يترجم الوعي إلى أدوات. فهل يملك هذا الشارع طاقته المؤسسة، أم أنه مرتهن للانفجار الموسمي؟
نعم، الطوفان مزّق ستائر التطبيع وكشف هشاشة الأنظمة، لكن: ماذا بعد الغضب؟
• هل نملك فهمًا لتشابك قضايا تحرير الأرض وقضايا التحرر المجتمعي – السياسي – الاقتصادي – الثقافي، باعتبارها قضية واحدة لا تقبل التجزئة؟
• هل نملك أدوات لتنظيم هذا الوعي الشعبي المتحرر؟
• من يملك القدرة على تحويل لحظة الهتاف إلى بنية مقاومة ممتدة؟
• ما الذي يمنع تشكّل حركات شعبية عربية جديدة، تتجاوز القيود الحزبية والهياكل الرسمية، وتبني خطابًا تحرريا جامعا لا ظرفيا؟
3. فلسطين كجذر تحرري: من يبلور المشروع البديل؟
منصة المشروع البديل: هل نؤسس أم ننتظر؟
إذا كانت فلسطين هي الجذر، فمن يتولى الريّ؟ نمتلك وعيا متراكما، وتجارب مبعثرة، ونصوصا لامعة، لكن لا منصة جامعة. فهل يمكن تجاوز الفصائل والسلطة لبناء فضاء جماعي يُعيد وصل ما انقطع بين الداخل والشتات، المثقف والميداني، الرمز والسياسة؟
صوابية الطرح بأن فلسطين ليست ملفا، بل جذرا لكل مواجهة مع الاستعمار الكوني ومخلبه الصهيوني، هو طرح مفصلي. لكن السؤال الأساسي الذي يحتاج إلى إجابة قاطعة:
• من يتولى ترجمته؟
• ما شكل هذا المشروع التحرري البديل؟
• هل ما نزال نتحسّس ملامحه نظريًا فقط، أم أنه موجود فعلًا في المبادرات الصغيرة المبعثرة؟
• كيف نعيد الربط بين:
• من يكتب ومن يفعل؟
• بين المثقف والمقاوم؟
• بين المخيم والقرية والمدينة؟
• بين الداخل والشتات؟
• وهل آن الأوان لإنشاء منصة فكرية – تنظيمية يتشارك فيها جميع الفاعلين: مفكرون، مثقفون، ونشطاء ميدانيون، تتجاوز تمثيلات السلطة والفصائل، وتخاطب هذا الجذر الحضاري الممتد الذي اسمه فلسطين؟
نكتب المقالات التفكيكية كحاجة للفهم، لكننا نحتاج للانتقال إلى حوارات حيّة تستكمل ما بدأته المقالات، وتجمع من يكتب ومن يناضل ومن ينزف، في فضاء تحرري يفتح أفقا جديدا.
لهذا، فإن المقالات – بكل ما فيها من وضوح ودقة وصدق وجرأة في التشخيص – ليست نصوصا تكتب ليُكتفى بتقديرها. بل يجب أن تُبسط وتُقرأ جماعيا، وتناقش، وتترجم إلى رؤية جماعية وخطة عمل تنقل التفكير إلى الوعي، وتصله بالفعل المؤثر.
لعل تساؤل خالد عطية الأخير: “كيف نمنع أن يتحول ما تحقق إلى نكسة؟” هو السؤال المفتاح. لكنه بحاجة إلى صوت جماعي يجيب، لا إلى عقول فردية تتأمل.
فلنفتح هذا النقاش على مصراعيه،
ولنجعل من الطوفان لحظة تأسيس، لا لحظة تأبين.
هذا نص مفتوح على التفاعل، لا يغلق بنقطة، بل يكتمل بجملة يكتبها كل من يرى أن لحظة الطوفان لا تختزل، بل تصان وتؤسس.
فلنكتب هذه الجملة الجماعية معا، لا كخاتمة، بل كبداية، لمشروع يستحق أن يولد من رماد الطوفان، ويشق طريقه كحلم ممكن