قراءة تكميلية لمقال خالد عطية: “من فقه القبول إلى هندسة النفي: التفاوض في ظل الإبادة”
يأتي مقال خالد عطية “من فقه القبول إلى هندسة النفي: التفاوض في ظل الإبادة” في لحظة فارقة، تتقاطع فيها حرب الإبادة الجماعية المفتوحة في غزة مع محاولات فرض مسارات تفاوضية تلبس المجازر ثوب “العقلانية السياسية”.
في هذا السياق، لا يقدم المقال مجرد احتجاج أخلاقي، بل تفكيكا عميقا لبنية التفاوض كأداة لإعادة إنتاج السيطرة، ويؤسس لأفق سياسي-أخلاقي جديد، لا ينحصر بين الرفض العاطفي والقبول الانبطاحي، بل يسعى إلى صياغة فعل تفاوضي تحرري، يبقي على الحق والكرامة حيين تحت الركام.
أولا: التفاوض ليس إجراء إداريا أو تقنية سياسية، بل بنية رمزية واستعمارية تدار من موقع القوة
ما يميز مقال خالد أنه لا يتعامل مع التفاوض كإجراء إداري أو تقنية سياسية، بل كبنية رمزية واستعمارية تدار من موقع القوة المدمرة، وتفرض على الضحية بوصفها شرطا لوجودها. فيعمل المقال على نزع الأقنعة عن الخطابات التي تسوق التفاوض بوصفه “خيار العقلاء”، كاشفا كيف يتحول إلى أداة لإعادة تشكيل الفلسطيني في صورة “المطيع”، و” الناجي” بشروط عدوه.
فلا يقدم خالد التفاوض بوصفه خطأ تكتيكيا، بل يوصفه بدقة كجزء من بنية الهيمنة التي لا تستهدف الأرض فقط، بل الوعي والذاكرة والمخيال.
ثانيا: النجاة دون التنازل: معادلة سياسية–أخلاقية مؤسسة
- النجاة ليست فقط البقاء على قيد الحياة
في لحظة يصبح فيها وقف إطلاق النار هدفا بحد ذاته، يعيد خالد التذكير بأن النجاة ليست فقط البقاء على قيد الحياة، بل الحفاظ على الوجود وشروط الكرامة والحق. هذه المعادلة تفتح أفقا لخطاب تفاوضي بديل لا يدار من منطق الإنقاذ على حساب الذات، بل من منطق المقاومة التي تعرف كيف تحمي شعبها دون أن تفرط في المعنى. بتطوير تصور سياسي لمعادلة: “وقف القتل + تثبيت الحق = تفاوض تحرري” حيث لا يكون التفاوض خروجا من المجزرة، بل بداية لمعركة الوعي والسيادة الرمزية.
فيؤكد أن وقف القتل يجب ألا يتحول إلى فرصة لشرعنة نفي الحق الفلسطيني. وأن القبول بالهدنة أو التفاوض لا يعني التخلي عن الذاكرة، والهوية، والحق في المقاومة. وان تفعيل ذلك يكون عبر:
• تأطير الخطاب الإنساني داخل مشروع سياسي تحرري، فكل مطلب إنساني من وقف إطلاق النار، إلى إدخال المساعدات إلى فتح معبر، يجب أن يكون جزءا من رؤية كرامية لا فقط نفعية.
• إشراك المجتمع المدني والمثقفين والجرحى وأهالي الشهداء والشهود في صياغة خطاب النجاة، بدل حصره في بيانات رسمية نفعية.
• إنتاج ميثاق فلسطيني مقاوم من أجل النجاة الكريمة. يحدد ما يمكن قبوله، وما لا يمكن التنازل عنه حتى في لحظة الهلاك. فمثلا لا يمكن القبول بأي تفاوض يتضمن شطب حق عودة الناس إلى بيوتهم، أو إدانة المقاومة كشرط للتهدئة.
2- إعادة تعريف الفاعل المقاوم في الخطاب العربي والدولي
حين يشير خالد إلى شيطنة الفاعل المقاوم، هو لا يدافع عن فصيل أو تنظيم أو أيديولوجيا، بل يؤسس لشرعية المقاومة في مواجهة المنظومة الاستعمارية التي تسعى لنزع الشرعية القانونية عن الفعل المقاوم التي يتيحها القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. هذا التمييز بين المشروعية التاريخية والقانونية للمقاومة أيا يكن الفاعل، وبين الأحكام السياقية الظرفية هو لب المعركة القائمة اليوم. من هنا، يمكن طرح رؤية تحررية تطالب برفض وضع المقاومة الفلسطينية في خانة “المتهم” الذي يجب أن يثبت حسن سلوكه، بدل التعامل معها كحامل شرعي لحق الدفاع والتحرر من خلال:
• تحرير التفاوض من ابتزاز الهوية، بفصل الفعل المقاوم عن الفاعل.
• فصل المسار الإنساني عن منطق العقاب الجماعي.
• إعادة إنتاج الخطاب الفلسطيني من موقع الفعل لا من موقع التبرير
• إطلاق حملات إعلامية قانونية–أخلاقية لإعادة تأطير الفاعل المقاوم، تظهر السياق الاستعماري، وتعيد صياغة العلاقة بين المقاومة والحق في القانون الدولي.
• إنتاج خطابات سياسية فلسطينية/عربية لا تبدأ بالاعتذار بل بالتأريخ. تبدأ من وعد بلفور 1917 والنكبة 1948 وليس من السابع من تشرين الأول/أكتوبر/2023.
• توسيع دائرة التحالفات الدولية خارج حكومات الغرب عبر التوجه إلى حركات التحرر، الاتحادات العمالية والطلابية، مجتمعات السكان الأصليين والمهمشين عالميا باعتبارهم شركاء تاريخيين لا “لوبيات ضغط”.
ولنا في تجربة جنوب إفريقيا خير مثال: فقد أعيد تعريف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة نيلسون مانديلا في نهاية الثمانينات كحركة تحرر، بعد أن أدرج سابقا في قوائم الإرهاب لعقود. التغيير حصل بعد تحول في الرواية وليس في الوقائع وحدها.
آليات إنتاج “الشرعية” الغربية وشروطها وأثرها على التفاوض
لا يمكن الحديث عن إعادة تعريف الفاعل الفلسطيني في المجال الدولي دون تفكيك آليات إنتاج “الشرعية” الغربية، التي منحت للاحتلال مشروعية أخلاقية وسياسية مموهة. فالغرب لا يشرعن الكيان الصهيوني فقط بناء على “وقائع” القوة، بل انطلاقا من منظومة رمزية وأخلاقية معقدة، تتجذر في:
• أسس اللاهوت السياسي الغربي الذي يرى في قيام “إسرائيل” تحقيقا
لـ” وعد إلهي”، مع تغليفه بحقوق الإنسان والديمقراطية.
• احتكار الغرب لتأويل القانون الدولي بما يتوافق مع مصالحه الجيوسياسية، وتحويله إلى أداة لشرعنة التفوق، لا العدالة.
• استثمار “الذنب الأوروبي” تجاه اليهود بعد المحرقة لإعفاء إسرائيل من أي مساءلة قانونية أو أخلاقية.
• هيمنة الرواية الصهيونية في الإعلام والتعليم الغربيين، مما يجعل الضحية (الفلسطيني) هو المتهم دائما.
وعليه، فإن أي محاولة لإحداث تحول في موقع الفاعل الفلسطيني دوليا لا يمكن أن تكتفي بمخاطبة الغرب بمنطقه. بل يجب:
• تفكيك أسس شرعيته الأخلاقية المزعومة.
• بناء تحالفات بديلة خارج المراكز الغربية للشرعية.
• تدويل السردية الفلسطينية من خلال أدوات معرفية وثقافية وقانونية مستقلة.
3- التفاوض بوصفه خطابا سياسيا ورمزيا وليس صفقة
يشير خالد بوعي إلى أن التفاوض ليس مجرد تقنية، بل خطاب سياسي ورمزي، ومن هنا يمكن التأسيس بالتأكيد أن كل خطاب تفاوضي هو أيضًا سردية يعاد كتابتها: إما بوصف الفلسطيني عبئا وجب تنظيمه، أو بوصفه فاعلا تحرريًا يجب الاعتراف به. وعليه، فإن المعركة في التفاوض لا تدور فقط على شروطه المباشرة، بل على المعنى السياسي الذي تنتجه لغة التفاوض ذاتها.
وهنا تبدو الحاجة ماسة إلى تطوير “مخيال تفاوضي بديل”، يكون جزءًا من استراتيجية تحرر طويلة النفس، لا وسيلة ضغط لحظية. فالتفاوض ليس مجرد لقاءات ومطالب، بل هو ساحة رمزية لإعادة كتابة السردية:
من هو الطرف؟
من هو الضحية؟
من هو المجرم؟
من يملك الحق؟
وتحويل الخطاب التفاوضي إلى سردية شعبية: تنخرط فيها التنظيمات الشعبية والحركة الطلابية والعمالية والمثقفين والإعلاميين لتفكيك سردية الاحتلال لا لتبريرها. وتفكيك مصطلحات التفاوض المسيطرة (مثل “حل الدولتين”، “الاعتدال”، “التنازل المؤلم”) واستبدالها بمصطلحات تحررية (“حق تقرير المصير”، “السيادة الشعبية”، “إزالة الاستعمار”). وتعمل على فرض مشروعية المطالب الفلسطينية كمرجعية تفاوضية: لا يبدأ النقاش من “ما هو ممكن”، بل من “ما هو عادل”.
لقد ظل المسار التفاوضي الفلسطيني محكوما بمنطق النخبة أو الفصائل، دون إتاحة موقع فاعل مستقل للشارع الفلسطيني والحراك الشعبي. فيما أثبتت التجربة الفلسطينية ذاتها - من الانتفاضتين، إلى هبّة الشيخ جراح، وطوفان الجنوب – أن الشارع، حين يمتلك الوعي والتنظيم، قادر على قلب معادلة القوة، وفرض شروط جديدة على التفاوض. وأي مشروع تفاوضي تحرري لا يمكن أن يدار كوكالة حصرية، بل يحتاج إلى إشراك جماهيري فعلي يعيد تعريف الشرعية من القاعدة إلى القمة.
فالتحرر لا يصاغ خلف الأبواب المغلقة فقط، بل ينتزع من ميادين الشارع، وساحات الوعي، ومراكز الثقل المجتمعي. وحين يغيب الشارع عن طاولة التفاوض، يغيب المعنى، وتعود القضية إلى مربع الإدماج الوظيفي في منظومة الاحتلال.
أخلاقيات القوة في التفاوض وحدود الخطاب الرمزي
من الأسئلة المفصلية التي يجب مواجهتها بجرأة: هل يمكن للتفاوض أن يكون فعلا تحرريا في ظل اختلال جذري في ميزان القوى؟
وهل يعول على امتلاك سردية عادلة في مواجهة منظومة قمعية تمتلك أدوات القتل والهيمنة؟
إن امتلاك الخطاب لا يكفي، ما لم يربط بروافع فعلية:
• قوة اجتماعية وتنظيمية داخلية: تنتج تعبئة مستمرة وتُراكم أدوات المواجهة.
• قوة رمزية عالمية: تترجم إلى ضغط شعبي وأخلاقي على الحكومات.
• قدرة على قلب المعادلة الميدانية: كما حدث في تجارب جنوب إفريقيا أو فيتنام، حيث تحولت القوة الرمزية إلى فعل سياسي ملموس.
هنا، يجب التمييز بين:
• الخطاب الرمزي المنفصل عن الفعل، وهو ما يفرغ التفاوض من مضمونه.
• والخطاب التحرري المؤسس على مشروع مقاوم ممتد، يربط التفاوض بالاشتباك السياسي والشعبي، ويحوله إلى أداة من أدوات تحرير الوعي والموقع.
المطلوب إذا: ليس فقط “مخيلة تفاوضية جديدة”، بل مشروع تحرري متكامل:
• يعيد تعريف معنى “التمثيل” و” الشرعية”.
• يربط التفاوض بالقدرة لا بالشرعية الشكلية.
• يبني منابر القوة الرمزية من الأرض: من المدرسة إلى النقابة، ومن المخيم إلى المنفى.
ثالثا: نحو استراتيجية تراكمية: التفاوض كأداة تحرر لا احتواء
لا تكمن قوة مقال خالد فقط في رفض التفاوض بشكله القائم، بل في فتح مسار لإعادة تعريف التفاوض من داخل سياق المقاومة. ومن هذا المدخل، يمكن العمل على:
• بناء خطاب تفاوضي شفاف علني لا يدار خلف الأبواب، بل يؤسس جماهيريا من موقع المشاركة الشعبية لا الاحتكار الفصائلي.
• ربط أي تفاوض ببرنامج وطني تحرري واضح، ينطلق من تثبيت الرواية، واستعادة المعنى، وتجسيد الحق، لا من تبديد الأوراق من أجل بقاء مؤقت.
• عدم الفصل بين السياق السياسي والسياق الأخلاقي: فلا يجوز إدارة التفاوض بلغة المحاصصة بينما المجازر مفتوحة. ولا يجوز تبرير التنازل بزعم الواقعية السياسية بينما الاحتلال يستثمر كل لحظة لترسيخ نفي الفلسطيني.
فلا يلغى التفاوض، بل تعاد هندسته بوصفه أداة ضمن مسار تحرري لا بديلا عنه.
• بناء مرجعية تفاوضية جماعية متعددة الأطراف: تضم الفصائل، المستقلين، الفاعلين الميدانيين، التنظيمات الشعبية، النقابات، المثقفين، وتحدد سقفا وطنيا مشتركا لأي تفاوض.
• تحصين الذاكرة والحقوق بالمواكبة الثقافية والإعلامية. فكل جولة تفاوض يجب أن تواكبها تعبئة فكرية وشعبية تحوّل التفاوض من دهاليز مغلقة إلى أفق مفتوح للوعي.
• ربط أي تفاوض بالاشتباك المستمر، فلا يجب أن يكون التفاوض بديلا عن المقاومة، بل استكمالا سياسيا لها ضمن شروط الكرامة.
وهنا تبدو العودة إلى التجربة السياسية الفلسطينية ضرورة لفهم كيف تحول التفاوض فعليا إلى أداة نفي لا تحرر. فقد شكلت اتفاقية أوسلو (1993) النموذج الأوضح على هذا الانزلاق: بدل أن تكون مدخلا لتجسيد السيادة، تحولت إلى عملية مفتوحة لإدارة السكان، بينما تعمق الاستيطان وتآكل المشروع الوطني. هكذا صار التفاوض وسيلة لإعادة تشكيل الفلسطيني كفاعل خاضع “قابل للإدارة”. وتحولت السلطة من مشروع وطني إلى وظيفة. ثم جاءت مرحلة ما بعد 2006، حيث شكل فوز حماس بالانتخابات لحظة نادرة من الشرعية، تم تقويضها داخليا وخارجيا، ليحاصر القطاع، وتختزل مفردات التفاوض في مفاهيم مجتزأة ك” التهدئة” و” رفع الحصار”، بمعزل عن أي أفق تحرري أو استراتيجية وطنية شاملة. في الحالتين، لم يكن التفاوض مجرد خيار سياسي، بل جزءا من بنية الهيمنة: نزع المعنى، وليس السلاح فقط.
رابعا: منهجية تفكير تفاوضي جديدة
في زمن تختزل فيه فلسطين إلى “ملف تفاوضي” وتدار فيه غزة كما تدار الكوارث الطبيعية، لا يقدم خالد مجرد موقف، بل تأسيسا لمنهجية تفكير جديدة:
• تنزع عن التفاوض غلافه الإنساني الزائف.
• تعيد كتابته ضمن مشروع تحرري جذري، يرى في المقاومة تجسيدا للحق والكرامة الوطنية.
• وفي التفاوض ساحة جديدة من ساحات الاشتباك الرمزي، لا بوابة للهزيمة.
ومن هنا، فإن المقالين الأساس والمكمل ليسا فقط محطة تحليلية، بل دعوة للتراكم، والتفكير، والمبادرة، من أجل إعادة هندسة الممكن السياسي الفلسطيني على قاعدة الوعي والحق والكرامة. فنحن لسنا أمام خيار أوحد بين الموت أو الذل. بل أمام ضرورة أن نصوغ شرطنا الوجودي في ظل الإبادة والمحو، لا كضحايا ننتظر الخلاص، بل كفاعلين يفاوضون من موقع الحق والصلابة الرمزية، وليس الضعف المدجن.
في زمن الإبادة، لا يكفي أن نطالب بوقف القتل، بل لا بد أن نمنع أيضا نفي المعنى لمنع تكرارها.
في ظل الإبادة، يصبح الصمت تواطؤا، والتفاوض بلا مشروع استسلاما مغلفا. المقالان يوجهان دعوة مفتوحة للمفكرين والمثقفين والفاعلين السياسيين والميدانيين إلى صياغة الممكن السياسي من موقع المقاومة لا من منطق النجاة فقط، ومن الوعي المعرفي لا من رد الفعل اللحظي.
من التفاوض كخضوع إلى التفاوض كاشتباك رمزي
نحن بأمس الحاجة إلى بلورة استراتيجية تفاوض تحرري، لا تدار - كما مفاوضات أوسلو - من خلف الأبواب المغلقة، ولا تتقن فن “القبول بذريعة الواقعية السياسية”. بل تتسلح بالحق، وبإرث المقاومة، وبدروس الإخفاقات التي يحفل بها التاريخ الفلسطيني والعربي، والنجاحات التي تزخر بها تجارب الشعوب التي نجحت بهزيمة الاستعمار وتحررت. استراتيجية تعيد تعريف الفاعلين، والسرديات، والمعايير، من موقع الحق لا الامتثال.
إنه وقت استعادة المعنى، وليس فقط وقف الإبادة.
ووقت تحويل التفاوض إلى ساحة اشتباك رمزية تعيد كتابة شروط وجودنا، لا مجرد مناورة للبقاء.
ففي زمن الإبادة، لا يطلب فقط وقف القتل، بل يجب أن نمنع قتل الوعي وتزييف الذاكرة والتأسيس بذلك لتكرار جولات الإبادة.