في زمن يتساوى فيه الصمت بالتواطؤ، تصبح الكتابة شكلا من أشكال النجاة، لا من الانهيار الأخلاقي فحسب، بل من تحلل إنسانيتنا أمام هول ما يحدث في غزة.
قرأت خربشة عادل الأسطة غزة 649، فشعرت أنها ليست كلمات، بل جمرة تسري في الوعي. ليست تأملات عابرة، بل مرايا تكشف تشققاتنا من الداخل، وتهتف في وجه هذا العالم المتخم: أنقذوا ما تبقى من إنسان.
فيما يلي، محاولة لالتقاط ذلك الوجع، كما رآه عادل، وكما نراه جميعا… إن امتلكنا الشجاعة لننظر.
كأن عادل يكتب بجمر يشتعل في القلب والعقل والروح.
كلماته ليست خربشات، بل صراخ ضمير يائس يبحث عن بقعة دفء في عالم فقد ملامحه.
كيف نُثبّت العقول، يا عادل، أمام هول ما يحدث في غزة، منذ 649 يوما من الإبادة المستمرة؟
ما بين تاجر يرفض أخذ “عمولة” لأن الربا “حرام”، لكنه - باسم العملة - يسرق نصف المبلغ تقريبا، في صفقة شنيعة مغلفة بورع زائف، قبل أن يتوجه إلى الصلاة… نكتشف أننا لا نواجه مشهدا فرديا، بل بنية كاملة من النفاق المقنع.
خربشاته مرآة تعكس قبحنا، وترينا نتائج غفلتنا. لقد ارتضينا أن يتحول جوهرالدين، التحرري والرحموي، من بوصلة أخلاقية إلى أداة لتبرير النهب والاستغلال. إنه التديّن الذي ألفناه في بلادنا العربية - الإسلامية، وقبلنا باختزاله إلى طقوس خاوية: تديّنٌ مُفرغٌ من العدل والرحمة، فاقدٌ للصدق، منافقٌ في وجهه، قاتلٌ في نتائجه.
تديّن لا يختلف جوهريا عن استخدام “الوعد الإلهي” لتبرير إبادة فلسطين، جغرافيا وديموغرافيا.
ما بين من يسرق باسم الله، ومن يبكي الله لأنه فقد والده، تتجلى الحقيقة الصادمة لفلسطين اليوم:
- التدين الزائف يقتل، كما القنابل.
- والصمت العالمي يتواطأ، كما الجنرالات.
لكن الصوت المبحوح لطفل فقعاوي، وهو يودع والده، يظل أقوى من كل الخطابات. لأنه لا يطلب إلا شيئا واحدا: أن نكون بشرا.
وما بين التعايش مع الصراخ المكتوم داخل الطفل الغزّي، الصادر من بطنه الجائع، هناك صرخة بلا فم. فالجوع في قطاع غزة لا يشبه ما نعرفه في الكتب الطبية أو دراسات الفقر. الجوع هناك ليس مؤقتا، ولا ظرفيا، بل هو سياسة ممنهجة.
هو حصار مجسد، وعقاب جماعي، ونتيجة مباشرة لعقل أداتي يقود حربا بلا قلب. ويراقبه الأهل، وذوو القربى، والعالم أجمع، بلا روح. يواصلون حياتهم كما اعتادوا، ويصمون آذانهم عن جرس العار الذي يرن في وجه العالم المتخم.
لا أحد يبالي بالعيون الغائرة، ولا بصوت البكاء الخافت الذي لا يقدر على الشكوى.
لا أحد يرى اليد الصغيرة التي تفتّش عن كسرة خبز في ركام بيتها، ولا دمعة الطفل الذي يقول لأبيه الشهيد: “يا ريتني متت معك”.
ولا أحد يسمع السؤال البريء المعلّق في الهواء: “وين نروح؟”
خربشاتك، يا عادل، تظهر أن قرقعة المعدة باتت اللغة الجديدة التي يتحدث بها أطفال غزة، حين تصادر منهم الطفولة، ويُقطع عنهم الحليب، وتُهدم مدارسهم. وتتحوّل أجسادهم إلى ساحات مواجهة صامتة، كل خلية فيها تصرخ: “أنقذونا.”
خربشاتك تعري الواقع حتى العظم.
طفل يصرخ في وداع أبيه الشهيد، ويطلب من الله أن يكون قد مات معه.
وأم تصرخ في العراء: لا طحين، لا خيمة، لا مأوى، ولا سند. لا شيء.
فلا يعود الموت مجرّد فقد جسدي، بل يصبح زلزالا وجوديا.
الطفل لا يفقد والده فقط، بل يفقد الطمأنينة، المستقبل، واللغة التي تعطي للحياة معنى.
والأم لا تفقد زوجها فقط، بل تفقد ما تبقى من توازنها النفسي، بعد أن تحطمت كل الأركان.
إنها مشاهد تجرّد العالم من أقنعته، وتواجهنا بما نحن عليه، أو بما أصبحنا نتواطأ على أن نكونه.
مشاهد لا تنقصها المأساة، بل تنقصنا نحن - في مواجهتها - الكلمات… والأفعال.
كلماتك، يا عادل، تصرخ. فمن يسمع هذه الصرخة؟
ومن يترجم هذا الوجع، الذي يفوق الاحتمال، إلى عدالة؟
كيف نبقي على الأمل يا عادل، رغم كل هذا العذاب، بعد أن تحولت غزة إلى مختبر إنساني لمعرفة حدود الألم، وحدود الصبر، وحدود الخيانة أيضا؟
غزة باتت ميزانا أخلاقيا حاسما للتمييز بين من يبكي وجع الطفل، ومن يصلي فوق جثته، ومن يشاهد ويصمت.
غزة اليوم ليست مجازا عن المأساة، بل اختبارا وجوديا لكل منا:
ماذا نفعل بهذا الوجع؟
كيف نتصرف ونحن نشاهد الموت يتمادى؟
ماذا تبقى من إنسانيتنا، ونحن نرى الأطفال ينامون تحت الركام؟
غزة تفضح نفاق المتدين، وتعري صمت العالم، وتكشف خذلاننا نحن، حين نكتفي بالمشاهدة دون أن ننظم غضبنا.
خربشاتك، يا عادل، تنقل إلينا الكوميديا السوداء في أكثر تجلياتها فظاعة:
الرئيس الأمريكي، المتربع فوق أنقاض الشعوب الأصيلة في بلاده، والساعي لتكرار المشهد ذاته في بلادنا، يرشحه وكيله التنفيذي، رئيس وزراء إسرائيل - نتنياهو - لجائزة نوبل للسلام.
هل نحتاج إلى مزيد من الفضيحة؟
العالم يقصف غزة ويذبح فلسطين أمام الشاشات، ثم يمنح الجزار شهادة حسن سلوك.
أليس هذا هو الاختبار الأصعب للبشرية:
أن ترى طفلا يستودع والده في الركام… ثم تدير وجهك؟
أن يترك حي بأكمله تحت الأنقاض… بينما تواصل القنوات بث المهرجانات والأغاني وبرامج الطهي؟
كيف نبقي الأمل، يا عادل، وسط هذا الركام؟
الأمل، في هذا السياق، ليس تفاؤلا ساذجا، بل مقاومة واعية. هو قرار بالتمسك بالحياة، حتى حين يكون الموت هو السيد الظاهر.
نبقي الأمل كفعل عناد.
نبقي العقول صامدة حين لا نكف عن الشهادة.
نبقي الأمل حيا حين نفضح القبح، ونتمسك بالحب والعدل والصدق، لا لأننا أقوياء، بل لأننا لا نملك رفاهية السقوط.
نبقي الأمل حين لا نصمت على النفاق.
حين نكتب، ونصرخ، ونفضح، لا لنسلّي أنفسنا، بل لأن الكتابة فعل نجاة مشترك.
نبقي الأمل حين نراهن على ضمائر ما تزال تنبض في هذا العالم المختل.
نبقي الأمل، لأن شعبا كغزة، يربي أبناءه على أن يكونوا “أكبر واحد إلك يا يابا” وسط الدم، لا يمكن أن يكسر.
غزة لا تطلب منا المعجزات، بل أن نتوقف عن الخيانة.
أن نسمع. أن نشهد. ألا نكذب.
أن نربي أبناءنا على قول الحقيقة، لا على تبرير الطغيان.
ألا نخاف من أن نكون بشرا… حتى لو كلفنا ذلك كلّ شيء.