بينما تتوالى التحولات في المشهد الفلسطيني والعربي - من تصاعد حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ 648 يومًا على قطاع غزة ومخيمات الضفة، وعلى امتداد فلسطين الانتدابية وجوارها العربي، إلى الاصطفاف التطبيعي الصريح، وصولًا إلى انتكاسات الإسلام السياسي في الحكم وانكفائه في المعارضة - يبرز من جديد سؤال العلاقة المعقدة بين الأنظمة العربية وتيارات الإسلام السياسي
في مقاله الثري، يقدم الدكتور إياد البرغوثي قراءة جدلية معمّقة لعلاقة النظام العربي بالإسلام السياسي، متتبعًا تحوّلها من علاقة احتضان إلى صدام وجودي.
هذا التحول لم يكن مجرد انعطافة في الخطاب السياسي، بل تعبيرا عن تبدل عميق في موقع الإسلام السياسي داخل البنية الإقليمية والدولية. فقد خرج من عباءة التوظيف إلى موقع التهديد الرمزي، ومن كونه أداة إلى كونه عائقا أمام هندسة المعنى والسيطرة. وهنا يبرز سؤال جوهري: من الذي يحدد موقع الفاعلين في هذه البنية؟ وهل بقيت الأنظمة العربية قادرة على تحديد خياراتها، أم باتت أدوات متكاملة في بنية أعلى من الصراع؟
لا يكتفي البرغوثي برصد هذا التحول، بل يفكك خلفياته البنيوية، ويصل إلى استنتاج حاسم: النظام العربي لا يتحرك بناء على مواقف أو قناعات أيديولوجية، بل يؤدي أدوارا تفرض عليه ضمن متطلبات المشروع الإمبريالي الصهيوني، الذي انتقل من تكتيك الإضعاف إلى استراتيجية الإجهاض الكامل. وهذا ما ينزع عن النظام صفة “الموقف”، ويجعله جزءًا من منطق “الدور”.
تفكيك الاستقلال الوهمي للفاعل العربي
هذا التحليل يفكك وهم استقلالية الفاعل السياسي العربي، ويعيد تموضعه ضمن بنية الهيمنة العالمية بوصفه كيانًا وظيفيًا لا ذاتًا مستقلة. وتكمن قوة المقال في تعريته للزيف الأيديولوجي الذي يغلف مواقف الأنظمة، وإبرازه لطبيعتها التابعة لمشروع السيطرة الغربية–الصهيونية.
لكن هذا الطرح يثير تساؤلات فلسفية وسياسية حيوية حول إمكانيات الفعل الذاتي خارج منطق الدور:
• هل الفاعلون السياسيون دومًا أدوات في يد القوى الكبرى؟
• وهل ينطبق هذا التوصيف بالمطلق؟ أم أن هناك هوامش للفعل وممكنات مقاومة حتى في ظل الهيمنة؟
• ثم، هل النظام العربي كتلة واحدة صلبة، أم أن هناك تمايزات بين أنظمة تمتلك مساحات مناورة نسبية؟
تمييز الأنظمة المطبعة بالكامل عن تلك التي تخضع لتوازنات داخلية أو تنتهج مواقف مقاومة جزئية يبدو ضروريا، لتجنب التعميم الذي يعقد المشهد ويُضعف أدوات التحليل.
ما الذي يفسر عداء النظام العربي للإسلام السياسي؟
حصر التفسير في البعد الخارجي يغفل العوامل المحلية التي تفسّر عداء بعض الأنظمة للإسلام السياسي، مثل:
• الخوف من المعارضة،
• صراعات النخب ومراكز القوى،
• تهديدات الهوية الوطنية.
فالتغليب الحصري للتفسير الإمبريالي قد يبالغ في تقدير دور الخارج، على حساب تشابك السياقات المحلية التي غالبًا ما تكون المحرك الأول في إنتاج التوتر أو العداء.
الإسلام السياسي ليس كتلة واحدة
كذلك من المهم عدم التعامل مع الإسلام السياسي ككيان موحد. فثمّة فروقات جذرية بين تياراته: الإصلاحية، الجهادية، المقاومة، التطبيعية، والمعتدلة. فثمة تباينات جوهرية، كالاختلاف بين التيار الإصلاحي لحركة النهضة في تونس، والطابع الجهادي لتنظيمات كالدولة الإسلامية، أو النهج المقاوم لحركات كحماس وحزب الله والجهاد الإسلامي.
غياب هذا التفصيل قد يؤدي إلى نتائج سلبية تمس بإمكانات بلورة رؤية استراتيجية بديلة. فمعاملة التيارات المقاومة (كحماس، حزب الله، الجهاد الإسلامي) بنفس منطق التيارات المهادنة أو تلك التي شاركت في قمع الحراكات الشعبية (كما في مصر أو السودان) ينتج تشويشا معرفيا يخدم الأجندة المعادية.
من الدور إلى الموقف: المسافة غير الصفرية
الفصل الجذري بين “الدور” و” الموقف”، وإن كان مفيدا لكشف البنية الوظيفية، يحتاج إلى مقاربة تدريجية للمسافة الفاصلة بين الامتثال الكامل والإمكان الذاتي.
فزمن الانقسام الأيديولوجي (محافظ/تقدمي، ثوري/معتدل) انتهى، ليحل محله تماهٍ شامل تحت شعارات الليبرالية والاعتدال، لا بوصفه تطورا طبيعيا، بل كخضوع جماعي لقواعد اللعبة الإمبريالية الجديدة، حيث تحوّلت الليبرالية إلى “سوقية”، والاعتدال إلى “استسلام مموه”، وصارا معياري الولاء والنجاة.
تحوّل الإسلام السياسي من أداة إلى تهديد رمزي
يرصد البرغوثي مشهدا بالغ الأهمية: “الاتفاق” الظاهري بين الأنظمة لا يعكس وحدة سياسية، بل انسجامًا كولونياليًا في التبعية.
وتبرز هنا قراءته لتحول الإسلام السياسي من أداة وظيفية إلى تهديد رمزي في مرحلة “الهجوم على المعنى” وتفكيك الوجدان الجمعي وفكرة الأمة، ما جعله مستهدفًا حتى في نسخته الليبرالية.
خلال الربيع العربي، لعب الإسلام السياسي دورا محوريا، لكنه وقع سريعا في فخ التسرع نحو السلطة دون تفكيك بنية الدولة، ما كشف هشاشة مشروعه السياسي من جهة، وعمق الرغبة في القضاء على أي رمز خارج منظومة الضبط من جهة أخرى.
موقع المثقف: من الموقف إلى الموقع
من أبرز ما يحسب للكاتب دعوته لتوسيع وعي المثقف وتحذيره من الانخراط في معارك ظاهرية تُستخدم كغطاء لأجندات مضادة. فالمثقف، في تصور البرغوثي، مسؤول ليس فقط عن “موقفه”، بل عن “موقعه” في خارطة الصراع الرمزي. البوصلة هنا ليست النظام، ولا الحزب، بل فلسطين - لا كمجرد قضية، بل كمعيار استراتيجي لفحص صدقية أي خطاب وموقع.
أسئلة مفتوحة للنقاش:
1. هل يمكن اختزال العلاقة بين الأنظمة والإسلام السياسي إلى منطق “الدور” فقط؟ وماذا عن المصالح الذاتية وصراعات النخب وإعادة تشكيل الهوية؟
2. هل ينطبق هذا التحليل على كل التيارات الإسلامية؟ هل تمثل حركات المقاومة استثناءً؟ أم أن الجميع يُعاد إنتاجهم داخل البنية ذاتها؟
3. ما موقع الشعوب في هذا التحليل؟ هل هناك أفق شعبي يتجاوز الثنائية المغلقة “النظام/الحركة”؟
4. ماذا عن مراجعة الإسلام السياسي لذاته؟ كيف نواجه إخفاقاته الداخلية، وخطابه غير المتجدد، وتحالفاته البراغماتية؟
من النقد إلى السؤال: استعادة السياسة كفعل تحرري
يشكّل مقال الدكتور إياد البرغوثي مساهمة فكرية جريئة في فضح الطابع الوظيفي للنظام العربي داخل منظومة السيطرة الإمبريالية–الصهيونية، من خلال قراءة تحوله في علاقته بالإسلام السياسي بوصفه انتقالًا من “الموقف” إلى “الدور”. لكن الأهم أنه لا يُغلق النقاش، بل يفتحه على مصراعيه بإعادة طرح الأسئلة الجوهرية:
• هل يمكن استعادة السياسة كموقف أخلاقي ووطني؟
• هل يستطيع الفكر أن يخلخل البنى الوظيفية ويصوغ مشروعًا بديلًا؟
• وهل تظل فلسطين، ليس فقط رمزية، بل معيارًا استراتيجيًا لإعادة ترتيب المفاهيم والتحالفات في وجه التفكيك والتهجين؟
شكرا للدكتور إياد البرغوثي على هذا الإسهام النوعي، الذي يحفزنا على الذهاب أبعد، ليس فقط في تحليل تسييس الإسلام، بل في إعادة طرح السؤال الأعمق:
كيف نعيد للسياسة معناها، وللفكر موقعه، وللمقاومة بوصلتها؟
لعل الخطوة الأولى نحو استعادة السياسة كفعل تحرري تبدأ من إعادة طرح الأسئلة، ليس بوصفها تمارين فكرية، بل كبوصلة لفعل جمعي يعي موقعه، ويعيد تحديد أدواته ومعاركه، في زمن تفكك فيه الأمة من بواباتها الداخلية والخارجية معا.