الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   26 تموز 2025

| | |
زياد الرحباني: الثائر الذي غنّى للناس لا للسلطة، وكتب بالبيانو نشيد المقاومة… وداعا
غانية ملحيس

ها قد رحلت، يا زياد

لكننا لم نكن نتهيأ لهذا الرحيل، لأنك كنت حيا أكثر من زمن ميت، ولأن حضورك كان دائما أكبر من المسرح، أعمق من اللحن، وأصدق من السياسة.

لم ترحل كفنان وحسب، بل كضمير حي ظل يقاوم الغرق في وحل الطائفية، في مستنقعات الصفقة، وفي أسواق الفن المعقمة من القيم.

أنت سليل العائلة الرحبانية، صحيح. لكنك كنت أكثر من امتداد… كنت خروجا واعيا على النمط، ثورة على الوراثة، وولادة جديدة للفن المقاوم.

في بيت الرحباني الكبير كانت النجوم تعلق على الحان الأمل، لكنك نزلت إلى الشارع، مزجت الموسيقى بصوت المقهورين، وأطلقت ضحكة مرة على لسان سعيد عقل، وشتيمة ساخرة في وجه الطغاة.

زياد…

كنتَ فنانا، مفكرا، كاتبا مسرحيا، موسيقيا استثنائيا… لكنك قبل ذلك وبعده، كنت لبنانيا أصيلا فلسطيني الهوى، يساري الضمير، متمردا على الزيف، واقفا على جبهة الصدق وحدك، حين اختار الآخرون الاصطفاف مع الأقوى.

لم تعتذر يوما عن انحيازك… بل صنعت من انحيازك تيارا، ومن فكرتك ملاذا لكل غريب في وطن لا يشبهه.

لم تغن لفلسطين كقضية بعيدة، بل كأنها المخيم المجاور، والرفيق الغائب، والنشيد المكبوت في القلب.

رثاؤك صعب، لأنك لم تكن يوما تابعا للموت.

كنت ابن الحياة بصخبها، وبجنونها، وحتى بعبثها.

كنت تحترف السخرية من الجنرالات، وتسخر من السخرية ذاتها، وتبكي ساخرا دون أن تذرف دمعة. 

لم تكن ابن فيروز فقط، ولا ابن عاصي فقط، بل ابن القضية، وابن الشارع، وابن اللغة التي رفعت مستوى الناس، لا مستوى الطرب.

سكنت المقاهي، وفضحت النخب، وكتبت ما لم يجرؤ أحد على كتابته، لا في الجريدة، ولا على الخشبة، ولا في النوتة.

نم قرير العين يا ابن بيروت العنيدة.

نم يا من ظل يقاوم حتى سقط الزمن من حوله، ولم يسقط هو.

سنبكيك، لا كنجم آخر هوى، بل كمبدأ ظل حيا حتى آخر نفس.

وسنبقى نسمع موسيقاك لا لنهرب من الواقع، بل لنفهمه.

نقرأك لا لنتذكر ماضيا جميلا، بل لنبني معنى لما تبقى من وطن يحتضر.

المجد لك يا زياد،

المجد لفنك الثائر،

المجد لفلسطين التي أحببتها كما يجب…

والمجد لك لأنك بقيت كما أنت: حرا، متمردا، صادقا، وقاسيا كالحقيقة.

 

مشاركة: