الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   24 تموز 2025

| | |
هل ثمة بصيص أمل؟ نعم، لكن ليس من هناك
غانية ملحيس

رسالة إلى الصديق عادل الأسطة على هامش خربشته “غزة 657: هل ثمة بصيص أمل؟”

الاستاذ العزيز عادل 

قرأت كلماتك “غزة 657: هل ثمة بصيص أمل؟” وكأنها تقف على حافة الأسى والاحتمال. مقالك يطرح سؤالا أخلاقيا عميقا في زمن بلا أخلاق، في هيئة خبر صحفي:

·       هل ما يجري من اعتراضات داخل “إسرائيل” يشكل بصيص أمل؟

·       هل هي ملامح صحوة ضمير؟

·       أم مجرّد ارتدادات هامشية لا تغير في البنية شيئا؟

لفتتني إشارتك الدقيقة إلى تعدد الظواهر:

·       جنود يعبثون بطائرات مسيرة،

·       ناشطون يقتحمون هيئة بث،

·       مسنة تخطط لاغتيال نتنياهو،

·       مسيرات ترفض التجويع،

·       وصوت احتجاجي داخل “كان” و” هآرتس” …

كلها إشارات مهمة، بل ضرورية لمن يقرأ الواقع لا بالعين المجردة، بل بالمجهر. 

ومع ذلك، فإن سؤالك في الختام: “هل سنشهد صحوة ضمير؟” يبقى مؤلما وملتبسا في آن واحد. فالوقائع تظهر أن المجتمع الإسرائيلي، في غالبيته الساحقة، متواطئ، أو مشلول أخلاقيا على الأقل، أمام آلة الإبادة. وما يقدم كـ “بصيص أمل”، يبقى في حدود الفعل الفردي أو الهامشي – حتى وإن كان نبيلا.

الدرس الألماني الذي استحضرته عبر قصة “أنا زيغرز” هو مقارنة لافتة. لكنه يذكرنا، أيضا، بأن "المخربين" في عهد النازية لم يوقفوا قطار الحرب، ولم يمنعوا المحرقة. فالمقاومة الأخلاقية داخل بنية استعمارية - حين تكون محدودة جدا ومعزولة - تسجل في كتب التاريخ لا في موازين القوى.

ويزداد وقع سؤالك حين نقرأه في اليوم نفسه الذي صوت فيه نواب الكنيست - المنتخبون ديمقراطيا - على ضم الضفة الغربية المحتلة، بأغلبية شاركت فيها المعارضة. فيما تواصل عربات “جدعون” محاولتها استكمال احتلال قطاع غزة، ويتقدم الجيش الصهيوني في جنوب لبنان، ويطل، ايضا، من مشارف دمشق.

لقد بات الحزام الأمني للمستعمرة الصهيونية، كما يراه غالبية “شعب الله المختار” في “الأرض الموعودة”، يمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى طهران شرقا، ومن المتوسط والبحر الأسود شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا.

ومع ذلك، لا يجوز إنكار الرموز الصغيرة. نعم، كل فعل رفض داخل المستعمرة الصهيونية مهم. لا لأنه سيسقط النظام العنصري، بل لأنه يربك الرواية الاستعمارية المهيمنة، ويشق في جدار “الإجماع الصهيوني” فتحة، يمكن لمن في الخارج أن يوسعها.

وعودة إلى سؤالك المهم: هل ثمة بصيص أمل يأتي من هناك، من “الداخل الإسرائيلي”؟

الجواب القصير هو: نعم، هناك ومضات إنسانية خجولة. لكن الجواب الأعمق هو: لا، هذا ليس أملا يمكن أن يبنى عليه سياسيا.

لماذا؟

لأن إسرائيل ليست مجرد كيان سياسي تقليدي يمكن إصلاحه عبر الانتخابات، أو التأثير عليه عبر مظاهرات داخلية. بل هي جزء بنيوي من نظام الحداثة المادية الغربية الذي يتمحور حول مركزية الجنس الأبيض ومشروعه للهيمنة العالمية. ومركز استعماري استيطاني- إحلالي متقدم يتموضع في نقطة الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري للمنطقة العربية - الإسلامية الممتدة في الجزء الجيواستراتيجي والجيوسياسي الأهم في جنوب الكرة الأرضية، المستهدفة جلها بالإخضاع والسيطرة، لدورها الحيوي في توفير الموارد والطاقة والعمالة الرخيصة والأسواق الاستهلاكية الشاسعة. ولأهميتها المحورية في ترجيح موازين القوى العالمية. 

وهي مجمع استيطاني وظيفي تأسس على الخوف الوجودي اليهودي الذي عززه الاستهداف الأوروبي العنصري على مدى قرون، ونتاج لتواطؤ النخب الإمبريالية الأوروبيّة واليهودية وتوافقهما معا لتجنيد يهود العالم في استكمال تنفيذ مشروع الحداثة المادية الكوني لاستكمال السيطرة على جنوب الكرة الأرضية بدءا من منتصف القرن الثامن عشر، بعد أن أباد الشعوب والحضارات الأصيلة وأحكم سيطرته على شمالها عقب صعوده في القرن السادس عشر.

 وعليه، فإن إسرائيل كيان صمم وتأسس على الاحتلال والطرد والقتل والمحو، بتسويغ أساطير دينية ووعد إلهي مزعوم للشعب المصطفي على كل الأغيار من سائر خلق الله، الذي لا يرى فيهم سوى مخلوقات مسخرة لخدمته. وتقوم شرعيته الذاتية على استمرار نفي الفلسطيني، وكل من يقاوم في المحيط العربي والإسلامي. وهذه بنية لا تتحول من داخلها، ولا تتطهر بالاحتجاج.

وعليه، فكل من يعارض الحرب في إسرائيل أو يرفض الخدمة العسكرية، إنما يفعل ذلك من موقع فردي مهم، لكنه غير قادر على شق مسار سياسي بديل. بل على العكس، فإن ما يجري منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر/ 2023 هو تعميق للروح الفاشية داخل المجمع الاستيطاني الصهيوني. وما يسمى بالأحزاب “اليسارية الاسرائيلية” لا تملك مشروعا بديلا. والمعارضة لنتنياهو وائتلافه الديني والقومي ليست معارضة على مبدأ الإبادة، بل على مدى كفاءتها في إنجاز المهمة بالسرعة القصوى والكلفة الدنيا.

البنية لا الصوت

علينا التمييز بين أصوات خارج السرب وبين تحول في البنية الاجتماعية والسياسية.

·       الأولى موجودة دوما في كل منظومة استبداد أو استعمار، وهي تحظى بالتقدير الأخلاقي، لكنها لا تغيّر موازين القوى.

·       الثانية، أي التحول البنيوي، غير وارد في السياق الإسرائيلي لأنه لا يتاح إلا إذا تعمقت الصدوع في نظام الحداثة المادية المهيمن وانهزم المشروع الصهيوني نفسه، 

من هنا، فإن أي رهان على “يقظة الضمير الإسرائيلي” يعيد إنتاج وهم قديم: أن الاحتلال يمكن أن يسقط بالتفاهم، أو بإقناع المستعمر بأنه ظالم. وهذا ما حاولته أوسلو… فانتهت إلى شرعنة الاستعمار بدل تفكيكه.

البعد الاجتماعي والثقافي: هل من شق في البنية؟

لعلّ من المفيد، أن نوسع سؤالنا، وننتقل من قراءة “الحدث” إلى قراءة “المنظومة”. وهنا، لا يمكن إغفال أثر المنظومة التعليمية والإعلامية داخل الكيان الصهيوني، والتي رسخت على مدى ثمانية عقود سردية “الضحية/البطل”، وصاغت هوية جماعية تستبطن عنفا مستمرا، وتبرره باسم “الأمن”.

ففي المدارس الإسرائيلية، تدرس “نكبة الفلسطينيين” بوصفها “حرب استقلال”، ويتم تلقين الأطفال أن الفلسطيني لا اسم له، بل هو “خطر” يجب تغييبه بالقتل، أو احتواؤه، أو ترحيله، أو “التعامل معه بالقوة والإخضاع”.

أما الإعلام، فقد لعب دوره كذراع تعبوي في ماكينة العنف، يشيطن الفلسطينيين، ويطمس حقيقة النكبة والاحتلال، ويقدم جيش العدوان بوصفه “درع الإنسانية”!

في ظل هذه البيئة، تصبح الأصوات التي تحاول أن تشكك في الرواية الرسمية - حتى داخل “كان” أو “هآرتس” - بمثابة حالات مقاومة معزولة، لا أكثرنعم، لا بد من التقاطها، ولكن من دون أوهام.

المشروع البديل: الرهان على الذات

لهذا، فإنني أشاركك اليقظة والحذر معا.

نعم، علينا أن نلتقط كل صوت خارج عن الإجماع العنصري داخل إسرائيل، لا لنعوّل عليه، بل لنوظفه في معركة الرواية، ولنثبت أن الإجماع ليس مطلقا، وأن “الديمقراطية الإسرائيلية” ليست سوى واجهة مضلّلة.

لكن، وهنا بيت القصيد، لا يمكن لأي بصيص أن يشكل مخرجا من دون مشروع بديل واضح المعالم، ينبع منا نحن، من داخل الوعي الفلسطيني والعربي.

فالتاريخ لا يصنعه ارتباك العدو، بل اندفاع الحركات الشعبية المقاومة.

والمستقبل لا تبنيه ثغرات في جدار المستعمِر، بل قدرة المستعمَر على تحويل الغضب إلى مشروع تحرري شامل، يجمع بين المقاومة السياسية والثقافية، الاقتصادية والاجتماعية.

إن المعركة الحقيقية ليست في “انتظار صحوة إسرائيلية”، بل في استنهاض صحوة فلسطينية-عربية، قاعدية، لا نخبوية فقط.

صحوة تعي أن العدو لا يرتدع إلا حين نخترع له ميزان قوى جديد، لا يعترف بشرعية احتلاله، ولا يتعايش مع أمر الواقع، ولا يتردد في إزعاجه: بالكلمة، بالحركة، وبكل وسائل المقاومة الممكنة.

من الأسى إلى الفعل

ما كتبته يشبه مرآة، نرى فيها هشاشتنا، لكن نلمح فيها أيضا قدرة الكلمة على أن تقاوم.

الأمل؟ من نحن، لا من “هم”

إذاً، من أين يجيء الأمل؟

من حيفا أو تل أبيب؟

أم من غزة التي تقاتل بلا ماء؟

من المعارضة البرلمانية في الكنيست؟

أم من أجساد الأطفال التي تُقاوم بلحمها وحده؟

الأمل يأتي:

·       من الفعل، لا من الانتظار.

·       من تحرر الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي من منطق “واقعية الهزيمة”.

·       ومن انفجار حركة شعبية تحررية في كل أرض محتلة أو مقموعة.

·       من إعادة تعريف فلسطين بوصفها نقطة البدء في تحرر عربي شامل، لا مجرد ملف تفاوضي معقد.

من الانتظار إلى الفعل

·       كل لحظة انتظار لضمير الآخر أن يستيقظ، هي لحظة نزف.

·       كل رهان على “إسرائيل أخرى” هو تعطيل لإمكان ولادة “نحن أخرى” فلسطينية - عربية، حرة، مقاومة.

نعم، هناك شموع مضيئة في ظلام المستعمرة. لكن الضوء الحقيقي لا ينبثق من هناك. ينبثق من:

·       شعلة المقاومة التي لم تنطفئ رغم الإبادة،

·       ومن تصميم شعوب تعبت من الضعف، وتبحث عن المعنى لا عن التبرير.

نعم، ثمة بصيص أمل…

لكن ليس في رفة أجفان الجنود الرافضين للخدمة، أو العابثين بالمسيرات. وليس في المسنة التي تحاول التطهر قبل مواجهة خالقها. ولا في ارتباك المعارضة. ولا في دمعة صحفي، بل في عيون أطفال غزة، وهم يتشبثون بالحياة كي لا يهزموا

 

 

 

مشاركة: