الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   29 تموز 2025

| | |
بين الانكشاف البنيوي وانفجار المعنى قراءة في مقال الأستاذ حمدي فراج “قانون نفي النفي: من يفني من؟ إسرائيل أم غزة؟”
غانية ملحيس

هذه ليست المرة الأولى التي نقرأ فيها مقالا عن المجازر في غزة. لكنها من المرات النادرة التي نجد فيها نصا يتجاوز ردود الفعل المباشرة، لينفذ إلى عمق الحدث بوصفه كاشفا لبنية، ومفجرا لمعنى.

مقال الأستاذ حمدي فراج ليس تعليقا سياسيا عابرا، ولا انفعالا وجدانيا، بل هو محاولة تأويلية تضع المجازر في سياقها البنيوي، فتقرأ ما يجري في فلسطين اليوم كعلامة على ارتجاج المشروع الصهيوني من جوهره، ليس على مستوى السياسات فقط، بل على صعيد منطق القوة ذاته، الذي بدأ يتآكل من داخله.

يعيد فراج الاعتبار للجدل بوصفه أداة تحليل. ليس الجدل الخطابي، بل جدلية التاريخ حين يتقاطع الفعل المقاوم مع التناقضات البنيوية لمنظومة استعمارية تلفظ أدواتها. فـ” نفي النفي” هنا ليس اصطلاحا فلسفيا فحسب، بل تشخيص دقيق لمرحلة بلغت فيها إسرائيل، وهي تضرب وتقتل وتدمر، حالة من الفعل الغريزي الفاقد للبوصلة. إنها تعيد إنتاج عجزها باسم “الردع”، لكنها تفشل في كسر إرادة، أو انتزاع اعتراف، أو حتى فرض وهم الانتصار.

تكمن أهمية المقال في أنه لا يركن إلى بلاغة الألم، ولا يكتفي بوصف المأساة، بل يخترق سطح الحدث إلى عمقه، حيث تتعرّى سردية القوة، ويتبدل منطق السيطرة. وتبرز المقاومة هنا، ليس كفعل دفاعي، ولا كاستجابة ظرفية، بل كأزمة بنيوية لمنظومة استعمارية عالمية بدأت تتصدع.

في هذا الأفق، لا تبرز غزة كضحية فحسب، بل كفاعل تاريخي، وكعقدة مركزية في انكشاف المشروع الاستعماري. إنها الجغرافيا التي تختبر فيها إسرائيل ورعاتها آخر أدواتهم… ويفشلون جميعا.

السؤال الذي يختم به فراج المقال - أو يفتحه في الحقيقة - يجب أن يؤخذ إلى ما هو أبعد من المقال:

هل وصلت إسرائيل إلى لحظة نفي مشروعها بنفسها؟

وهل تكون غزة، وهي تفنى ظاهريا، هي من يفني المشروع الصهيوني رمزيا وتاريخيا؟

لا يكتفي المقال بإدانة الجريمة، بل يقرأ دلالاتها العميقة، ويفتح أفقا تفكيريا يتجاوز ثنائية “نصر/هزيمة”، نحو مقاربة ترى الصراع كـ” سيرورة تفكك” تجري أمام أعيننا. وهي سيرورة لا تستدعي التضامن فحسب، بل تستدعي مراجعة أدواتنا التحليلية والاشتباكية، بما يمكننا من التفكير والفعل في آن.

إنني أتشرف بمشاركة هذا المقال، يقينا بأنه من النصوص القليلة التي لا تشرح الحدث، بل تشرّحه، ومن القراءات التي لا تكتفي بملاحقة الكارثة، بل تبصر ما بعد الكارثة.

 

مشاركة: