الدكتور عاهد حلس كاتب وباحث فلسطيني من غزة، عرف بمزجه بين السرد الأدبي والتحليل الاجتماعي والسياسي، وبأسلوبه الذي يلتقط التفاصيل اليومية العادية، ليكشف من خلالها بنى أعمق من التمييز والهيمنة.
شعره ومقالاته لا تتوقف عند نقد الاحتلال فحسب، بل تتوغل عميقًا في نقد الذات والمجتمع، كاشفة عن صور الاستعمار الداخلي وآثار الانقسام الفلسطيني.
في كتاباته اللافتة، يتجاور الخاص والعام، حيث يصبح الحدث الشخصي مرآة لقراءة المشهد الوطني بكامله.
في مقاله القصيرالنافذ على صفحته بالفيسبوك بتاريخ 15/8/2025، يضعنا د. عاهد حلس أمام مشهد يومي بسيط: حوار عابر تصادف أن يكون هذه المرة بين شاب غزّاوي وفتاة تلحمية أو مقدسية، لكنه مألوف فلسطينيًا أيضًا، بين القروي واللاجئ والفقير وابنة المدينة. حين ينقلب من التعارف إلى خيبة معلنة بعبارة واحدة: "خسارة إنك من غزة"، أو "خسارة إنك فلاح أو ابن مخيم أو فقير".
من هنا، يتفكك أمامنا مشهد أوسع عن خرائط التمييز غير المرئية داخل فلسطين، وعن آليات الاعتراف المشروط التي تكرّس مركزًا وهامشًا في المجتمع الواحد القابع تحت احتلال يسعى لمحوه من الوجود.
"غزة البطلة!! نعم، ولكن في مواسم الموت فقط. هكذا يحبونها…" كما يقول عاهد.
1. من الحوار العابر إلى التشريح البنيوي
ينطلق عاهد حلس من حوار قصير يفتح على طبقات من المعنى:
• سؤال الأصل: "إنت من غزة؟"
• نبرة الخيبة: "مش باين عليك… خسارة إنك من غزة".
هذه الجملة تؤسس لعالم سردي تتحول فيه غزة من جغرافيا إلى وصمة، ومن رمز وطني إلى علامة تمييز داخلي.
2. ما بين الاستعمار الخارجي والاستعمار الداخلي
في فلسطين، يتجاور الاستعمار الخارجي مع استعمار داخلي يتبنّى منطق "المركز" و"الهامش" الذي ورثه عن القوة المحتلة، لكنه يوجّهه نحو أبناء الوطن أنفسهم. يصبح الغزّاوي، واللاجئ، والفلاح، والفقير، والأنثى، والمختلف لونًا أو دينًا أو انتماءً، "آخرًا" في وطنه. لا يُستعاد إلى حضن الهوية إلا وهو ينزف، فيتحوّل الانتماء إلى امتياز مشروط بالدم، لا حق أصيل.
هنا، يسبق الإقصاء الداخلي زوال الاستعمار الأجنبي، فتتحول الهوية الوطنية من انتماء طبيعي إلى امتياز مشروط بالدم، فيصبح الفلسطيني بحاجة دائمة لإثبات وجوده وحقه في الاعتراف، حتى وهو على أرض وطنه، فيما يُستثنى من هذه المعايير المقاوم المنخرط ضمن التنظيمات الإسلامية حتى في أقسى لحظات نزفه. فهو الآخر دائمًا.
3. العنف الرمزي والحدود الاجتماعية غير المرئية
تمارس أشكال من العنف الرمزي عبر جمل اعتيادية تضع حدودًا اجتماعية لا تُرى. عبارة مثل "خسارة إنك من غزة" - أو كما أضيف من واقع مشاهداتي: "إنك لاجئ أو غير مسلم أو فلاح أو فقير" - تعيد إنتاج هذه الحدود وتحدد من يستحق الاعتراف الكامل ومن يُحجب عنه.
4. نيكروسياسة مواسم الموت
يشير د. عاهد حلس إلى ما يمكن تسميته بـ نيكروسياسة (Necropolitics)، وهو مفهوم صاغه الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي، ويعني "السياسة التي تتحكم بمن يعيش ومن يموت".
النيكروسياسة هنا ليست مجرد نظرية، بل واقع يومي يحدّد فيه الاحتلال إيقاع الحياة والموت للفلسطينيين. الموت ليس حادثًا عابرًا، بل أداة لإخضاع الإرادة وإعادة تشكيل المجتمع. تُحاصر الحياة بين القصف والجوع والحصار، وتصبح حتى طريقة الموت جزءًا من هندسة السيطرة، بحيث تختزل الكرامة في لحظة استشهاد، وتهمش وهي على قيد الحياة.
هذه السياسة تجعل الفلسطيني محكوما ليس فقط بالاحتلال، بل بزمنه، ومكانه، وجنسه، وانتمائه الطبقي أو الديني أو التنظيمي، وحتى بطريقة حياته ومماته.
في مفارقة قاتلة، تصبح الحياة نفسها رهينة لموت مخطط، والموت أداة لتسيير المجتمع وفق أجندة الهيمنة، حيث يُختزل الوجود الإنساني إلى توقيتات وأدوار محددة.
5. التمثيلات الجاهزة
يسرد د. حلس قائمة من الصفات النمطية: "لاجئ، فقير، مقاوم، صلب، فوضوي، متهور، عنيد…". هذه القوالب تقفل الهوية وتختزل الفرد في دور واحد، مع إعفاء الآخر من مسؤولية رؤيته كإنسان متعدد الأبعاد.
6. الحب كمساحة تمييز
ينتقل عاهد إلى مساحة وجدانية، حيث يخترق التمييز حدود المشاعر والعلاقات. الرفض العاطفي المبني على الانتماء الجغرافي أو الطبقي أو الديني يكشف أن الحدود الاجتماعية تسكن حتى أكثر المساحات خصوصية. كلماته تقطر وجعًا حد البكاء:
"اللعنة، من الذي قسم الوطن ورسم حدودًا وهمية فوق الخراب؟"
7. الاقتصاد السياسي للرمز
يشير المقال بوضوح إلى الفجوة بين الرأسمال الرمزي الذي تمثله غزة في الخطاب السياسي، وبين الحصص الفعلية في توزيع الموارد والفرص. هذا الاستخدام النفعي للرمز يعكس خللًا في الثقافة السياسية الفلسطينية، يتفاقم بعد الانقسام.
8. من أسطورة الدم إلى كرامة الحياة
غزة ليست أسطورة فقط حين تنزف، وليست عبئًا حين تحيا. هي قلب فلسطين الذي لا يكف عن النبض، حتى لو حاولوا تغليفه بأسلاك الحصار أو جدران التمييز.
إن كان الهتاف لغزة وفلسطين صادقًا، فليكن في كل يوم، وفي كل سياسة توزيع، وفي كل مقعد جامعة، وفي كل فرصة عمل، وفي كل علاقة حب. الاعتراف لا يُقاس بالدم المسفوك وحده، بل بالكرامة في الحياة.
فلتسقط كل الحدود الوهمية التي رسمها الاستعمار على الخراب، وتلك التي رسخها خوفنا وصمتنا وتواطؤنا. ليعد الغزّاوي واللاجئ والفلاح والفقير والمختلف، جميعًا، إلى مكانهم الطبيعي: شركاء كاملو الأهلية، لا أيقونات معلقة على جدار الخطابة، بل مواطنون في وطن حر… وطن لا يطلب من أبنائه أن يموتوا ليحبّهم.