الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   17 آب 2025

| | |
مروان البرغوثي: بين الرمز والمسار في زمن الإبادة - قراءة في مقال خالد عطية "مروان البرغوثي… حين يصبح السجن وطنًا مؤقتًا"
غانية ملحيس

في اللحظة الفلسطينية الراهنة، تتواصل الإبادة الجماعية في قطاع غزة ومخيمات الضفة الغربية منذ 681 يوما. يشتد الحصار والتجويع، فيفتك بمئات الضحايا معظمهم من الأطفال. وفي ظل انسداد سياسي شامل، يظل اسم مروان البرغوثي أكثر من مجرد اسم شخص، إنه اختبار حي لفكرة القيادة الوطنية وإمكان بناء مشروع تحرري جامع.

في مقاله المتميز، يقدم خالد عطية معالجة دقيقة لمكانة البرغوثي، ليس كرمز فحسب، بل كرأسمال سياسي حيّ، ويفتح نقاشا أوسع حول العلاقة بين الفرد والبنية، وبين الرمزية الشخصية ومسار التحرر الوطني.

في هذه القراءة، أحاول إبراز القيمة المضافة في مقالة عطية: التحذير من مخاطر الرهان على الفرد وحده، والتشديد على ضرورة تحويل الرموز الوطنية إلى لبنات في مشروع مؤسساتي شامل، يضع الشعب ومصلحته الجماعية في قلب المعادلة.

أزمة البنية السياسية الفلسطينية ومأزق المشروع الوطني

أهمية المقال تكمن في أنه لا يتعامل مع البرغوثي كشخص، بل كعلامة على أزمة البنية السياسية الفلسطينية من جهة، وإمكان إعادة تعريف المشروع الوطني من جهة أخرى.

يبرزعطية ثلاثية وجوه البرغوثي: السياسي الميداني، الرمز الأخلاقي، ورأس المال الشعبي، رابطا بين سجنه الشخصي وسجن الجماعة الفلسطينية تحت الإبادة والحصار. والأهم أنه يضع وثيقة الأسرى (2006) في سياقها كخريطة طريق وحدوية لا كمجرد نص أخلاقي، ما يعيد فتح النقاش حول السجن كفضاء لتوليد المعنى الوطني.

الرمز والمسار: الفصل الضروري

أبرز ما يطرحه خالد أنه يميّز بدقة بين الرمز والمسار. فالتجربة الفلسطينية والعربية أثبتت أن اختزال السياسة في "المخلّص" غالبا ما يقود إلى جمود البنية وإجهاض فرص التغيير.

البرغوثي قد يشكل رافعة وطنية، لكن من دون بنية تنظيمية - مؤسساتية جامعة، ستبقى قدراته محكومة بحدود الفرد. هنا يفتح خالد عطية الفرصة لطرح سؤال جوهري:

•  هل نبحث عن "مانديلا فلسطين"، وهل تتوفر الشروط البنيوية التي مكّنت مانديلا من قيادة تحرير جنوب إفريقيا؟

الواقع أن الفارق عميق. جنوب إفريقيا واجهت استعمارا استيطانيا واحدا. بينما يواجه الفلسطينيون استعمارا صهيونيا مدعومًا بشبكة دولية متغلغلة تمتد إلى البنية المحلية والإقليمية، مع أدوات هيمنة سياسية واقتصادية. هنا يظهر دورالوحدة التنظيمية الصلبة والحاضنة الدولية في نجاح التحرر. بينما ظل الفلسطينيون أسرى الانقسام وتفتت البنية الوطنية، وسط نظام فلسطيني وإقليمي بالغ الهشاشة. لذلك فإن استدعاء نموذج مانديلا مفيد كرمزية، لكنه غير كاف لفهم خصوصية الحالة الفلسطينية.

إخراج الفرد دون تحرير المسار: الخطر البنيوي

يتعمق هذا البعد السياسي في ضوء تصريحات قادة السلطة الفلسطينية عن بحثهم في سبل الإفراج عن البرغوثي. الخطر أن يتحول الأمر إلى مجرد ورقة تفاوض داخلية لإعادة شرعنة سلطة مأزومة، بدل أن يكون لحظة تأسيسية لمشروع وطني جامع.

الإفراج عن الفرد من دون تحرير المسار، إنقاذ الاسم دون إنقاذ القضية، لا يعني سوى إعادة إنتاج الوهم بأن الحل يأتي من فوق.

من الرمز إلى العقد الوطني الجديد

تحويل البرغوثي إلى رافعة وطنية حقيقية لا يتم بمجرد الإفراج عنه، بل عبر إدماج معناه السياسي والأخلاقي في مشروع بنيوي مؤسساتي جديد. وهذا يستدعي:

•  عقد وطني جامع  تشارك فيه القوى والأسرى والحراكات الشعبية والنقابات وممثلو الداخل والشتات، يحدد برنامجا نهضويا تحرريا إنسانيا موحدا لجميع مكونات الشعب الفلسطيني .

•  بناء قيادة جماعية تتوزع المسؤوليات بدل أن تختزل في فرد أو نخبة.

•  تحويل وثيقة الأسرى إلى برنامج عمل سياسي ملزم، لا مجرد نص أخلاقي.

•  توسيع الحاضنة الشعبية الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية لهذا العقد الجديد.

الرموز كمرآة للمعنى

استدعاء صورة البرغوثي بعد زيارة بن غفير لزنزانته (15/8/2025) يشبه استدعاء صور أنس الشريف أو شيرين أبو عاقلة: ليس تقديسا للأفراد، بل قراءة لما يمثلونه من معنى وكرامة في زمن الإبادة والمحو المادي والمعنوي.

الرموز الوطنية - من  جمجوم والقسام والحسيني إلى ياسين وعرفات والأعرج والسنوار – لم تكن بدائل عن البنية، بل مرايا للكرامة الجماعية. قوتها تكمن في ربط التضحية الفردية بالمشروع الوطني التحرري الجماعي.

الرمز في زمن الإبادة

ما يزيد من راهنية هذا النقاش أن استدعاء الرموز الوطنية لا يتم في فراغ، بل في لحظة إبادة وتجويع ممنهج. الرهان على الرموز في زمن المحو ليس ترفا، بل مسألة بقاء. ومن هنا، يصبح النقاش حول البرغوثي نقاشا حول الجماعة الوطنية كلها:

هل نكتفي باستدعاء الرموز كلما اشتد الفراغ، أم نحولهم - مع آلاف الأسرى والشهداء - إلى لبنات في مشروع وطني جامع يضع الشعب لا الفرد في مركز المعادلة؟

الجواب على هذا السؤال هو الفارق بين تأسيس عقد وطني جديد، وبين إعادة إنتاج المأزق ذاته. وهذا ما يجعل مقالة خالد عطية مدخلا لفهم اللحظة الفلسطينية الراهنة بكل تعقيداتها وأفقها الممكن.

في زمن الإبادة، يصبح تحرير الرمز الحقيقي مرهونا بتحرير المسار؛ فلا معنى للحرية الفردية إن لم تتحول إلى حرية جماعية. 

ذلك هو التحدي الفلسطيني الراهن: أن يتحول الرمز إلى عقد، وأن يتحول الفرد إلى مسار، ليصبح التحرر الجماعي حقيقة لا مجرد رمز.

 

مشاركة: