الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   21 آب 2025

| | |
غزة بين الأسطورة والعبء: حوار حول المناطقية الفلسطينية والوحدة الوطنية
غانية ملحيس

 

من بين القضايا التي تعصف بالوعي الفلسطيني في زمن الإبادة المستمرة على قطاع غزة، تطفو إلى السطح ظاهرة المناطقية بما تمثله من جرح نازف في الجسد الوطني، ومن عطب بنيوي يهدد وحدة الفلسطينيين وجدانيا وسياسيا. وقد جاءت مقالة د. عاهد حلس بعنوان “خسارة أنك من غزة”، وقراءتي لمقاله بعنوان “غزة: أسطورة حين تنزف، عبء حين تحيا”، وما أثارته من نقاشات، لتعيد هذه المسألة إلى دائرة الضوء. وما تلاها من تعليق ثري للدكتور فهد جبرين، شكلت جميعها مدخلا لحوار نقدي متعدد الأبعاد حول المناطقية الفلسطينية: جذورها، تجلياتها، ومسؤوليات معالجتها.

والواقع المأساوي في غزة اليوم، حيث يتواصل الحصار والإبادة منذ 682 يوما، يجعل هذه القضية أكثر إلحاحا، ويجعل معالجة المناطقية الوطنية أمرا عاجلا ووجوديا.

 

هذا المقال ليس مجرد تفاعل مع نصوص، بل محاولة لفتح حوار جاد حول كيفية تجاوز المناطقية، بوصفها أحد أخطر مظاهر الانقسام. وأداة استعمارية - محلية أُعيد إنتاجها فلسطينيا، ما يستوجب مواجهة نقدية عميقة تسعى إلى إعادة بناء السردية الوطنية الجامعة، حيث المقاومة والحياة متلازمتان، وغزة ليست أسطورة دامية ولا عبئا يوميا، بل جزء حي من مشروع تحرري شامل.

 

المقالات الثلاثة والحوار النقدي

 

من خلال فتح باب الحوار حول المقالات الثلاثة:

•  مقال د. عاهد حلس “خسارة أنك من غزة”.

•  قراءتي التحليلية لمقاله بعنوان “غزة: أسطورة حين تنزف، عبء حين تحيا”.

•  تعليق د. فهد جبرين.

 

يتضح ضرورة مقاربة المسألة المناطقية في السياق الفلسطيني بالتحليل والتدقيق، وفتح الآفاق لتوسيع الحوار البناء حول واحدة من أهم وأخطر مظاهر العطب البنيوي الفلسطيني، التي تستوجب التوقف عندها بالبحث والتحليل، للاتفاق أولا على التشخيص، ولتلمس سبل المعالجة.

 

محاور تعليق د. فهد جبرين

 

تضمن التعليق النقدي الثري للدكتور فهد جبرين سبعة محاور:

1.   نقد المثقف الفلسطيني المحلي/المناطقي: وقع المثقفون في فخ المحلية والمناطقية، مما أعاق بناء رؤية وطنية جامعة.

2.   فرادة التجربة الفلسطينية: التجربة التاريخية (النكبة، اللجوء، التهجير) أنتجت شخصية فلسطينية فريدة ومتنوعة.

3.   دور الأدب والثقافة في تجاوز المناطقية: جسّد غسان كنفاني ومحمود درويش الثقافة الفلسطينية الجامعة، وتجاوزوا المناطقية، ما جعلهم خطرا على الاحتلال.

4.   مسؤولية النخب والأنظمة في تغذية المناطقية: عززت النخب السياسية والحزبية المناطقية، واستخدمتها كأداة للنفوذ والسيطرة.

5.   غزة نموذجا - أثر النكبة والإدارة المصرية: 80% من سكان غزة لاجئون، والإدارة المصرية حولت المجتمع إلى شبه مغلق، بخلاف الضفة الأكثر انفتاحا.

6.   أثر الفصل الإداري والقانوني العربي: ساهمت الأنظمة العربية في خلق مجموعات فلسطينية تعيش ظروفًا اجتماعية وثقافية متباينة، رغم وحدة الانتماء الوطني.

7.   العودة إلى ما قبل النكبة لفهم المسألة: لفهم الانقسام، يجب العودة إلى ثقافة ما قبل النكبة؛ حين كان التواصل الطبيعي بين الغزي والمقدسي قائما.

 

وتساءل: من ينشر ثقافة المناطقية؟ ومن يدافع عنها؟ ومن يغذيها؟ وهل تجرأ أحد على مراجعة ذلك فلسطينياً؟

 

العطب البنيوي ومسؤولية الذات الفلسطينية

 

مع الاحترام والتقدير الكامل للتعليق النقدي الثري، إلا أنه لا بد من التوقف عند القضايا التالية:

 

صحيح أن الانقسام الجغرافي والتشظي الديموغرافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الفلسطيني، بين فلسطين 1948، الضفة الغربية، قطاع غزة، والشتات، كان نتاجا لدخول المشروع الاستعماري الغربي الصهيوني في فلسطين حيز التنفيذ في مطلع القرن العشرين، وبلوغ ذروته باجتثاث فلسطين من الخريطة الجغرافية، وإنشاء إسرائيل فوق 78% من مساحة فلسطين الانتدابية عام 1948، وتهجير 90% من السكان الفلسطينيين خارجها، ومنع نشوء كيان فلسطيني في المساحة المتبقية (22%) وإلحاقها بالأردن ومصر، واستكمال احتلالها عام 1967.

 

وقد كان لهذه الأحداث تداعيات بنيوية على الصعد كافة. وطالت الوعي الجمعي الفلسطيني، وأحدثت شروخا عميقة تحت ضغط الاستعمار. عمّقتها ضغوط وسياسات البنى السلطوية العربية المختلفة في المناطق التي عاش فيها الفلسطينيون.

 

إلا أنني توقفت في المقال عند ظاهرة التمييز الفلسطيني، لمسؤولية الحركة الوطنية الفلسطينية عموما، والسلطة الفلسطينية عن استمراره وتفاقمه، خصوصاً خلال حقبة أوسلو (1994-2025). وهو ما سعيت لتسليط الضوء عليه باعتبار إصلاح العطب البنيوي الفلسطيني مسؤولية ذاتية فلسطينية.

 

الجرح النازف للمناطقية في الوعي الفلسطيني

 

انطلاقاً مما تقدم، جاءت قراءة مقال عاهد حلس في زمن تواصل الإبادة الجماعية في قطاع غزة منذ 682 يوما، لتسليط الضوء على أخطر مظاهر العطب البنيوي الفلسطيني، دون الانتقاص من ظروف وأسباب نشأته. ووضع اليد على الجرح الفلسطيني النازف في قطاع غزة خصوصا.

فالإنصات لوجع غزة في زمن الابادة ليس فقط واجب وطني بديهي اتجاه درة التاج الفلسطيني، بل حق لغزة علينا جميعا كفلسطينين وعرب. فقد كان لها الدورالريادي على مدى أكثر من قرن في حمل القضية الفلسطينية. وفي حماية الهوية الوطنية. وفي إفشال مشروع التهجير والتوطين، وقيادة مشروع التحررالوطني بعد النكبة في مطلع الخمسينيات. وفي قيادة الانتفاضتين الأولى والثانية. وفي الدفاع عن المقدسات والانتصار لهبة القدس. ولم يتأخر الغزيون يوما عن نصرة أي جزء من الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه. ولا عن نصرة قضايا التحرر العربي من المحيط إلى الخليج.

وعليه فإن الإصغاء لأنين الغزيين أثناء الإبادة، واجب وطني وقومي وأخلاقي. بتسليط الضوء على التأثير التراكمي للتمييز الرسمي المناطقي في الوعي العام الفلسطيني، الذي بلغ مداه بعد السابع من تشرين الأول / أكتوبر/ 2023، ورفض تمظهراته التي تتبدى في:

 

•  اتهام النظام السياسي الفلسطيني الرسمي للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بتوفير الذريعة للعدو الوجودي. الذي يفرض على القطاع حصارا بريا وبحريا وجويا منذ عقود، حوله إلى أكبر سجن مفتوح على وجه الأرض عبر التاريخ. وشن عليه خمسة حروب متتالية خلال عقد ونصف، ويواصل محو الوجود الفلسطيني جغرافيا وديموغرافيا في الضفة الغربية ذاتها، وليس فقط في قطاع غزة.

 

•  إرباك الشعب الفلسطيني الذي التزم بصمت مريب غير مألوف وغير مسبوق فلسطينيا منذ النكبة، وتقاعس عن نصرة الأشقاء في قطاع غزة.

 

•  تصفية مخيمات الضفة الغربية المقاومة / جنين وطولكرم/ بمشاركة رسمية فلسطينية، مما سمح بالاستفراد بقطاع غزة، ووفر غطاء سياسيا لتخاذل النظام العربي وتواطؤ النظام الدولي.

 

ما يستوجب المسارعة في معالجته قبل أن يتحول الانقسام الجغرافي والسياسي إلى انقسام اجتماعي وثقافي، وتشظ عمودي يتعذر إصلاحه. فالساعة فلسطينيا لا تحتمل المماطلة، إذ أن استمرار الانقسام والمناطقية في ظل الإبادة والحصار المتواصل لغزة، يعني تعزيز معاناة السكان، وتسهيل مخططات الاحتلال للتفتيت والسيطرة والتهجير.

 

المناطقية: انحطاط سياسي وأخلاقي

 

المناطقية كحالة انحطاط سياسي وأخلاقي - كما وصفها جبرين - واستنكاره تحول غزة من رمز نضالي إلى “عبء” في المخيال الجمعي لبعض الفلسطينيين، رغم أنه حقيقة قائمة يتعذر تجاوزها بالقفزعنها.

 

لقد عبر عنها حلس بمرارة، ويشاركه فيها غالبية الغزيين داخل قطاع غزة وخارجه. ولم تنجم فقط عن النكبة والتقسيم الجغرافي، الذي تلاها وإلحاق الأجزاء التي بقيت خارج الاحتلال بأنظمة عربية مختلفة.

 

بل تجذرت بعد قيام السلطة الفلسطينية في أعقاب أوسلو، وعمّقتها السياسات التمييزية التي انتهجتها تجاه غزة في المجالات كافة: الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والثقافية، خصوصا بعد إزاحة عرفات من المشهد السياسي. وما تلاه من تغيير بنيوي في النظام السياسي الفلسطيني. وما أعقبه من انسحاب أحادي إسرائيلي من قطاع غزة عام 2005. تساوق معه النظام الفلسطيني الجديد. الذي تم استدراجه لانتخابات تشريعية لإدخال تنظيمات الإسلام السياسي في إطار أوسلو. وأسفر عن نجاح حركة حماس، ثم الانقلاب على نتائج الانتخابات بدعم إسرائيلي وعربي ودولي. والتأسيس، بذلك، لانقسام النظام السياسي الفلسطيني جغرافيا وسياسيا وإداريا. الذي وظّفه الكيان الصهيوني لتقويض فرص قيام دولة فلسطينية على حدود العام 1967. وفي هذا الإطار، فإن المسؤولية الفلسطينية الذاتية عن العطب لا تقل فداحة عن مسؤولية العدو الصهيوني والتواطؤ العربي والدولي.

 

أسطرة غزة وتهميشها

 

في مقالي حاولت تناول البعد الآخر للمسألة: أسطرة غزة حين تنزف، ومعاملتها كعبء حين تحيا.

فالخطاب الفلسطيني والعربي غالبا ما يحتفي بغزة حين تنزف وتقاوم، لكنه يتعامل معها كعبء حين تعود إلى الحياة اليومية بما تحمله من دمار وفقر وبطالة وحصار.

الهدف هو بيان المفارقة بين تمجيد المقاومة وتهميش الحياة، بين خطاب البطولة والخطاب اليومي، ولتسليط الضوء على أن النظرة العامة إلى غزة مشروطة بالدم والدمار، لا بالحياة الكاملة.

 

وهذا النقد يعيد توجيه النقاش من “المناطقية الجغرافية” إلى المناطقية الرمزية. والأهم أن هذه النظرة الرمزية لا يمكن فصلها عن الواقع اليومي لغزة، حيث يرزح السكان تحت حصار مستمر، وفي كل لحظة يصبحون طرفا في معركة البقاء، ما يفرض على أي نقاش وطني أن يتناول حياة الناس اليومية وليس مجرد الرموز.

 

كنفاني ودرويش: البديل الرمزي والسياسي

 

•     محمود درويش: فكك الجغرافيا الرمزية، وكتب عن فلسطين كوطن واحد موزع في الذاكرة. في شعره وحدة الجرح والحلم، بديلاً عن المناطقية.

•     غسان كنفاني: واجه المناطقية عبر الأدب والسياسة. في أعماله مثل “ما تبقّى لكم” و “رجال في الشمس” المكان لم يكن المشكلة، بل الفعل الجماعي. غزة كانت مسرح الانفجار النضالي، والشتات امتداد للوطن.

هذا هو الأهم: الفلسطينيون لا يتوحدون إلا حول برنامج وطني تحرري جامع يتجاوز المناطقية.

نحو حوار نقدي متعدد الأبعاد

حين نضع مقال عاهد حلس، مقالي، وتعليق فهد جبرين، وتراث درويش وكنفاني، تتشكل لوحة ثلاثية الأبعاد:

•  جبرين: المناطقية كمرض يفتت الوحدة الوطنية.

•  حلس وقراءتي: التناقض بين الأسطرة والتهميش في تمثيل غزة.

•  درويش وكنفاني: البديل الرمزي والسياسي - وحدة الجرح والمقاومة.

إن الخطر في المناطقية ليس فقط أنها تجزئ الجغرافيا، بل لأنها تحول غزة والضفة والداخل والشتات إلى هويات متنافسة، بدل أن تكون أبعادا متكاملة للهوية الفلسطينية الجامعة.

غزة بين الأسطورة والعبء… قلب الوطن ومرآة جرحه: نحو تجاوز المناطقية وبناء مشروع تحرري جامع

إن النقاش حول غزة والمناطقية ليس تفصيلا ثانويا، بل هو مرآة تكشف عمق الجرح الفلسطيني ومقدار العطب الذي أصاب بنيتنا الوطنية تحت وطأة الاستعمار والانقسام والسياسات الفلسطينية الخاطئة. فالاحتلال لم ينجح فقط في تقسيم الأرض، بل في شطر الوعي ذاته، وتحويل الجغرافيا إلى هويات متنافسة، بدل أن تكون أبعادا متكاملة لهوية وطنية جامعة.

غير أن دروس التاريخ وتجارب المقاومة، كما عكسهما درويش وكنفاني وأجيال النضال المتعاقبة، تبيّن أن تجاوز المناطقية ممكن، إذا ما استعيد البرنامج الوطني التحرري الجامع الذي يجعل من الوحدة الوجدانية والسياسية ركيزة لا غنى عنها.

المطلوب اليوم ليس الاكتفاء بتعرية المرض أو تسجيل التشخيص، بل الشروع في معركة معالجة جذرية:

•  بإعادة بناء السردية الوطنية التي ترى غزة والضفة والداخل والشتات مكونات متكاملة لوطن واحد.

•  بوضع سياسات عملية وخطط تنفيذية قابلة للقياس والتقويم، تعالج جذور العطب وتمنع إعادة إنتاجه.

•  وبتوحيد المقاومة والحياة معا، بحيث لا تكون غزة أسطورة دامية ولا عبئا معيشيا، بل قلبا نابضا في مشروع تحرري فلسطيني وعربي أوسع.

فالوطن لا يبنى بالأساطير ولا بالانقسامات، بل برؤية واضحة، ووعي نقدي، وعمل جماعي يرد على محاولات المحو والتفتيت بخلق بديل تحرري جامع.

وغزة ليست أسطورة عابرة، ولا عبئا متوارثا، بل بوابة الحرية التي لا بد أن تفتح على وطن واحد لكل الفلسطينيين، وطن يضم كل أبعاده الجغرافية، التاريخية، والوجدانية، ويستند إلى الوحدة الوطنية الجامعة كأساس لكل عمل تحرري مستقبلي.

إن معالجة المناطقية الفلسطينية اليوم ليست خيارا، بل ضرورة وجودية تحمي الوعي الوطني، وتحصن الفلسطينيين من تفكك إضافي في وجه الاحتلال، وتعيد الاعتبار لغزة كمكون أساسي في الهوية الوطنية الجامعة، لا كمركز للدماء فقط أو عبء يومي، بل كعنصر حيوي في المشروع الوطني التحرري الذي يشمل الضفة الغربية، الداخل الفلسطيني، والشتات.

 

مشاركة: