الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   23 آب 2025

| | |
عبد الجواد صالح: الضمير الذي رفض الانحراف… وداعا
غانية ملحيس

نودع اليوم عبد الجواد صالح عطا الحمايل، ذلك الفارس النبيل الذي صان بوصلته الوطنية في زمن تاهت فيه البوصلات. وترجل عن صهوة الحياة وهو وقود لمبدأ لم يعرف التهاون أو المهادنة.

ولد عبد الجواد صالح في مدينة البيرة عام 1931، ونشأ في أحضان الوعي السياسي والطلابي، فدرس الاقتصاد السياسي في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وتخرج عام 1955. وانخرط في مطلع شبابه بصفوف حزب البعث، الذي رفع شعارات الوحدة والتحرير، قبل أن يشكل وجهه الخاص في العمل الوطني المستقل.

عاد إلى الوطن حاملا أحلام فلسطين على كاهله، وعين رئيسا لبلدية البيرة عام 1972، حيث جعل منها نموذجا للمقاومة المدنية والتجربة الجماهيرية في مواجهة آلة الاحتلال ومشاريعه الاستيطانية. ثم أبعد إلى الأردن عام 1973، فأنشأ هناك مركز القدس للدراسات التنموية في عمان، لتحويل الألم إلى بصيرة والمعاناة إلى مشروع فكري لقيادة الجمهور وبناء الوعي المعرفي.

عاد عبد الجواد صالح إلى فلسطين في نيسان/أبريل/ 1993، قبل أشهر من توقيع اتفاق أوسلو في أيلول/سبتمبر/ من العام ذاته. سمحت له سلطات الاحتلال بالعودة في إطار مناخ ما بعد مؤتمر مدريد 1991، ومحاولة حكومة رابين، آنذاك، إظهار مرونة شكلية. لم تكن عودته ثمرة لاتفاق أوسلو ولا جزءا من ترتيباتها. ومنذ لحظة عودته، ظل متمسكا باستقلاليته الفكرية والسياسية، وناقدا صريحا لانحراف المسار الوطني.

آمن بإمكانية التغيير، فشارك في أول انتخابات تشريعية حين فاز بعضوية المجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996. ثم عين أول وزير للزراعة في السلطة الفلسطينية، بيد أنه استقال عام 1998، ليرفع راية الاستقامة ويرفض أن يكون شريكا في نزاعات المنصب. فقد كان يؤمن أن المسؤولية تكليف لا تشريف.

وكان من الموقعين على “أول بيان علني ينتقد الفساد، في تشرين الثاني/نوفمبر/ 1999: “وثيقة العشرين”، تحت عنوان “صرخة من أرض الوطن”.

تجسدت استقامته الوطنية في لحظة فارقة، حين قدم استقالته من المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في 12كانون الثاني /يناير/ 2020، معلنا رفضه لكل انحراف عن المسار الوطني. ومستنكرا التنسيق الأمني والتفرد بالقرار، وتجاوز مبادئ الشفافية والمساءلة. كانت استقالته إعلان ضمير فلسطيني لا يساوم، رسالة أخلاقية وسياسية مفادها أن القضية الفلسطينية أسمى من أي منصب أو مساومة. بهذه الخطوة، لم يكتف عبد الجواد صالح بالكلمة وحدها، بل جعل الفعل ذاته معيارا للالتزام بالمبادئ، ودرسا للأجيال حول الشجاعة الأخلاقية في مواجهة الانحراف والمهادنة.

حافظ عبد الجواد طوال حياته على بوصلة الاستقامة، رافضا المساومة، منتميا إلى الأرض والكرامة قبل الانتماءات التنظيمية.

عبد الجواد صالح المفكر والموثق

لم يكن عبد الجواد صالح مناضلا سياسيا فقط، بل كان أيضا صاحب قلم وذاكرة حية. حوّل تجربته ومعايشته للاحتلال إلى نصوص بحثية وتوثيقية تحفظ للأجيال حقيقة ما جرى وما يزال يجري. فأصدر عمله الضخم “الأوامر العسكرية الإسرائيلية” عام 1986  في أربعة أجزاء، حيث فضح فيه، عبر التوثيق والتحليل، آليات الاحتلال القانونية التي حوّلت حياة الفلسطينيين إلى شبكة من القيود.

كما خاض مجالات بحثية متنوعة، فوثّق المجازر الصهيونية في النكبة. وكتب في الذاكرة الجماعية الفلسطينية. وفي حركة فتح وجذورها الاجتماعية. ووقف أمام ظواهر مثل العملاء والاغتيالات خلال الانتفاضة. وكان من أوائل من صاغ مفهوم “الإبادة الاجتماعية - السوسيوسايد” لشرح الطابع الفريد للهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية التي تستهدف المجتمع الفلسطيني في عمقه الاجتماعي والثقافي، وليس في أرضه فقط.

لم يكتفِ عبد الجواد صالح بالتنظير، بل أشرف على دراسات موسعة عن القرى المدمرة. ودوّن شهادات ومذكرات تعكس نبض التجربة الفلسطينية. وهكذا امتد حضوره من الميدان إلى الكتاب، ومن العمل الجماهيري إلى البحث الأكاديمي، جامعا بين المقاومة بالفعل والمقاومة بالكلمة.

كان رجلا فضلا حتى النهاية، متمسكا بالأمل رغم جراحه العميقة، فقد استشهد ابنه ماهر عام 1974 أثناء تدريبات عسكرية في لبنان، لكن عبد الجواد استنفر آلامه ليشعل جذوة المقاومة، مؤمنًا أن فلسطين قضية أجيال.

حافظ عبد الجواد صالح على قناعاته ومبادئه طوال حياته، فاختار الابتعاد عن الأضواء، والتمسك باستقلاليته، بعيدا عن أي مساومات. ورحل بهدوء، كما عاش، تاركا إرثا من الكلمة الصادقة والعمل الوطني المستقيم، وصوتا ما يزال يرن في ضمير كل فلسطيني حر.

نودعه اليوم ونودع معه الصوت الذي لم يُسكت، والضمير الذي لا يلين، والإنسان قبل السياسة. رحيله يطوي صفحة رجل، لكنه لا يطوي ذاكرة فلسطين.

رحلت أيها الرجل النبيل عبد الجواد صالح، والذكرى تبقى حضورا حيا: في مشهد البيرة، في كتاباتك، وفي بذرة زرعتها في ضمير شعب.

 لقد رحلت، لكن خطواتك ما تزال ترنم الأرض، وصدى كلماتك ما يزال يوقظ الضمائر النائمة.

رحمك الله، وأسكنك فسيح جناته، وحقق ما دربت عليه: وطن حر، كرامة لا تساوم، وبوصلة لا تنحرف.

 

مشاركة: