الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   31 آب 2025

| | |
من “القربان” إلى سبارتاكوس العصر قراءة في مقال عادل الأسطة: “هوامش من وحي ما يجري في غزة: تل الزعتر وبيروت وغزة وثلاث قصائد لمحمود درويش”
غانية ملحيس

1. من القربان إلى السؤال الجوهري

قراءة عادل الأسطة لقصيدة محمود درويش “القربان” وربطها بحصار غزة اليوم تعيد التذكير بقوة الأدب في تشخيص المأساة الفلسطينية وتجسيدها. فقد كان درويش بارعا في تحويل الحصار إلى أيقونة شعرية، تضع الفدائي أو المحاصر في مواجهة العدو وخيانة الأنظمة وصمت العالم.

لكن وظيفة المفكر والمثقف والسياسي لا تتوقف عند حدود التصوير الأدبي. فالأدب يصف ويجسّد، أما الفكر النقدي فينطلق من هذا التشخيص لاستخلاص الدلالات السياسية والتاريخية. ومن هنا ينهض السؤال الأهم: إذا كانت غزة اليوم قربانًا، فلماذا يظل الفلسطيني والعربي قربانًا منذ قرن وأكثر؟

2. النظام الغربي والواقع التاريخي للقربان

يكمن الجواب أولًا في النظام الغربي الحداثي، المادي–العنصري، القائم على عقل أداتي يتمركز حول العرق الأبيض. هذا النظام الذي سيطر على شمال الكرة الأرضية منذ خمسة قرون، سعى وما يزال يسعى إلى تطويع الكون لجبروته، واضعا لنفسه رؤى وأهدافا وخططا معلنة ينفذها بخطى ثابتة.

وخلال ذلك لم يتحمل يوما عواقب جرائمه بحق الشعوب الأخرى، بل واصل تغوّله مستعينا بمنجزات التقدم العلمي والتكنولوجي والذكاء الاصطناعي لإخضاع ما استعصى عليه بالقوة التدميرية الهائلة. والسبب بسيط: أن عوائد استباحة البلاد والعباد من غير البيض ما تزال تفوق كلفتها بأضعاف مضاعفة، وفق منطق الرأسمالية التي لا تراجع سياساتها إلا عندما تتجاوز الكلفة العائد. وهكذا وجد الفلسطيني والعربي نفسيهما، جيلا بعد جيل، في موقع القربان الدائم لمعادلة استعمارية لم تتوقف عن إعادة إنتاج نفسها.

3. الجنوب العالمي وفشل النخب العربية

ثانيا، يقف الجنوب العالمي مثقلا بتداعيات قرون من الإبادة والتطهير العرقي والنهب الاستعماري والاستعباد. بعض شعوبه تمكن من التحرر لكنه انكفأ على ذاته، فيما غالبيته في إفريقيا وجنوب غرب آسيا ما تزال تواجه صراع البقاء.

أما العرب ومعظم المسلمين فما يزالون عالقين بين الصدمة والإنكار، لا يتحرك منهم إلا قلة قليلة اختارت المقاومة. والفلسطينيون، في قلب هذا المشهد، يصرخون من الضربات الموجعة ويرفعون شعارات الصمود، لكن هذه الشعارات لا تتحول غالبا إلى خطط عمل. والأسوأ أنهم يسيرون خلف نخب مفتونة بالغرب ذاته. هكذا تتحول المأساة إلى مأساة مضاعفة: ضحية لا تكتفي بالتغني بجراحها، بل تعجب بجلادها، فتراه مرجعا، وتستعير معاييره، وتطلب رضاه، بينما هو لا يراها إلا مشروع قربان جديد.

4. التمرد والتفاوض: حلقة واقعية الشعوب الأصلية

وحين يتمرد بعض المقهورين ويسعون لتغيير الواقع، لا يواجهون قوة عدوهم فحسب، بل يواجهون أيضا أولئك المفتونين به من بين ضحاياه أنفسهم. وعندها يُلقى في طريقهم طُعم التفاوض، فيروج البعض لفكرة إمكانية مهادنته وينخرطون في تسويات مرحلية. هذه التسويات لا تنتهي إلا بتكريس ما انتزعه العدو أصلا، ليفتح بعدها جولة جديدة من العدوان، ناقضا الاتفاقات أو متذرعا بحجج واهية لاستئناف هجماته.

وهكذا كان مصير الشعوب الأصلية في الأمريكيتين وأستراليا ونيوزيلندا كارثيا. لم يُبَادوا فقط لأن العدو كان أقوى، بل لأنهم غيروا أهدافهم تحت ضغط ما سمي بالواقعية السياسية. وهذا بالضبط ما يراد للفلسطينيين أن يسلكوه: مسار الضحية التي تساوم على حقها حتى الفناء.

5. دروس ماو تسي تونغ: الثبات على الهدف

لهذا السبب قال ماو تسي تونغ لأول وفد من حركة فتح زار الصين في أواخر ستينيات القرن الماضي، بعدما عرضوا عليه هدفهم التحرري بتفكيك الكيان الاستعماري الصهيوني العنصري وبناء دولة ديمقراطية يتعايش فيها الجميع بحرية ومساواة أمام القانون:

لم يتمن لهم أن يحققوا أهدافهم، بل تمنى لهم الثبات عليها.”

وقد تعجب أعضاء الوفد من عبارته، دون أن يدركوا مغزاها العميق: فالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي طويل الأمد وعابر للأجيال، والانتصار فيه مرهون بالثبات على الهدف وعدم تغييره تحت الضغط، مع قدرة كل جيل على تطوير استراتيجياته الخاصة لترجمة الهدف إلى خطط عملية، وجداول زمنية، وآليات تقييم موضوعية. فجوهر المعركة ليس في إعلان الأهداف، بل في الثبات عليها وتوريثها للأجيال مع مراكمة المنجزات.

6. المأساة الفلسطينية المتكررة

وهنا يكمن جوهر المأساة الفلسطينية: تاريخ يعيد نفسه لأن القيادات والنخب اعتادت إعادة صياغة الأهداف كلما اشتد الضغط، بدل أن تصمد عليها وتتمسك بها. تعديل المناهج والوسائل والاستراتيجيات في خدمة الهدف الثابت، كانت تغيّر الهدف نفسه. وهكذا تتحول الحقوق التاريخية إلى شعارات مؤجلة، والوعود إلى تسويات ناقصة، والمرحلية إلى استسلام مقنّع. وهكذا يفقد النضال تراكمه، وتبقى الأجيال تدور في حلقة مفرغة.

7. طوفان الأقصى: نقطة التحول التاريخية

لقد شكّل طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 نقطة تحوّل غير مسبوقة في معادلة الصراع الممتدة منذ أكثر من قرن. وسواء قصد مخططوه ذلك أم لم يقصدوا، فإن تضافر مجموعة من الظروف الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية، التي سبق تناولها في مقالات عدة، جعل منه لحظة مفصلية تؤسس لعصر جديد.

منذ تلك اللحظة باتت غزة، الصغيرة المحاصرة، معيارا عالميا لخيارات الشعوب: أي مستقبل تريد، وأي طريق تختار بين الاستسلام والتمرد. هذه اللحظة أعادت رسم خريطة التحديات والفرص، وجعلت من غزة نموذجا رمزيا وعملانيا في آن واحد، يوضح أن الإرادة الجماعية والمقاومة الشاملة يمكن أن تغيّر قواعد اللعبة حتى أمام أقوى القوى العالمية.

8. غزة: من القربان إلى سبارتاكوس العصر

واليوم تكسر غزة حلقات التاريخ الممتدة منذ خمسة قرون. فالعدو الصهيوني حسم خياره وقرر تصفية القضية الفلسطينية وإخضاع كامل الإقليم، في محاولة لوقف التراجع الذي يعيشه النظام الغربي الحداثي المادي المهيمن، الذي بلغ الذروة في عصر النيوليبرالية. لم تعد تداعياته التدميرية تستثني حتى مواطني الدول الغربية أنفسهم.

ومن أجل معالجة مأزقه البنيوي، يندفع النظام إلى الأمام محاولًا إخماد كل مقاومة، ومنع انبثاق النظام الدولي الجديد الذي يتبلور بخطى متسارعة.

وفي قلب هذا الصراع الكوني، تقف غزة الصغيرة المحاصَرة كعقدة لا تنكسر. لقد رفعت كلفة المواجهة إلى حدٍ غير مسبوق، وتحولت من كونها قربانا إلى أن تصبح سبارتاكوس العصر الجديد: المتمرد الضعيف المحاصر الذي أيقظ العالم على إمكانية المقاومة وفتح أفقا لإسقاط الإمبراطوريات وتغيير مجرى التاريخ.

هكذا خرجت غزة من دور الضحية إلى موقع الرمز العالمي للتمرد والحرية، لتصبح نموذجًا يحتذى به في الصمود والمقاومة الشاملة، وإشارة حية إلى أن الإرادة الوطنية يمكن أن تقف أمام أقوى القوى مهما كانت الظروف صعبة وقاسية.

9. الأدب والفكر: من التشخيص إلى أفق الانتصار

الأدب يصوّر الواقع ويجسّده، لكنه وحده لا يكفي. مهمة الفكر النقدي أعمق: أن يستخلص الدروس والتجارب، ويؤكد على الثبات على الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف، وأن يعتبر المقاومة الشاملة الطويلة النفس الطريق الوحيد لهزيمة الاستعمار.

هنا تكمن مسؤولية المفكرين والمثقفين: أن ينقلوا الشعوب من صورة القربان إلى أفق الانتصار. عليهم أن يربطوا بين الكلمة والفعل، بين الرؤية والتطبيق، لتصبح المقاومة ليست مجرد شعارات، بل استراتيجية حياة وتغيير.

بذلك، يتحول الأدب والفكر معا إلى أدوات عملية لفهم الواقع وتحديد المسار، مع الحفاظ على الهدف الوطني الثابت، وتوجيه الجيل الحالي والأجيال القادمة نحو تمكين الحرية والتحرير، بدل الانزلاق في حلقة مفرغة من المأساة والتسويات المؤقتة.

 

مشاركة: